ارتباط العمل بحقيقة الدين والدعوة .

تعد الفترة السابقة لمبعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ ق6 و7 م ] من أحلك القرون في تاريخ الجماعة الإنسانية وأكثرها ضلالاً وضياعاً، ولهذا استحقت المقت من الله تعالى، كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: {إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب}.
  1. أقسام العالم والنظم فيه

    فالعالم الأرضي كله يتخبط في ظلمات الأديان المحرفة، والوثنيات الكالحة، والأنظمة الطاغوتية، وكان هذا العالم ينقسم قسمين كبيرين:
    1- القسم البدائي.
    2- القسم المتحضر.
    أما القسم الأول: وهو يشمل الشعوب الهمجية التي تقطن غرب أوروبا ووسط آسيا وشرقها ومعظم إفريقية. فحاله غني عن الشرح والبيان، وهو إلى حياة السوائم أقرب منه إلى حياة البشر في كل مناحي الحياة.
    والنماذج الباقية منه الآن تعطي صورة مصغرة منه للحال التي كان عليها في ذلك الزمن الغابر.
    وأما القسم الأخير: فأبرز من يمثله الدولتان العظيمتان "فارس، والروم" وكلاهما كان يخضع لنظام طاغوتي استبدادي، ويدين بدين باطل محرف.
    فالفرس يدينون بـالمجوسية، والروم يدينون بالديانة التركيبية التي أسسها بولس وأظهرها قسطنطين باسم المسيحية.
    والنظام الاجتماعي في الدولتين كلتيهما من أبشع النظم في التاريخ من حيث التمييز العنصري والتفاوت الطبقي.
    وكان أعظم مظاهر الانحطاط في هذه الأمم -بل هو أصل الفساد كله- هو عبودية البشر للبشر، تلك العبودية التي نعاها عليهم منقذ الإنسانية رسول الله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كتابه لقيصر وواجه بها ربعي بن عامر قائد جيوش كسرى سواء العبودية لطواغيت الخرافة والتدين، أو طواغيت الحكم والتسلط، وفي واقع دولة أهل الكتاب التي هي خير ما على الأرض حينئذ ما يوضح ذلك.
    فالطبقات السفلى تعبد العليا، والكل يعبد الامبراطور، والدين يشرعه السَدَنة والأحبار والرهبان، والقوانين يسنها أباطرة والنبلاء، والجيوش الجرارة تحمي هذه الأنظمة الجائرة والأوضاع الظالمة أيما حماية، وما من مواطن إلا هو مستعد -طوعاً أو كرهاً- لإراقة دمه في سبيل ما أسموه شرف الامبراطور والوطن كما هو خاضع في عقيدته وتدينه لما يشرعه رجال الدين!!
    أما الشعوب الخاضعة لحكم هاتين الدولتين -ومنها سكان العراق والشام ومصر- فقد كانت ترزح تحت نير الاستبداد الغاشم، والجبروت القاهر، وحسبك أنهم كانوا كالعبيد لعبيد الامبراطورية.
    أما عقائدهم الدينية فيجب أن تكون تبعاً لما تقرره مجامع روما أو القسطنطينية، وإلا فالإبادة والاستئصال وقرارات اللعن والحرمان من الجنة.
    ويقرب من حال هاتين الدولتين ما كانت عليه الهند، إلا أن دينها أكثر إسفافاً، ونظامها الطبقي أشد بشاعة.
    وأما عرب الجزيرة خاصة، فهم في حياتهم القبلية وعاداتهم الراسخة أقرب إلى حال الشعوب الهمجية المذكورة في القسم الأول، لولا ما خصهم الله به من ميزات، إرهاصاً لحمل الرسالة العظمى إلى أمم الأرض قاطبة.
    والحاصل أن العالم البشري كله كان يعيش واقعاً رهيباً لا يتصور بأي حال من الأحوال إصلاحه من داخله، أي: من خلال حضارته وثقافته وحكمته.
    فالقسم المتحضر -خاصة- لم يكن مفلساً من ذلك، بل كانت له فلسفاته وثقافاته وتجاربه، وقد كان بين أيدي أممه من مأثورات: بوذا، وبيدبا، وأفلاطون، وأرسطو، وأردشير، وبزرجمهر، وأضرابهم الشيء الكثير.
    كما كان عند العرب من رصيد الحكم ومشهور الأمثال والعبر الذخر الوفير.
    فقد كان لديهم دعاة السلم الصارخون كـزهير، وأساطين الحكمة المجربون كـأكثم، والوعاظ المنذرون بسوء المصير مثل: قس بن ساعدة.
    ولكن هذا الواقع الضخم المظلم لم يكن ليتغير بالنظريات ولا بالحكم المجردة، بل إن النظريات الفلسفية خاصة لهي إحدى الدعامات الطاغوتية التي قام عليها هذا الواقع في مجال العقيدة والفكر.
    أما الحِكَم الأخلاقية، والعبارات التهذيبية، مهما نمّقها الحكماء، وأرسلها الخطباء، فهي أشبه بفقاعات في ذلك المحيط الهائج.
    هذا في العالم الممقوت، وأما بقايا أهل الكتاب المستمسكون بأثارة نبوية فهم من الندرة بمكان، ثم إنهم قابعون في زوايا النسيان والإهمال، ينتظرون رسول آخر الزمان بفارغ الصبر، أو ينتظرون ريب المنون ليخلصهم من هذا الواقع الأليم.
    وأما الباحثون عن الدين الحق -على ندرتهم- فمنهم من قتله اليأس والكمد، ومنهم من اعتنق بعض تلك الأديان لأنه لم يجد سواها ومنهم من كُتِبَ له الفوز فأدركه النور وانتشلته الرحمة الربانية وهو غارق في متاهات البحث.
    والمقصود: أن هؤلاء كانوا أعجز وأقل من أن يفكروا في إصلاح شيء من هذه الدنيا المائجة بالضلال والظلام.
    لقد كان العالم في أشد الحاجة إلى رحمة إلهية تنقذه من براثن الانهيار المحتوم.
    وجاءت هذه الرحمة في النور المبين الذي نزل على النبي الأمي محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ))[الأنبياء:107].
    نزل هذا النور ليزيح ذلك الواقع الكالح، ويرفع كابوسه عن الثقلين، ويقيم مكانه واقعاً يرضاه الله، وتطمئن له الفطرة، وترتاح إليه العقول، وتتحقق فيه الكرامة الإنسانية التي لا تتحقق أبداً إلا بالعبودية الخالصة لرب العالمين والانخلاع الكامل من عبودية المخلوقين.
    ومعنى هذا ومقتضاه أن تلك الامبراطوريات، وتلك المعتقدات، وتلك الأوضاع، والتقاليد، وتلك الأنظمة والقوانين، وتلك الفلسفات والثقافات، سوف تجتث من جذورها، وتستأصل من عروقها، سواء في واقع الأرض أو في واقع النفوس، وأن ما زوى الله لحبيبه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأرض سوف يتطهر من هذه الأرجاس والأدران ويستضيء بنور الهدى والفرقان.
    ومعنى هذا: أن تلك الجيوش الامبراطورية الجرارة التي عجز بعضها عن سحق بعض، لا بد أن يظهر مقابلها جيش إيماني يسحقها جميعاً.
    ومن معناه كذلك: أن نفوس الملايين من البشر الذين توارثوا تلك الضلالات والخرافات، وأشربوا في قلوبهم آثارها المدمرة، لابد لها من تزكية ربانية تحرق الشبهات، وتحطم الشهوات، وتستأصل الأمراض المتغلغلة، والضغائن المتأصلة، والالتواءات النفسية العميقة.
    وهذا عمل ضخم هائل، لا يدرك حقيقة ضخامته إلا من أدرك ضخامة هذا الواقع الأرضي الثقيل الطاغي في مقابل رجل واحد، ثم قاس ذلك بمعاناة الأنبياء السابقين -صلوات الله وسلامه عليهم- مع أممهم.
    فهذا نوح عليه السلام يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً بنص القرآن، ثم لا يؤمن معه إلا قليل بنص القرآن أيضاً، وهذا القليل -مع اختلاف الأقوال في تحديده- لم ينقل أنه زاد عن مائة نفس
    وكثير من الرسل بعده كانوا كذلك، بل كان منهم من لم يتبعه إلا الرجل والرجلان، ومنهم من لم يتبعه أحد .
    وهذا وهم إنما بعثوا إلى أقوامهم خاصة، فكيف بمن بعث للثقلين عامة، وأمر بمجاهدة الدنيا قاطبة، كما ورد في الحديث العظيم الجامع الذي رواه عياض بن حمار رضي الله عنه ومنه: {وإن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب، وقال: إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء، تقرؤه نائماً ويقظان، وإن الله أمرني أن أحرق قريشاً، فقلت: رب إذاً يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك}
    إن هذا الحديث يعطي فيما يعطي من دلالات: اعتبار ذلك الواقع الضخم ومراعاته، وكذلك ضخامة التكليف وعبء الحمل، كما يوضح مع ذلك كيف تلتقي السنن الربانية -ومنها سنة اشتراط الجهد البشري وابتلاء بعض الناس ببعض- مع سنة العهد الرباني بنصر أوليائه وإن طال الابتلاء، فهما مقترنتان متضافرتان تعملان عملاً واحداً في النهاية.
  2. علاقة العمل بالإيمان من خلال الواقع

    وهنا نحتاج أن نقف وقفة طويلة لنستجلي علاقة الإيمان بالعمل، والعقيدة بالحركة، من خلال مسيرة هذا الدين الواقعية ووجوده المادي في الأرض.
    إن الإعداد لتلك المهمة الضخمة -المشار إليها- يبدو ظاهراً جلياً في كل مرحلة من مراحل الدعوة، بل في كل خطوة من خطواتها، فالأمر كله جد ونصب، وكله صبر وابتلاء.
    1- فمنذ اللحظة الأولى لنزول هذا الدين تأتي الشدة والإجهاد في معاناة تلقي الوحي، وتبدأ المخاوف والنذر الثقيلة لمستقبل من يحمله.
    فقد روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: { أن أول ما بُدئ به الرسول من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بـغار حراء فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء. فجاءه الملك، فقال: اقرأ, فقلت: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ, فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني، فقال: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ))[العلق:1-3] فرجع بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لـخديجة -وأخبرها الخبر-: لقد خشيت على نفسي، فقالت خديجة: كلا، والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى -ابن عم خديجة- وكان امرأً تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي.
    فقالت له خديجة: يابن عم، اسمع من ابن أخيك.
    فقال له ورقة: يابن أخي، ماذا ترى؟
    فأخبره رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبر ما رأى.
    فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نَزَّل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك.
    فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو مخرجي هم؟
    قال: نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي
    } .
    فمن المعاناة الصعبة في تلقي الوحي إلى السنة الربانية "لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي" ؛ جاء الإيذان بأمر عظيم منتظر.
    2- ثم بعد فترة الوحي هذه -التي هي كأنما هي فترة استقرار لروع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد تلك المفاجأة الكبرى- تأتي خطوة -أو جولة- أخرى تحدث عنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائلاً: { بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري، فإذا الملك الذي جاءني بـحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه فرجعت فقلت: زملوني، فأنزل الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ))[المدثر:1-5] الآيات }.
    وهي آيات كلها -كما ترى- أوامر سريعة متلاحقة، تأمر بالمبادرة والمفاصلة والصبر، وتنقل صاحب الشأن من هدأة الروع النفسي إلى ميدان الإنذار الأكبر للعالم أجمع.
    ومنذ أن نزلت ((قُمْ فَأَنْذِرْ))[المدثر:2] قام صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قياماً جهادياً متواصلاً دائباً، نازل به قومه والعرب قاطبة، واليهود ثم الامبراطورية الرومانية...
    فكان كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وكتب الذل والصغار على من خالفني..} سبق تخريجه قريباً.
    3- بعد ذلك -وما هو منه ببعيد- نزل الأمر بالقيام مرة أخرى ومعه مهام جديدة، فقد نزل مطلع سورة المزمل: ((يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً * وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً * إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالاً وَجَحِيماً))[المزمل:1-12] الآيات.
    وهذه السورة تعطي -أبرز ما تعطي- الزاد الأصيل الذي لابد منه لمن يريد حمل هذه الدعوة ومقارعة العالمين بها، ذلك هو زاد الصلة القوية بالله، والتزكية الروحية بالتقرب إليه، ومناجاته في أرجى ساعات المناجاة وأصفاها.
    وامتثل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كالعادة- وتزود بهذا الزاد الزكي، وشاركه في ذلك صحبه الكرام.
    فقد روى الإمام أحمد ومسلم رحمهما الله من حديث سعد بن هشام -ضمن قصة جديرة بالاطلاع أنه سأل عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن قيام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت له: {ألست تقرأ يا أيها المزمل؟
    قلت: بلى، قالت: فإن الله عز وجل افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام نبي الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه حولاً، وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهراً في السماء حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف، فصار قيام الليل تطوعاً بعد فريضة
    }.
    وفي روايات لغيرهما أنهم قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم أو انتفخت ثم إن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استمر على ذلك -التزاماً من عند نفسه- فكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة: لم تصنع هذا يا رسول الله! وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟
    قال: {أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً} .
    4- وصدع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالدعوة، وسفه أحلام المشركين، وعاب آلهتهم، فثارت عليه قريش ثورة رجل واحد، وأثارت معها العرب قاطبة، ولقي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأذى والبلاء صنوفاً وألواناً من ذلك ما رواه عروة بن الزبير رضي الله عنه حين قال: {سألت ابن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: بينا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه على عنقه، فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل إليه أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله }
    5- ومشهد آخر للأذى التي تتورع عنه النفوس الطاغية الدنيئة يرويه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ وهو: {أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس؛ إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فجاء به، فنظر حتى إذا سجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وضعه على ظهره بين كتفيه -وأنا أنظر لا أغني شيئاً، لو كانت لي منعة!- قال: فجعلوا يضحكون ويحيل -أو يميل- بعضهم على بعض}.
    6- هذا عدا الأذى الأكبر الحاصل من تكذيبه وهو الناصح الأمين، والإعراض عنه وهو النذير المبين بين يدي عذاب شديد، وعدا ما افتراه عليه قومه ونبزوه من ألقاب الزور؛ كقولهم: إنه شاعر أو كاهن أو ساحر أو مجنون، أو يتلقى الوحي عن بعض الأعجمين، أو اكتتبه من أساطير الأولين وأعانه عليه قوم آخرون، وغير ذلك مما حكاه الله عنهم في كتابه العزيز، وهو بلا شك أشد وقعاً على النفوس البريئة من ضرب السيوف ووقع النبال.
    ولهذا طمأنه ربه وصبره وسلاه، فقال: ((فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً))[الكهف:6] أي: مهلكها بالحزن والأسف.
    وقال: ((أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ))[فاطر:8].
    وقال: ((قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ))[الأنعام:33].
    7- وقد حدّث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن مشهد من مشاهد الأسى القاتل والأسف البالغ حين يبلغ الحد بالإنسان أن ينسى نفسه في غيبوبة الهم والحزن، قالت عائشة رضي الله عنها: {يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟
    قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل ابن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بـقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال فسلم عليّ، ثم قال: يا محمد! فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً
    } .
    8- وقد عانى أصحابه -رضي الله عنهم- أشد المعاناة، وما تعذيب آل بلال وآل ياسر إلا نماذج من ذلك، بل إن الأذي ليصل إلى أشراف القوم من أمثال الصديق رضي الله عنه .
    ومع ذلك كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينفث في أرواحهم الأمل، ويذكرهم بسنة الله في أنبيائه والدعاة إليه على النحو الذي رأيناه مع ملك الجبال.
    فقد روى البخاري في (باب ما لقي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه من المشركين) عن خباب رضي الله عنه قال: {أتيت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة -وقد لقينا من المشركين شدة- فقلت: يا رسول الله! ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو محمر وجهه فقال: لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله -زاد بيان- والذئب على غنمه} .
    9- وبلغ الأذى قمته في الحصار المادي والمعنوي الذي ضربته قريش ظلماً وعدواناً على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه ومن عطف عليهم من قرابتهم .
    قال الزهري: ''ثم إن المشركين اشتدوا على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ المسلمين الجهد، واشتد عليهم البلاء، واجتمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علانية.
    فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب وأمرهم أن يدخلوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شعبهم ويمنعوه ممن أراد قتله، فاجتمعوا على ذلك مسلمهم وكافرهم, فمنهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيماناً ويقيناً، فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واجتمعوا على ذلك، اجتمع المشركون من قريش، فأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ولا يبايعوهم ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للقتل، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهوداً ومواثيق؛ لا يقبلوا من بني هاشم أبداً صلحاً، ولا يأخذهم بهم رأفة حتى يسلموه للقتل .
    فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم البلاء والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركوا طعاماً يقدم مكة ولا بيعاً إلا بادروهم إليه فاشتروه؛ يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..''
    ثم ذكر تخوف أبي طالب من اغتيال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما دبر لدرء ذلك من الحماية وما أصاب المسلمين من الجهد.
    وقال ابن إسحاق: ''ثم عدوا على من أسلم فأوثقوهم وآذوهم، واشتد البلاء عليهم، وعظمت الفتنة، وزلزلوا زلزالاً شديداً -وذكر ما بلغ بهم من الجهد الشديد- حتى كان يسمع أصوات صبيانهم يتضاغون من وراء الشعب من الجوع''.
    قال السهيلي: ''في الصحيح أنهم جهدوا حتى كانوا يأكلون الخبط وورق السمر، حتى إن أحدهم يضع كما تضع الشاة '' .
    10- وصل الأمر إلى حد أن المؤمنين لا يستطيعون دعوة الناس إلى الله، ولا يستطيع الداخل في الإسلام حديثاً أن يجاهر بذلك، كما يتجلى في قصة إسلام أبي ذر التي رواها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: {لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله ثم ائتني.
    فانطلق الأخ حتى قدمه، وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاماً ما هو بالشعر.
    فقال: ما شفيتني مما أردت.
    فتزود وحمل شنة له فيها ماء حتى قدم مكة، فأتى المسجد فالتمس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يعرفه، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه بعض الليل، فرآه علي فعرف أنه غريب، فلما رآه تبعه فلم يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء حتى أصبح! ثم احتمل قربته وزاده إلى المسجد، وظل ذلك اليوم ولا يراه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى أمسى، فعاد إلى مضجعه، فمر به علي فقال: أما آن للرجل أن يعلم منزله؟ فأفاق فذهب به معه لا يسأل واحد منهما صاحبه عن شيء.
    حتى إذا كان يوم الثالث فعاد علي على مثل ذلك، فأقام معه ثم قال: ألا تحدثني ما الذي أقدمك؟ قال: إن أعطيتني عهداً وميثاقاً لترشدنني فعلت! ففعل فأخبره، وقال: فإنه حق، وهو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا أصبحت فاتبعني فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي.
    ففعل، فانطلق يقفوه حتى دخل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودخل معه، فسمع من قوله وأسلم مكانه.
    فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري.
    قال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم قام القوم فضربوه حتى أوجعوه، وأتى العباس فأكب عليه، قال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار؟! وأن طريق تجارتكم من الشام عليهم؟ فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه وثاروا إليه، فأكب العباس عليه
    }
    هكذا كانت المعاناة وكان الجهاد قبل الهجرة، بل قبل نزول الفرائض.
    وهنا لا بد من وقفة سيأتي لها مزيد بيان:
    إن بعض السلف يحمل قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة} ونحوه من النصوص والروايات المطلقة على أن ذلك قبل نزول الفرائض وذلك ليردوا على المرجئة في قولهم: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان، مستدلين بمثل هذه النصوص، وهذا أحد أوجه الرد عليهم، غير أنه لا يعني أن هؤلاء السلف كانوا يظنون أن الإيمان قبل نزول الفرائض كان مجرداً عن العمل، مقتصراً على تصديق القلب وقول اللسان، فهذا ما لا يجوز أن يظن بهم وهم أعرف الناس بمعنى لا إله إلا الله وأعلمهم بهذه المعاناة الكبرى والواجبات الثقيلة التي تلقاها المؤمنون الأولون -وعلى رأسهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل نزول الفرائض، وهو ما أفاض القرآن المكي في الحديث عنه تثبيتاً وتسلية وتوجيهاً وتذكيراً.
    إن شهادة أن لا إله إلا الله لم تكن مجرد كلمة تقال باللسان، ولا يمكن أن تكون كذلك في أي مرحلة من مراحل الدعوة، فضلاً عن مرحلة التأسيس التي هي أشق المراحل وأهمها، وإلا فما معنى تلك المعاناة القاسية وما موجبها؟!
    وإنما كانت هذه الشهادة نقلة بعيدة ومعلماً فاصلاً بين حياتين لا رابطة بينهما: حياة الكفر وحياة الإيمان، وما يستلزمه ذلك من فرائض وتعبدات، ومشقات أعظم وأكبر من فريضة الصلاة والزكاة ونحوها.
    1- من ذلك: فريضة التلقي الكامل عن الله ورسوله، ونبذ موازين الجاهلية وقيمها وأخلاقها وأعرافها وتشريعاتها.
    2- ومن ذلك: الولاء المطلق لله ورسوله، والعداء الصارم للكفار ولو كانوا آباءً وإخواناً وأزواجاً وعشيرة.
    3- ومن ذلك: فريضة الصبر على الأذى في الله، الذي لا تطيقه إلا نفوس سمت إلى قمة تحمل الفرائض والواجبات، حتى إن الواحد ليكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار.
    وهذا ونحوه ما كان يعانيه بلال وهو يُسحب في رمضاء مكة وتلقى عليه الأثقال، وما يكابده سعد وهو يرى أمه تتلوى جوعاً، فيقسم لها لو أن لها مائة نفس فتظل تخرج نفسًا نفسًا حتى تهلك لما رجع عن دينه، وما كان آل ياسر يلقونه وهم يتعرضون لأعظم بلاء تشهده أسرة مضطهدة، وهو ما واجه أبو ذر حين صاح أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وغير ذلك كثير وكثير مما كان قبل أن تنـزل الفرائض!
    إن في إمكان الإنسان أن يصلي ما شاء الله له، وينفق بما شاء الله له دون أن يناله كبير مشقة، ولكن أي إنسان هذا الذي يستطيع أن يخالف عادة اجتماعية درج عليها المجتمع والأقارب أجيالاً، ويتحدى هؤلاء بمخالفتها؟
    أو يستطيع أن يقلع عن عادة نفسية وصلت به حد الإدمان؟
    فما بالك إذا كان الأمر ليس مجرد مخالفة عادة أو تقليد، وإنما هو مفاصلة كاملة ومنابذة تامة لكل عبادة جاهلية وقيمة جاهلية وعرف جاهلي وميزان جاهلي، ثم هو مع ذلك زجر قاطع للنفس عن شهواتها وملذاتها , ومراقبة شديدة لها، ولهذا رأينا النماذج الكثيرة في الجيل الأول ممن يشهد أن لا إله إلا الله فيعود من فوره إلى بيته ليحطم الأصنام التي طالما عبدها وليقطع العلائق التي طالما وثقها .
    إنه حتى على المنطق الجاهلي لا يصح أن نتصور إيماناً بدون تكاليف، وشهادة بلا أثر في واقع الحياة، وإلا أفكان الجاهليون يقتلون مواليهم ويعذبون أبناءهم وإخوانهم ويقطعون أرحامهم لمجرد كلمة تقال باللسان أو نظرية ذهنية في المعرفة؟
    11- وهكذا كانت كل خطوة من خطوات الدعوة تسير على الشوك والأذى، حتى كانت الخطوة الفاصلة بالهجرة إلى المدينة، فاكتنفها من المصاعب والشدائد ما هو أشهر من أن يذكر، فقد كانت عيون قريش تلاحقه ورصدها يطارده، حتى قلبوا الجبال والمغارات إلى أن وقفوا على الغار نفسه الذي كمن فيه هو وصاحبه، وكانوا من العثور على فريستهم قاب قوسين أو أدنى.
    قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: {كنت مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الغار فرأيت آثار المشركين، قلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قدمه -وفي رواية أحمد: نظر إلى قدميه- رآنا، قال: ما ظنك باثنين الله ثالثهما } .
    ومع اليقين في وعد الله بالحفظ والتمكين لم ينس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السنة الشرعية، فقد كانت هناك خطة محكمة فريدة تتمثل في اختيار الغار وتضليل المشركين بجهته، ثم كان ما تحدثت عنه عائشة رضي الله عنها بقولها: {ثم لحق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بـغار في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليال، يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر وهو غلام شاب ثـقـف لقن، فيدلج عندهما بسحر، فيصبح مع قريش بـمكة كبائت، فلا يسمع أمراً يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام.
    ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل -وهو لبن منحتهما ورضيفهما- حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث.
    واستأجر رسول الله صلى الله عليه سلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهم طريق السواحل
    }.
    وبقدر ما كانت الهجرة إلى المدينة ووضع نواة الدولة الإسلامية خلاصاً للدعوة، وخروجاً بها من مأزق الجمود والحصار الذي كان مضروباً عليها بـمكة, كانت -أيضاً- بداية لمصارعة قوى جديدة، والعمل في محيط لا يقل عداء وصعوبة عن مكة، وإن تغير الموقف في الظاهر.
    فقد كان على الدعوة أن تصارع العرب المشركين قاطبة -وليس قريشاً وحدها- واليهود -أمكر خلق الله وأحقدهم- والمنافقين -ذلك العدو الأرقط الجديد- وأن تحسب الحساب -أيضاً- لمجابهة الدولتين العظميين فارس والروم. وهذا يستدعي تكاليف باهظة وتبعات جديدة.
    هذا كله وهو إلى جانب العبء الأساسي وهو تزكية هذه الجماعة المؤمنة، وإيجاد الترابط الإيماني المنشود بينهما، وإعدادها لحمل الأمانة العظمى.
    ومنذ أن حمل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده الشريفة اللبن لبناء المسجد لم يزل بانياً لصرح ما شهد العالم الأرضي مثله حتى لقي ربه، فقد بنى -بأمر ربه وإذنه- أمة فذة ودولة فريدة تتقاصر دونهما أحلام الحكماء وتخيلات الشعراء.
    لقد كانت الجماعة الأولى فذة في تركيبها ومنهجها ونموها وحركتها، كل ذلك لأن عين الله تعالى ترعاها ووحيه يربيها ويزكيها.
    لكن كيف كانت التزكية؟
    أهي الأوامر والنواهي وحدها؟
    أم التصورات الاعتقادية المجردة؟!
    كلا بل كانت حلقات قاسية من المعاناة والتربية بالأحداث والتجارب والفتنة والابتلاء.
    12- فبعد سنة ونصف -تقريباً- من بناء المسجد كانت معركة بدر، وهي أعظم وأعمق الأحداث في تلك المرحلة، بل ربما كانت أول مواجهة حربية بين كتيبة الإيمان وجيوش الشرك منذ المعركة التي خاضها طالوت وداود مع جالوت وجنوده وهذا يعطيها قيمة كونية كبرى.
    وليس المجال هنا مجال الحديث عن بدر وفضل من شهدها وقيمتها العظيمة تلك، وإنما المراد أن نقول: ''إنه مع كل عظمة هذه الغزوة فإن قيمتها لا تتضح أبعادها الحقيقية إلا حين نعرف طبيعتها، وحين نراها حلقة من حلقات الجهاد في الإسلام، وحين ندرك بواعث هذا الجهاد وأهدافه، كذلك نحن لا ندرك طبيعة الجهاد في الإسلام وبواعثه وأهدافه قبل أن نعرف طبيعة هذا الدين ذاته" .
    إن هذه المعركة هي بداية مرحلة عليا من مراحل الجهاد، وهي مرحلة ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ))[البقرة:193] .
    ومن مراحل الجهاد المتدرجة -ومن هذه المرحلة خصوصاً- تتجلى سمات أصيلة وعميقة في هذا المنهج الحركي لهذا الدين استنبط الأستاذ سيد قطب رحمه الله منها أربعاً:
    * '' السمة الأولى: هي الواقعية الجديدة في منهج هذا الدين.
    فهو حركة تواجه واقعاً بشرياً، وتوجهه بوسائل مكافئة لوجوده الواقعي، إنها تواجه جاهلية اعتقادية تصورية تقوم عليها أنظمة واقعية عملية تسندها سلطات ذات قوة مادية.
    ومن ثم تواجه الحركة الإسلامية هذا الواقع بما يكافئه، تواجهه بالدعوة والبيان لتصحيح المعتقدات والتصورات، وتواجهه بالقوة والجهاد لإزالة الأنظمة والسلطات القائمة عليها، تلك التي تحول بين جمهرة الناس وبين التصحيح بالبيان للمعتقدات والتصورات، وتخضعهم بالقهر والتضليل وتعبدهم لغير ربهم الجليل ''.
    وإذا كانت هذه الحركة لا تكتفي بالبيان في وجه السلطان المادي، فكيف يتصور بحال من الأحوال أن تكون نظرية حبيسة داخل عقول أصحابها ويكونون مع ذلك مؤمنين بها حقاً؟!
    * '' السمة الثانية: في منهج هذا الدين هي الواقعية الحركية.
    فهو حركة ذات مراحل، كل مرحلة لها وسائل متكافئة لمقتضياتها وحاجاتها الواقعية، وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها، فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة، كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة.... ''
    فهو ليس حركة وعملاً وحسب بل حركة دائبة وعمل متجدد.
    '' * والسمة الثالثة: هي أن هذه الحركة الدائبة والوسائل المتجددة لا تخرج هذا الدين عن قواعده المحددة، ولا عن أهدافه المرسومة.
    فهو منذ اليوم الأول -سواء وهو يخاطب العشيرة الأقربين، أو يخاطب قريشاً، أو يخاطب العرب أجمعين، أو يخاطب العالمين- إنما يخاطبهم بقاعدة واحدة، ويطلب منهم الانتهاء إلى هدف واحد وهو إخلاص العبودية لله والخروج من العبودية للعباد لا مساومة في هذه القاعدة ولا لين، ثم يمضي إلى تحقيق هذا الهدف الواحد في خطة مرسومة ذات مراحل محددة، لكل مرحلة وسائلها المتجددة، على نحو ما أسلفناه في الفقرة السابقة '' .
    إن الجهاد من حيث هو قمة العمل في الإسلام وذروة سنامه ليكشف لنا بصدق وواقعية عن طبيعة هذا الدين، ومهمته في الأرض، وأهدافه العليا التي أراد الله تحقيقها في عالم الثقلين، ولقد سبق أن ألمحنا بإيجاز عن حالة العالم الإنساني في فجر الرسالة، وأشرنا إلى العبودية التي كانت البشرية تمارسها للطواغيت والأهواء والأحبار والرهبان، وهذا ما يشير لنا إلى مهمة هذا الدين وأهدافه التي كان الجهاد أحد -أو أبرز- وسائل تحقيقها.
    ''إن هذا الدين إعلان إلهي عام لتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد ومن العبودية لهواه أيضاً -وهي من العبودية للعباد-، وذلك بإعلان ألوهية الله وحده سبحانه وربوبيته للعالمين.
    إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصور، أو بتعبير آخر مرادف: الألوهية فيه للبشر في صورة من الصور، ذلك أن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر يجعل بعضهم لبعض أرباباً من دون الله.
    إن هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان الله المغتصب ورده إلى الله وطرد المغتصبين له , الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم، أو يرسمون لهم مناهج للتعبد والتقرب غير ما شرعه الله فيقومون منهم مقام الأرباب ويقوم الناس منهم مقام العبيد، إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض، أو بالتعبير القرآني الكريم:
    ((وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ))[الزخرف:84].
    ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ))[يوسف:40].
    ((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ))[آل عمران:64].
    وقيام مملكة الله في الأرض وإزالة مملكة البشر وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد ورده إلى الله وحده، وسيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية، كل ذلك لا يتم بمجرد التبليغ والبيان، لأن المتسلطين على رقاب العباد، المغتصبين لسلطان الله في الأرض، لا يسلمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان، وإلا فما كان أيسر عمل الرسل في إقرار دين الله في الأرض، وهذا عكس ما عرفه تاريخ الرسل صلوات الله وسلامه عليهم وتاريخ هذا الدين على مر الأجيال ''.
    بل حتى الأفراد أنفسهم وهم الذين عبَّدوا أنفسهم لغير الله من الأوثان والطواغيت المختلفة ليس لدى أكثرهم استعداد لترك ما ألفته النفس وسار عليه الآباء والأجداد ويعيش عليه المجتمع كله لمجرد التبليغ والبيان، بل إن ما في نفوسهم من حواجز الكبر والعناد والتمرد لا يقل عن الحواجز الضخمة التي يضعها البشر المتألهون دون شعوبهم المستعبدة.
    وإزاء هذه الاعتبارات فإن '' هذا الإعلان العام لتحرير الإنسان في الأرض من كل سلطان غير سلطان الله وإعلان ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين، لم يكن إعلاناً نظرياً فلسفياً سلبياً، إنما كان إعلاناً حركياً واقعياً وإيجابياً، إعلاناً يراد له التحقيق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله، ويخرجهم -بالفعل- من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك، ويظل يحرسهم من الانحراف ويسددهم للاستقامة على العبودية الخالصة لله وحده, ومن ثم لم يكن بد من أن يتخذ شكل الحركة إلى جانب شكل البيان، ذلك ليواجه الواقع البشري بكل جوانبه بوسائل مكافئة لكل جوانبه.
    والواقع الإنساني -أمس واليوم وغداً- يواجه هذا الدين بوصفه إعلاناً عاماً لتحرير الإنسان في الأرض من كل سلطان غير سلطان الله بعقبات اعتقادية تصورية، وعقبات مادية واقعية، وعقبات سياسية واجتماعية واقتصادية وعنصرية وطبقية، إلى جانب عقبات العقائد المنحرفة والتصورات الباطلة، وتختلط هذه بتلك وتتفاعل معها بصورة معقدة شديدة التعقيد.
    وإذا كان البيان يواجه العقائد والتصورات فإن الحركة تواجه العقبات المادية الأخرى، وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل الاعتقادية التصورية والعنصرية والطبقية والاجتماعية والاقتصادية المعقدة المتشابكة، وهما معاً -البيان والحركة- يواجهان الواقع البشري بجملته بوسائل مكافئة لكل مكوناته، وهما معاً لابد منهما لانطلاق حركة تحرير للإنسان في الأرض، الإنسان كله في الأرض كلها '' .
  3. ومن بدر ننتقل إلى أحد

    وفي أحد تتجلى طبيعة هذا الدين، وحقيقة الإيمان الذي جاء به في جانبي العمل الإيماني كليهما: عمل القلب وعمل البدن، فأما عمل الجوارح وجهادها خلال وقائع المعركة، فقد كانت التضحيات الكبرى والنماذج الفذة في المصابرة والمناجزة، كما كانت البطولات الرائعة والجراح العميقة التي تحدثت عنها مصادر السيرة الصحيحة والتي ستظل الأجيال وراء الأجيال تستمد منها الوقود لجهاد لا يعرف اليأس، وصبر لا يعرف الوهن.
    ولكن الجانب الأعظم في دروس هذه الغزوة -لا سيما بالنسبة لموضوعنا- هو جانب عمل القلب، وهو الجانب الذي يكشف عن حقيقة معركة هذا الدين وطبيعة سيره وفق سنة الله الثابتة التي لا يصح إغفالها أو تناسيها في أي عصر ولدى أي دعوة.
    '' إن معركة أحد لم تكن معركة في الميدان وحده، إنما كانت معركة كذلك في الضمير، كانت معركة ميدانها أوسع الميادين، لأن ميدان القتال فيها لم يكن إلا جانباً واحداً من ميدانها الهائل الذي دارت فيه، ميدان النفس البشرية وتصوراتها ومشاعرها وأطماعها وشهواتها ودوافعها وكوابحها على العموم.
    وكان القرآن هناك يعالج هذه النفس بألطف وأعمق، وبأفعل وأشمل ما يعالج المحاربون أقرانهم في النزال!
    وكان النصر أولاً وكانت الهزيمة ثانياً، وكان الانتصار الكبير فيها بعد النصر والهزيمة، انتصار المعرفة الواضحة والرؤية المستنيرة للحقائق التي جلَّاها القرآن، واستقرار المشاعر على هذه الحقائق، واستقرار اليقين، وتمحيص النفوس، وتمييز الصفوف، ووضوح سمات النفاق وسمات الصدق في القول والفعل، وفي الشعور والسلوك، ووضوح تكاليف الإيمان وتكاليف الدعوة إليه والكرة به، مقتضيات ذلك كله من الاستعداد بالمعرفة والاستعداد بالتجرد والاستعداد بالتنظيم والتزام الطاعة والاتباع بعد هذا كله، والتوكل على الله وحده في كل خطوة من خطوات الطريق، ورد الأمر إلى الله وحده في النصر والهزيمة وفي الموت والحياة، وفي كل أمر وفي كل اتجاه ''.
    ولقد أنزل الله تعالى لبيان ذلك كله وعلاجه وتقريره ستين آية من سورة آل عمران آيات مفصلات تبين حقيقة الإيمان ومقتضياته، وارتباط النصر أو الهزيمة بجزئياته التي قد لا يحسب لها كثير من الناس بل من الدعاة حساب.
    ومن ثم لم يقف سياق هذه الآيات عند حدود المعركة القتالية ودروسها الحية، بل تعرض بوضوح وتفصيل لأعمال إيمانية كثيرة، ذلك أن '' القرآن كان يعالج الجماعة المسلمة على أثر معركة -لم تكن كما قلنا- معركة في ميدان القتال وحده، إنما كانت معركة في الميدان الأكبر، ميدان النفس البشرية وميدان الحياة الواقعية، ومن ثم عرج على الرِّبا فنهى عنه، وعرج على الإنفاق في السراء والضراء فحض عليه، وعرج على طاعة الله ورسوله فجعلها مناط الرحمة، وعرَّج على كظم الغيظ والعفو عن الناس، وعلى الإحسان والتطهر من الخطيئة بالاستغفار، والتوبة وعدم الإصرار، فجعلها مناط الرضوان.
    كما عرج على رحمة الله المتمثلة في رحمة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولين قلبه، وعلى مبدأ الشورى وتقريره في أحرج الأوقات، وعلى الأمانة التي تمنع الغلول، وعلى البذل والتحذير من البخل في نهاية ما نزل في التعقيب على هذه الغزوة من آيات...
    عرج على هذا كله لأنه مادة إعداد الجماعة المسلمة للمعركة الكبرى في نطاقها الواسع، الذي يتضمن المعركة الحربية في إطاره ولا يقتصر عليها، معركة التعبئة الكاملة للانتصار الكبير، الانتصار على النفس والشهوات والمطامع والأحقاد، والانتصار في تقرير القيم والأوضاع السليمة لحياة الجماعة الشاملة.
    وعرج على هذا كله ليشير إلى وحدة هذه العقيدة في مواجهة الكينونة البشرية ونشاطها كله، ورده كله إلى محور واحد، محور العبادة لله والعبودية له والتوجه إليه في حساسية وتقوى، وإلى وحدة منهج الله في الهيمنة على الكينونة البشرية كلها في كل حال من أحوالها، وإلى الترابط بين جميع هذه الأحوال في ظل هذا المنهج، وإلى النتائج النهائية للنشاط الإنساني كله، وتأثر كل حركة من حركات النفس وكل جزئية من جزئيات التنظيم في هذه النتائج النهائية.
    وإذن فهذه التوجيهات الشاملة ليست بمعزل عن المعركة، فالنفس لا تنتصر في المعركة الحربية إلا حين تنتصر في المعارك الشعورية والأخلاقية والنظامية، والذين تولوا يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا من الذنوب، والذين انتصروا في معارك العقيدة وراء أنبيائهم هم الذين بدأوا المعركة بالاستغفار من الذنوب، والالتجاء إلى الله، والالتصاق بركنه الركين.
    والتطهر من الذنوب إذن، والالتصاق بالله، والرجوع إلى كنفه من عدة النصر وليست بمعزل عن الميدان، واطراح النظام الربوي إلى النظام التعاوني من عدة النصر، وكظم الغيظ والعفو عن الناس من عدة النصر، فالسيطرة على النفس قوة من قوى المعركة، والتضامن في المجتمع والتسامح قوة ذات فاعلية كذلك '' إن هذه كلها شُعب من شُعب الإيمان التي يجب على الجماعة المؤمنة أن تستكملها لتكون أهلاً لنصر الله وتأييده، والحديث عن هذه الشعب ضمن الحديث عن المعركة وتقديرها ضمن دروس المعركة وتوجيهاتها يعطي أكبر الدلالة على حقيقة هذا الدين وحقيقة الإيمان، فإن تعليم هذه الأحكام وتقريرها حصل في جو الدماء والمعارك والمجاهدة، فما بالك بالالتزام بها وتنفيذها في واقع النفس والحياة، ولهذا قال جل شأنه: ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا))[العنكبوت:69].
    إن الإنسان ليشعر بالهوة الساحقة بين قمة الإيمان -هذه التي يبينها القرآن وتدل عليها سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحياة الجماعة المسلمة الأولى- وبين مستنقع النظريات الكلامية المجردة وهي تتحدث عن الإيمان في تجريد وغموض وأوهام وأخلاط، وإن الأمة التي تدع أخذ عقيدتها من كتاب ربها وسنة نبيها وواقع سيرته كي تأخذها من هذه النظريات السقيمة لهي جديرة بأن تكون على الحال الذي عليه أمة الإسلام اليوم وحسبك به حال.
    وأنه إذا كانت المخالفة الجزئية لخطة المعركة -كما وقع من الرماة- وتطلع بعض النفوس إلى الغنائم المادية، وتولي بعض الأفراد حين حمى الوطيس نذائر شؤم وأسباب هزيمة وخسارة، فما بالك بأمة تلقي كتاب ربها وراءها ظهرياً، وتعبد الدرهم والدينار، ولا يخطر على بالها جهاد قط، وتستحل الربا والغلول و...، و... , وتفعل ما تعرضت له هذه الآيات وما لم تتعرض له، ثم تستبطئ نصر الله الذي وعد به المؤمنين، وتحسب نفسها مؤمنة حق الإيمان، لأنها تصدق بقلوبها وتقر بلسانها، فهذا هو الإيمان كما علَّمته إياها كتب علم الكلام!
    إنها هوة كبيرة جداً بين هذا الإيمان الحي المتحرك الوثاب الذي يخطئ فيرى عقوبة خطيئته، ويصيب فيرى بركة استقامته، وبين تلك القضايا الذهنية الباهتة الباردة التي يتوهمها الكلاميون، والعواطف الغامضة المشوشة التي يتخرصها الصوفيون.
    وخير مثال لهذه الهوة، هو الهوة بين واقع الجيل الأول وواقع العصور المتأخرة عصور الإرجاء!
    وبعد أن تمثلنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو مكسور الثنية، مجروح الوجنة متردياً في حفرة يوم أحد، نتمثله الآن في يوم آخر وهو عاصب على بطنه من الجوع يضرب بالفأس، ويجرف بالمسحاة، ويحمل في المكتل، وينشد مع أصحابه:
    والله لولا الله ما اهتدينا            ولا تصدقنا ولا صلينا
    ويقول:
    اللهم إن العيش عيش الآخرة            فاغفر للأنصار والمهاجرة
    فيجيبونه:
    نحن الذين بايعوا محمداً            على الجهاد ما بقينا أبداً
    وذلك يوم الخندق، وما أدراك ما يوم الخندق؟!
    هذا اليوم الذي يضيف إلى دروس أحد دروساً جديدة، ويرسم معالم إيمانية جديدة أيضاً، ويعطي صفحة أخرى نقرأ فيها كيف أنه '' في معترك الحياة ومصطرع الأحداث كانت الشخصية المسلمة تصاغ، ويوماً بعد يوم وحدثاً بعد حدث كانت هذه الشخصية تنضج وتنمو وتتضح سماتها، وكانت الجماعة المسلمة التي تتكون من تلك الشخصيات تبرز إلى الوجود بمقوماتها وقيمها الخاصة وطابعها المميز بين سائر الجماعات.
    وكانت الأحداث تنهال على الجماعة الناشئة حتى لتبلغ أحياناً درجة الفتنة، وكانت فتنة كفتنة الذهب، تفصل بين الجوهر الأصيل والزبد الزائف، وتكشف عن حقائق النفوس ومعادنها فلا تعود خليطاً مجهول القيم''
    وكل ذلك إنما هو مقتضيات جديدة للإيمان، وتحقيق واقعي لزيادته التي ظل هذا الجيل يترقى فيها درجة بعد درجة حتى وصل إلى الكمال الذي لم يبلغه جيل مثله قط، فاستحق بذلك القوامة على العالمين، والثناء العظيم من رب العالمين.
    ولو أن إيمانهم وقف عند عقبة من عقبات الطريق الشاقة، أو تملص من فتنة من فتن التمحيص الحادة، لما تحقق لهم كل ما تحقق، بل ربما خسروا وخسرت الإنسانية كلها.
    ومع ما في الخندق من زيادات للإيمان جديدة، ودروس للبناء جديدة، فإنها كانت امتداداً طبيعياً لسنة الله في سير هذا الدين -كما ألمحنا إليها- وفي تزكية النفس الإنسانية به.
    ذلك أن الله تعالى لم ينزل القرآن بمواعظه وتزكيته على قوم محبوسين في الأديرة والصوامع، أو قابعين في زوايا الحياة، وإنما اقتضت حكمته أن تكون الموعظة والتزكية من خلال الابتلاءات والامتحانات المتكررة ''فقد علم الله أن هذه الخليقة البشرية لا تصاغ صياغة سليمة , ولا تنضج نضجاً صحيحاً، ولا تصح ولا تستقيم على منهج إلا بذاك النوع من التربية التجريبية الواقعية التي تحفر في القلوب , وتنقش في الأعصاب , وتأخذ من النفوس وتعطي في معترك الحياة ومصطرع الأحداث.
    أما القرآن فينزل ليكشف لهذه النفوس عن حقيقة ما يقع ودلالته، وليوجه تلك القلوب وهي منصهرة بنار الفتنة، ساخنة بحرارة الابتلاء، قابلة للطرق، مطاوعة للصياغة '' .
    ومن واقع أنفسنا اليوم نستدل على هذه الحقيقة؛ فنحن نقرأ آيات المعركة كما في سورة الأحزاب: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً))[الأحزاب:9-11] الآيات.
    نقرأها فنمر عليها مروراً عابراً، وإذا فسرها المفسرون منا فقد لا يزيدون على قولهم: (( إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ))[الأحزاب:10] أي: من جهتي المدينة، ((وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ))، أي: من الخوف، (( وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ )) أي: ارتفعت من شدة الخوف.. إلخ.
    أما أن نقف -ولو في الشعور- مثل ذلك الموقف الرهيب , والكرب الشديد، والأهوال المحدقة لنواجه أعداء الله ونعلي كلمته متأسين بذلك الجيل، فهذا ما لا يخطر على قلب كثير من المسلمين اليوم , وعلى رأسهم نحن المنتسبين للعلم الشرعي في كثير من الأحيان، والله المستعان.
    إن الحديث عن الإجهاد والمشقة والجوع والبرد والخوف الذي لقيه المؤمنون ليطول، وقد أفاضت فيه المصادر الصحيحة وهو ذو دلالة عظمى على ما نريد إيضاحه من قضية الإيمان ومقتضياته، ومع هذا لن نفيض فيها، وإنما نقتصر على جانب واحد من جوانب العبر الكبرى:
    وهو أن هذا الجيل الكريم هو من حيث التكوين النفسي بشر مثلنا ومثل سائر البشر؛ له مشاعره وعواطفه البشرية بما فيها من نقص وجزع وتأثر بالأحداث.
    ونحن نخطئ جداً حين نحسبهم غير ذلك فنفقد الأمل في التأسي بهم.
    ''لقد كانوا ناساً من البشر، وللبشر طاقة لا يكلفهم الله ما فوقها، وعلى الرغم من ثقتهم بنصر الله في النهاية، وبشارة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم؛ تلك البشارة التي تتجاوز الموقف كله إلى فتوح اليمن والشام والمغرب والمشرق . على الرغم من هذا كله، فإن الهول الذي كان حاضراً يواجههم كان يزلزلهم ويزعجهم ويكرب أنفاسهم.
    ومما يصور هذه الحالة أبلغ تصوير خبر حذيفة، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحس حالة أصحابه ويرى نفوسهم من داخلها فيقول: من رجل يقوم فينظر ما فعل القوم ثم يرجع -يشرط له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرجعة- أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة؟
    ومع هذا الشرط بالرجعة، ومع الدعاء المضمون بالرفقة مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجنة، فإن أحداً لا يلبي النداء!!
    فإذا عين حذيفة بالاسم قال: فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني.
    ألا إن هذا لا يقع إلا في أقصى درجات الزلزلة، ولكن كان إلى جانب الزلزلة وزوغان الأبصار وكرب الأنفاس , كان إلى جانب هذا كله الصلة التي لا تنقطع بالله، والإدراك الذي لا يضل عن سنة الله، والثقة التي لا تتزعزع بثبات هذه السنن وتحقق أواخرها متى تحققت أوائلها.
    ومن ثم اتخذ المؤمنون من شعورهم بالزلزلة سبباً في انتظار النصر، ذلك أنهم صدقوا قول الله سبحانه من قبل:
    ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ))[البقرة:214].
    وها هم يزلزلون، فنصر الله إذن منهم قريب! ومن ثم قالوا:
    ((هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً))[الأحزاب:22] '' .
    فقد زادهم إيماناً أن رأوا الأهوال تحدق بهم والأحزاب تتألب عليهم؛ ليقينهم أنه ما لم يكن ذلك الابتلاء والتمحيص فلا نصر، لأنه في الحقيقة لا إيمان يمكن الجزم به، بل هي دعاوى كل يقدر أن يدعيها، فإذا اجتاز المؤمن الابتلاء تحقق الإيمان، وإذا تحقق الإيمان تحقق النصر، هذه سنن ثابتة وحقائق ساطعة.
    وبعد هذا نطوي وقائع شاقة ومشاهد بليغة لنصل إلى يوم الحديبية وبيعة الرضوان، تلك التي كانت كسابقاتها امتحاناً شديداً للإيمان، ولكنه امتحان من نوع آخر!
    إنه امتحان القلوب المؤمنة التي جاشت بالحمية الإيمانية والغيرة لله ورسوله ودينه، واستقر في أعماقها صدق رسولها في وعده، وصدق وعد الله له، وإن كان هذا الوعد رؤيا في المنام -فرؤيا الأنبياء وحي- قلوب مفعمة باستعلاء الإيمان وعز الطاعة، تأبى أن يستضيمها عدو الله أو تنصاع لضغوطه في أي ميدان.
    ومع ذلك ترى في يومها ذاك أموراً تبدو مناقضة لهذا كله، فكانت أهوالاً وكروباً لا يسكن أمامها إلا قلب بلغ الغاية القصوى من الانقياد والتسليم لله ورسوله، والتجرد مما يخالف ذلك حتى وإن كان دافعه الغضب لله والحمية لدينه والاعتزاز بالإيمان به.
    كانت صدمة عنيفة لهذه الجماعة الراشدة الزاحفة أبداً إلى الأمام أن تواجه منعطفاً خطيراً يتشهى فيه الكافرون من الشروط، ويملونها عليها ثم ترى نبيها يقبلها بلا تحفظ.
    إن اكتمال الإيمان يقتضي مرحلة عليا من التربية، مرحلة تتعدى مراحل الحض والإيقاظ ورفع الهمم والعزائم إلى مرحلة تهذيب الحماس وتسكين الحمية الإيمانية، لتوافق الوحي في كل أمر وتنضبط عليه في كل حركة حتى وإن رأت أن موافقته شاقة، لا على حظ النفس فذاك أمر قد استأصلته التربية الوثابة، ولكن على إيمان القلب الثائر للحق.
    فلنتصور ما كانت عليه تلك القلوب من حماس وتوقد وغيرة واستعلاء بالإيمان، ثم لنتصور معه كيف تطيق رؤية المفاوض الكافر وهو يُصر على محو صفة الرسالة من اسم رسولها الكريم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويستجاب له؟!
    وكيف تطيق قبول هذه الشروط المجحفة المتعسفة مثل: أن يرجع هذا العام -وهو على مشارف الحرم- بلا عمرة ويعتمر من قابل، وأن من أتى المدينة مؤمناً مهاجراً يرد إلى مكة -لتعذبه وتضطهده- ومن ارتد من المهاجرين يعود إلى مكة آمناً؟!
    وكيف تتحمل رؤية المعذبين في الله كـأبي جندل يرسفون في الأغلال، ويستصرخون حميتها الإيمانية، فيردهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى معذبيهم التزاماً بشروط الصلح؟!
    وكيف تتحمل أن تحلق الرءوس وتنحر الهدي هنا في هذه البيداء، وهي إنما خرجت من المدينة واثقة مطمئنة إلى رؤية رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدخول البيت آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين لا يخافون؟!
    ويأتي ثاني رجل في هذه الأمة الزكية ليخاطب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتوقد وتحرق: { ألست رسول الله حقاً؟
    قال: بلى، قال: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟
    قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا إذن؟
    قال: إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري، قال: أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟
    قال: بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟
    قال: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به
    }
    ثم تكون نهاية هذا الموقف العصيب -بعد هدأة القلوب، وسكون العاصفة- أن ينزل الله تعالى على رسوله وهو قافل إلى المدينة:
    ((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً * هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً))[الفتح:1-4]
    فيبشر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه بها قائلاً: {نزلت عليَّ الليلة سورة هي أحب إليَّ من الدنيا وما فيها -أو قال: لهي أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس- }
    وكيف لا وفيها البشارة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفتح والمغفرة التامة والنعمة العظيمة والهداية القويمة، وللمؤمنين بالسكينة وزيادة الإيمان والوعد بالجنة؟!
    إن نزول السكينة وزيادة الإيمان بها لهو ثواب كريم على الإيمان السابق المتمثل في الثقة في الله والاستسلام لأمره مهما كان هول الموقف.
    وهكذا يرقى الإيمان ويسمو وترسخ قاعدة عظمى من قواعد فقه التزكية الإيمانية، وهي: أن من ثواب الإيمان حصول إيمان أعلى منه، ومن جزاء المعصية نقص الإيمان بمعصية أخرى، وهي قاعدة لم تثبت من خلال موعظة في مسجد ولا محاضرة في جامعة، وإنما في موقف مهول كهذا الموقف.
    ثم نطوي -كذلك- أحداثاً جِساماً ووقائع شاهدات لننـتقل إلى غزوة تبوك .
    إنها لبادرة فجائية كبرى في تاريخ الإنسانية أن يخرج جيش من قبائل العرب ينازل الامبراطورية الرومانية أكبر إمبراطوريات الأرض يومئذٍ عتواً وأكثرها حضارة، إنه لحدث ما كان العرب من قبل يحلمون به، ولا كان الروم يتوقعونه ولو في الخيال!
    وإن في هذا وحده لدلالة كبرى على الطبيعة الجهادية لهذا الدين، والحقيقة الإيمانية التي يبنيها في قلوب أتباعه.
    ولكن هناك دلالة أكبر من هذا وأعظم؛ ذلك أن هذه البادرة الكبرى ما هي إلا مظهر وثمرة لجهد داخلي عظيم، وخطوة على طريق هائل كبير لم يتوقف دفعة واحدة إلا على بلاط الشهداء وأسوار القسطنطينية.
    فالجماعة المؤمنة وصلت في آفاق التزكية الإيمانية وقمم الجهاد -بكل معانيه- إلى غاية لم تبلغها قبلها جماعة قط، وهذه الغزوة تمحيص نهائي وترقية عليا لها، واستئصال جذري للطفيليات المحسوبة عليها وليست منها.
    جيش قِوامه ثلاثون ألفاً لا يتخلف منه عن هذه الغزوة الشاقة المجهدة إلا ثلاثة نفر!
    ثم هؤلاء الثلاثة يتعرضون لمحنة رهيبة يصفها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأنها وصلت إلى حد أن: ((ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ))[التوبة:118].
    وتقتضي حكمة الله البالغة أن يكون هؤلاء الثلاثة من السابقين الأولين -اثنان منهما شهدا بدراً مرارة وهلال، والثالث كعب شهد العقبة ليكون ذلك أبلغ وأشد وقعاً في نفوس قوم ربما كانت أنفسهم قد حدثتهم بالتخلف وهم من مؤخرة القافلة.
    أما المتخلفون سواهم فما كانوا إلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء.
    وتنزل السورة الفاضحة، البحوث، المبعثرة، المقشقشة، المخزية، الحافرة، المنكلة، المنقرة، المدمدمة، وتتناول -عدا المقاطع الأولى منها- موضوع الغزوة، ويستغرق الحديث عن المنافقين من جميع جوانبه أكثرها، ويؤخر موضوع توبة الله على الثلاثة إلى آخرها في آخر توبة الله على الجماعة المؤمنة كلها.
    وليس من غرضنا الآن -ولن نستطيع- تقصي دروس الموقف وعبره، ولكننا نكتفي بعبرتين، إحداهما على سبيل الإجمال والأخرى واقعة جزئية.
    أما الأولى: فهي أن المنافقين لم يكن يخفى عليهم قط أن الإيمان جهاد وأعباء، وواجبات وفرائض على النفس والمال، وعلى القلوب والجوارح، ولهذا لم يدر في خلدهم أن يستخدموا منطق الأمة الإسلامية في عصورها الأخيرة فيقولوا للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين استنفرهم للغزو: لن نجاهد معك ولن يضر هذا في إيماننا، فنحن مصدقون لك بقلوبنا ومقرون برسالتك بألسنتنا، فدعنا نأخذ بأذناب البقر ونغرس الأشجار ونهتم بشؤون أهلينا وأولادنا.
    لم يكونوا ليفكروا في هذا، لأن حقيقة الإيمان الحية أمامهم في حياة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحبه لم تكن تسمح لهم بذلك، فقول كهذا في مجتمع مؤمن كهذا يعد لغواً وهذياناً.
    لو قالوا هذا أو قريباً منه لكشفته السورة وأزالت شبهته، لكنه لم يكن يصل في تفكيرهم إلى درجة الشبهة، ولهذا لجأوا إلى أعذار وتعللات عليها مسحة من الشرعية مثل:
    1- الاعتذار بأنهم ليسوا محل تكليف، إذ مناط التكليف الاستطاعة وهم غير مستطيعين ((لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ))[التوبة:42].
    2- الاعتذار بشدة الحر الذي جعله الشارع سبباً في الترخيص والتخفيف، كما في الإبراد بصلاة الظهر ((وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ))[التوبة:81].
    3- الاعتذار بوقوع مفسدة تضيع معها مصلحة الجهاد، وهي الافتتان ببنات الروم((ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي))[التوبة:49] ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح!!
    4- الاعتذار بالقياس، حيث طلبوا من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعذرهم كما يعذر من رفع الله عنه الحرج من الضعفاء والمرضى ((ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ))[التوبة:86].
    وغير ذلك من الأعذار المفتعلة التي هي شرعية في فقه المنافقين أو أصول فقههم، وهو فقه كثير الحواشي طويل الذيل لا يخلو منه عصر ولا دعوة، أما ذاك القول الذي لم يصل أن يكون عذراً ولا شبهة في أصول فقه المنافقين فقد أصبح حجة وقاعدة في أصول دين الطوائف الإسلامية التي دانت بعلم الكلام واتبعت أساطينه.
    فقد سود أحبار علم الكلام ورهبانه الصحائف، واستنفدوا المحابر للتدليل على أن الجهاد -بل كل الأعمال صغيرها وجليلها- ليست من الإيمان، بل صرح أئمة فيهم بأن نطق كلمة الشهادة -مجرد نطق- ليس منه.
    ورحم الله من قال من السلف في الفرق بين منافقي الصدر الأول والقرون المتأخرة: ''كانوا يراءون بما يعملون، فأصبحوا يراءون بما لا يعملون''
    حقاً إن مما سهل للمرجئة نشر عقيدتهم أن حقيقة الإسلام الحية الكاملة لم تكن قائمة في عصور الانحراف، فكان يسيراً عليهم أن يقنعوا أمة غير عاملة بأن العمل ليس من الإيمان، إذ ليس أشهى إلى الكسول من أن يجد ما يبرر كسله، ولكن المعيار الوحيد هو الجيل الأول، ذلك الجيل الذي كان منافقوه يجاهدون ويحجون وينفقون، فلما غابت صورة هذا المعيار عن عقول المرجئة -بل ربما عن عقول بعض مناظريهم من أهل السنة - وتحول الأمر إلى جدل نظري بالشبهات والتأويلات , استشرى الخطر وعمت البدعة.
    وكان على أهل السنة والجماعة -وما يزال- أن يعيدوا الواقع نفسه حيَّاً قائماً -ما أمكن- وأن يستحضروا دائماً صورته وهم يعملون ويناظرون.
    * وأما الأخرى -أي الواقعة الجزئية -: فهي قصة النفر من المنافقين الذين نزل فيهم قول الله تعالى: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ))[التوبة:65-66].
    وقد رُوي سبب نزولها من طرق كثيرة تثبت بمجموعها صحته، والأشهر أن ما قالوه هو: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء.
    فهؤلاء قوم خرجوا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الغزوة الشاقة متعرضين للقتل والأسر، أنهكتهم وعثاء السفر، فجلسوا في خلوة يتلهون بالسخرية ببعض الصحابة، فأنزل الله تعالى فيهم آيات محكمات حكم فيها بكفرهم بعد إيمانهم وخروجهم من عِداد المؤمنين، وهو ما يترتب عليه خلودهم الأبدي في النار ما لم يتوبوا .
    وقبل أن تنزل الآيات فزع هؤلاء النفر يهرعون إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معتذرين نادمين يقسمون الأيمان أنهم ما أرادوا الكفر ولا قصدوه، وأن ما صنعوا لم يكن إلا خوضاً ولعباً ولم يكذبهم الله تعالى في دعوى الخوض واللعب، بل أوضح أن نفس خوضهم ولعبهم كفر، فنفس عذرهم إقرار بكفرهم!
    إنه لا خلاف بين فقهاء الإسلام في أن الهزل بالكفر كفر -وإن اختلفوا في الهزل في سائر الأحكام كالبيع والطلاق والعتاق- وهذه الآية من أقوى الأدلة على ذلك .
    وقد بقي هذا الإجماع محفوظاً نظرياً في كتب الفقه حتى المتأخر منها، أما في الواقع العملي فإن استمراء الإرجاء، وانحسار مفهوم الإيمان، وغموض مفهوم الكفر، والغفلة عن كثير من ضروبه وأنواعه جعل الأمة الإسلامية تغفل عن تكفير المرتدين قصداً وجهاراً فضلاً عن الهازلين الساخرين إلا من سار منها على منهج أهل السنة والجماعة وهم في العصور المتأخرة قليل.
    بل إن هؤلاء القليل عندما يدعون إلى تصحيح الإيمان وتجلية معانيه، ويبينون للأمة الكفر وضروبه وخطره نجدها تقف في وجوههم متهمة إياهم بتكفير المسلمين، كما حصل لـشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، وشَيْخ الإِسْلامِ محمد بن عبد الوهاب، والشهيد سيد قطب رحمهم الله وأمثالهم، ويعرضون عن تصريح هؤلاء العلماء بأنهم لا يقصدون تكفير الأعيان بل تصحيح حقائق الدين في القلوب والأذهان.
    ولئن كان علماء عصور الإسلام الوسطى، من المرجئة أو المتأثرين بالإرجاء يحجمون عن تكفير ملاحدة وحدة الوجود، وأمثالهم من الزنادقة أو الساخرين بالدين من الكتَّاب والشعراء، وينتحلون لهم التأويلات والتبريرات، فقد استغنى علماء الإرجاء في عصرنا الحاضر عن هذه التأويلات، لأن الإسلام في عرفهم وراثة لازمة كما تورث الأسماء، وأحرف تكتب في الهوية لا ينسخها عمل ولا قول يرتكبه حاملها، ولهذا تجرأ الملاحدة زعماءً وكتاباً على دين الله سخرية واستهزاء، وأصبح هذا ميداناً للزعماء والمفكرين، وملهاة للشعراء والصحفيين، وجرت ألفاظ الاستهزاء على ألسنة العوام، فأصبحت في بعض الأحيان والبلدان كالسلام!!
    وعمَّ البلاء حتى تعدى مجال الاستهزاء إلى مجال الكفر الجاد الجلي الذي كان أمراً محظوراً -ولو عرفاً وعادة- فنسي الناس تكفير الباطنية والقرامطة والدروز والنصيرية وأشباههم، بل نسي بعضهم أو شك في كفر اليهود والنصارى وأمثالهم، وغاب عنهم تماماً كفر طواغيت الدجل والخرافة والسحر، بل سموهم أولياء وصالحين!!
    أما طواغيت الحكم والتشريع فقد نسخوا شريعة الله جهاراً نهاراً، وحكّموا شرائع الطاغوت في الدماء والأعراض والأموال وألزموا الناس في مناهجهم ووسائل تربيتهم بموالاة الكفار وتقديس عظماء الكفر من فلاسفة وقادة وحكام، ونشروا من استحلال المكفرات والموبقات ضروباً وألواناً، وسخروا من الحدود والحجاب وتعدد الزوجات وأحكام الميراث والعبادات والأخلاق..، كل هذا وأكثر الشعب لا يرفع عليهم رأساً ولا يرى به بأساً، والجريء منهم يعتبره خطأ أو معصية والمنافقون من أصحاب العمائم يقولون كما قال أحدهم: لو كان لي من الأمر شيء لجعلتك في منزلة من لا يسأل عما يفعل.
    وانضم أغلب الطبقة المثقفة -كما يسمونها- إلى الأحزاب الكفرية والمنظمات الإلحادية والمذاهب الأدبية التي تستر الكفر بالشعر، حتى إن بعض معاقل الإسلام التاريخية أصبح في كل قرية منها ومدرسة فرع للحزب الملحد.
    وسقط حد الردة إلا من كتب الفقه الموروثة، بل ظهر في صفوف المنتسبين إلى الدعوة الإسلامية اتجاه جديد ينكر حد الردة ضمن ما ينكر من حدود الإسلام وأصوله
    ومر على الأمة الإسلامية أجيال بل قرون لا تكاد تسمع فيها أن حد ردة أقيم على زنديق مجاهـر أو ملحد مكابر، في حين أن الآلاف من الأرواح تزهق لأسباب سياسية أو خلافات شخصية! أما الأحكام المتعلقة بأهل الذمة من جزية وصغار ونحوها، فقد اتفقت كل الأنظمة في نسخها وإلغائها وإنسائها، وعزّ الكفار في كل بلد، وضرب الذل والصغار على من يدعو إلى معاملتهم بحكم الله عز وجل، وصار أهل الكتاب -بل عباد البقر- يخططون لإخراج المسلمين عن دينهم في عقر دار الإسلام!!
    فيا لها من غربة لا يخفـف وطأتها إلا نسمات الفجر الصادق التي بدأت تهب من كل مكان، حاملة البشائر بمستقبل زاهر يعز الله فيه أولياءه ويذل أعداءه، ويعلي كلمة التوحيد والسنة ويقمع رءوس الشرك والبدعة وما ذلك عليه بعزيز.
    وبعد الاكتفاء بهاتين الوقفتين مع أحداث غزوة تبوك نكتفي -أيضاً- بما سبق عرضه من المعالم الكبرى في سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، التي كانت تطبيقاً وتحقيقاً للدين كما يريده الله تعالى، وبياناً واقعياً لطبيعة سيره وحكمة إنزاله، وسنة الله في تزكية الناس به ومجاهدتهم عليه.
    وإننا في كل غزوة وسرية من غزوات النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسراياه التي بلغت مائة غزوة وسرية، وفي كل موقف من مواقفه في الدعوة والجهاد، وفي كل مقام من مقامات عبوديته وتبتله إلى ربه , لنجد برهاناً ساطعاً ومعلماً شاخصاً على حقيقة دين الله تعالى، وحقيقة الدعوة إليه، وحقيقة النفس التي يجب أن تؤمن به وتستقيم عليه، مع إيضاح لحقيقة الجاهلية التي يجب أن تُحارب وتُدحر لكيلا تقف في طريقه.
    وقد كان الجيل الأول -أصفى أجيال الإنسانية وأعظمها- يدرك هذه الحقائق إدراك من عاناها وتذوقها وتربى عليها وجاهد لأجلها ورأى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمامه يعانيها ويدعو إليها، وقد ملك هذا الإدراك نفوس ذلك الجيل حتى بلغ بهم حداً رفيعاً من الحساسية ورهافة الشعور تجاهها، فاستصحبوا الشعور بالتقصير وسوء الظن بالنفس واستعظام الهفوة، حتى وصل الحال ببعضهم أحياناً إلى ما يشبه قنوطاً ويأساً، وحتى إنهم ليرون ما ليس بذنب ذنباً، ويخشون أن يكون ما أعطاهم الله من الكرامة عقوبة واستدراجاً، والنماذج الثابتة في هذا كثيرة جداً:
    عن أنس رضي الله عنه قال: [[لما طعن حرام بن ملحان -وكان خاله- يوم بئر معونة قال بالدم هكذا فنضحه على وجهه ورأسه، ثم قال: الله أكبر، فزت ورب الكعبة ]]
    وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: [[إني لأول العرب رمى بسهم في سبيل الله، ورأيتنا نغزو وما لنا طعام إلا ورق الحبلة وهذا السمر، وإن أحدنا ليضع كما تضع الشاة ما له خلط]].
    وعن جابر رضي الله عنه قال: [[سرنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان قوت كل رجل منا في كل يوم تمرة، فكان يمصها ثم يصرها في ثوبه، وكنا نختبط بقسينا ونأكل حتى قرحت أشداقنا، فَأُقْسِم أُخْطِئها رجل منا يوماً فانطلقنا به ننعشه فشهدنا أنه لم يعطها فأعطيها فقام فأخذها]] .
    وعن عتبة بن غزوان رضي الله عنه -في حديث عظيم له: [[ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحداً إلا أصبح أميراً على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله صغيراً ]].
    و عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه [[أُتِيَ بطعام وكان صائماً فقال: قتل مصعب بن عمير، وهو خير مني، كفن في بردة إن غُطِّيَ رأسه بدت رجلاه، وإن غُطِّيَ رجلاه بدا رأسه وأراه قال: وقتل حمزة وهو خير مني ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط -أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا- وقد خشينا أن تكون حسناتنا قد عجلت لنا، ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام ]].
    وقال خباب بن الأرت رضي الله عنه: {هاجرنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، ومنا من مضى أو ذهب ولم يأكل من أجره شيئاً، كان منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد لم يترك إلا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غُطِّيَ بها رجلاه خرج رأسه... قال: ومنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها} .
    وعن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري قال: [[قال لي عبد الله بن عمر: هل تدري ما قال أبي لأبيك؟ قلت: لا، قال: فإن أبي قال لأبيك: يا أبا موسى! هل يسرك إسلامنا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهجرتنا معه وجهادنا معه وعملنا كله معه برد لنا ، وأن كل عمل عملناه بعده نجونا منه كفافاً رأساً برأس؟
    فقال أبي : لا والله، لقد جاهدنا بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصلينا وصمنا وعملنا خيراً كثيراً،وأسلم على أيدينا بشر كثير، وإنا لنرجو ذلك.
    فقال أبي: لكني والذي نفس عمر بيده لوددت أن ذلك برد لنا، وأن كل شيء عملناه بعده نجونا منه كفافاً رأساً برأس. فقلتُ: إن أباك والله خير من أبي
    ]]. .
    ولما طعن رضي الله عنه جاءه ابن عباس فمس جسده بيده، وقال: جلد لا تمسه النار أبداً -يذكره ببشارة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ له بالجنة- وأخذ يطمئنه ويبشره بصحبته للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللصديق، وبرضى المسلمين جميعاً عنه في عدله وسيرته .
    فقال الفاروق : [[أما ما ذكرت من صحبة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورضاه فإنما ذاك منٌّ مِنَ الله تعالى مَنَّ به عليّ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه فإنما ذاك مَنٌّ مِنَ الله جل ذكره مَنَّ به عليّ، وأما ما ترى من جزعي فهو من أجلك وأجل أصحابك -أي الرعية أن يكون قصَّر في أمرها- والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً لافتديت به عذاب الله عز وجل وقبل أن أراه ]].
    وجاءه شاب آخر يبشره بأجر الصحبة والعدل والشهادة، فقال عمر: [[وددت أن ذلك كفاف لا علي ولا لي]].
    و أبو ذر رضي الله عنه حدث الناس بقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولا تلذذتم بالنساء على الفرشات...} الحديث.
    فقال: [[والله لوددت أني شجرة تعضد]] .
    و ابن مسعود رضي الله عنه يحدث عنه مسروق قال: [[قال رجل عند عبد الله : ما أحب أن أكون من أصحاب اليمين، أكون من المقربين أحب إليَّ، قال: فقال عبد الله: لكن هناك رجل ود لو أنه إذا مات لم يبعث يعني نفسه ]] .
    فهذا الوجل وشدة المحاسبة مع تلك التضحيات والفضائل والدرجة العليا التي شهد الله لهم بها في كتابه.
    وقد استمرت سيرتهم امتداداً لسيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الجهاد -بكل ضروبه- ففتحوا الآفاق والبلاد، وفتحوا القلوب والعقول، ونقلوا للناس هدي نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حيَّاً ماثلاً، فما انقضى عصرهم حتى أنفقت كنوز كسرى وقيصر في سبيل الله، ودانت ملوك الأرض وجبابرتها للملة الحنيفية، وأظهر الله دينه على العالمين حتى دخلت فيه أو في حكمه أمم الأرض إلا من اعتصم وراء لجج البحار أو بعدت بهم المهامة والقفار، أو عاشوا مع الوحوش في الأحراش والأدغال، وسيأتي لهذا مزيد بيان بإذن الله .
    ولقد قصَّر نابليون حين وصف هذه المدة الهائلة بقوله: '' إن المسلمين فتحوا نصف العالم في نصف قرن! '' فما كان القسم الذي لم يفتح نصف العالم قط، وإنما كان حُوشيِّ الأرض التي لم تصلها جيوش الإسلام فقد غزتها ثقافته وحضارته.
    ولكن الأوروبيين منذ عصر الامبراطورية الرومانية إلى الآن يعتبرون أوروبا نصف الدنيا، وكم جمح بهم الغرور فاعتبروها محور العالم، وسائر الأمم حُواشي وهوامش .
    وعلى نهج الصحابة سارت بعدهم أجيال فأكملوا المسيرة، مسيرة الجهاد بكل ضروبه وأنواعه: الجهاد لإدخال الأمم في دين الله وتحريرها من عبودية طواغيت الدجل والاستبداد.
    والجهاد في طلب العلم وتعليمه ليعبدوا الله على بصيرة ويدعوا الناس إلى حق وحقيقة.
    والجهاد في مقاومة البدع والمنكرات وصيانة الأمة من تحريف الغالين وتأويل المبطلين.
    والجهاد في تحمل أذى الدجالين والجبابرة والشياطين من الجن والإنس وجيوشهم من طلاب الشهوات وأتباع كل ناعق.
    وقدمت هذه الأجيال من التضحيات وتحملت من المشقات ما سطره التاريخ وما لم يسطره، مما لا يستطاع حصره ولا تحصى آثاره.
    كل ذلك عملوه وجاهدوه لا على أنه مجرد نوافل وتطوعات، ولا على أنه مهام جانبية تقضى في أو قات الفراغ من الشواغل، ولا على أنه وسيلة قطعية توصلهم للدرجات العلى في الجنة، بل كانوا يعملون ذلك كله على أنه هو حقيقة الإسلام، وهو شُعب الإيمان، وهو أسنان ومفتاح الشهادتين، وهو الطريق إلى الجنة إن سلم من الآفات والعوارض، يعملون ذلك وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون، والخوف من التقصير، والخوف من أن ترد عليهم أعمالهم، والخوف من أن تعجل لهم حسناتهم في الدنيا , حاضرٌ في قلوبهم، ماثل أمام أعينهم، كما تشهد بذلك سيرهم التي جمعها بعض المصنفين، وما لم يجمعوه من أعمال القلوب أكثر وأعظم.
    وما نقل عن أحد منهم قط أنه قال: إن إيمانه كإيمان جبريل أو أنه كامل الإيمان، وما كان لمثلهم أن يتفوه بهذا.
  4. خاتمة المطاف

    بعد هذا الاستعراض لحقيقة هذا الدين، وواقعه العملي، وطبيعة سيره، ومنهج حركته وتزكيته، رأيت أن أختم الفصل بإيضاح قضايا مهمة سأوردها في شكل أسئلة خطرت لي كثيراً أثناء الكتابة، وما أحسبها إلا ستخطر لكل قارئ كذلك.
    والمقصود من إيراد هذه الأسئلة والإجابة عليها، هو التعرف على بعض الحكم الربانية في أن تكون حقيقة هذا الدين ومنهجه على ذلك النحو السابق شرحه، إذ ليس من حقنا -نحن العبيد- أن نسأل عن شيء من سنن الله لم كانت هكذا؟
    إلا لنعرف ما يستتبعه ذلك من عبوديات اعتباراً وعملاً.
    ولعل الإجابة على هذه الأسئلة تبدد ما قد يبقى في النفس من آثار الإرجاء الباطن الذي توارثته الأمة وألفته النفوس مع طول الأمد، وتبين كذلك مدى رحمة الله وفضله على المؤمنين المتمسكين بمنهجه، وأنه مع كل ما في التمسك به من ابتلاءات وأعباء ومشقات لم يجعل علينا في الدين من حرج أبداً، بل هذا المنهج نفسه هو منهج السعادة العظمى والفوز العظيم في الدنيا والأخرى، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
    وهذه الأسئلة هي:
    لماذا كل هذه الجهود والتضحيات والمشقات؟
    وما القضية الأساسية التي جاهد من أجلها الأنبياء والشهداء والصالحون؟
    وهل هي جديرة بكل هذه الجهود الكبيرة الهائلة لا سيما وأن بعض الأنبياء -وهم خير من دعا إلى الله- لم يتبعه أحد، ومنهم من لم يتبعه إلا الرجل والرجلان -كما صح في الحديث- وأكثرهم ما آمن له إلا قليل بنص القرآن؟
    والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهو أكثر الأنبياء تابعاً- أكانت القضية التي دعا إليها تستدعي أن يهب هو وأصحابه حياتهم كلها في سبيلها، ويكونوا مع ذلك أكثر الناس حرصاً على إيمانهم وحذراً من الذنوب؟
    وأيضاً سؤال مهم، وهو: هل هذه الأعباء والمشقات خاصة بمنهج الإيمان، فيكون ذلك داعياً أن يركن الناس إلى الكفر طلباً للراحة والطمأنينة؟
    وعندما نخاطب المسلمين بأن طبيعة هذا الدين هي هكذا: ألا تكون صعوبة هذا المنهج وارتفاعه وبطء ثمراته وطول طريقه مبرراً لما يتصورونه من إمكان العيش تحت مظلة الجاهلية المعاصرة -مكتفين بأداء الشعائر الفردية هروباً من تلك التضحيات والتكاليف؟
    والدعاة خاصة ألا نخشى أن يكون ذلك مبرراً لمحاولة الحصول على الثمرة من طرق أخرى يحسبونها ميسورة سهلة المنال بعيداً عن هذا الطريق المجهد الشاق، وهو ما يحدث فعلاً في أكثر الدعوات المعاصرة؟
    إن الإجابة الشافية على هذه الأسئلة بإيضاح الحقائق الكبرى التي يغفل عنها من ينظر لهذا المنهج أول وهلة، يمكن أن نستنبطها ونقرأها من العرض السابق نفسه -أي: من واقع سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه- كما أن علماء أهل السنة والجماعة أجابوا عنها بلسان الحال أو بلسان المقال أو تلميحاً وقد وجدت أن أفضل من أجاب على هذه الأسئلة من فقهاء الدعوة المعاصرين هو الأستاذ سيد قطب رحمه الله، وهأنذا أنقل من كلامه ما يفيد ذلك مع بعض زيادات توضيحية:
    ''إن حقيقة العبادة لو كانت هي مجرد الشعائر التعبدية ما استحقت كل هذا الموكب من الرسل والرسالات، وما استحقت كل هذه الجهود المضنية التي بذلها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، وما استحقت كل هذه العذابات والآلام التي تعرض لها الدعاة والمؤمنون على مدار الزمان، إنما الذي استحق كل هذا الثمن الباهظ هو إخراج البشر جملة من الدينونة للعباد وردهم إلى الدينونة لله وحده في كل أمر وفي كل شأن، وفي منهج حياتهم كله للدنيا والآخرة سواء.
    إن توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد القوامة، وتوحيد الحاكمية، وتوحيد مصدر الشريعة، وتوحيد منهج الحياة، وتوحيد الجهة التي يدين لها الناس الدينونة الشاملة، إن هذا التوحيد هو الذي يستحق أن يرسل من أجله كل هؤلاء الرسل، وأن تبذل في سبيله كل هذه الجهود، وأن تتحمل لتحقيقه كل هذه العذابات والآلام على مدار الزمان... لا لأن الله سبحانه في حاجة إليه، فالله سبحانه غني عن العالمين، ولكن لأن حياة البشر لا تصلح ولا تستقيم ولا ترتفع ولا تصبح حياةً لائقةً بالإنسان إلا بهذا التوحيد الذي لا حد لتأثيره في الحياة البشرية في كل جوانبها على السواء....
    إن هذه الحقيقة ليست أهميتها فقط في تصحيح التصور الإيماني، وإن كان هذا التصحيح في ذاته غايةً ضخمة يقوم عليها بناء الحياة كله، بل إن أهميتها كذلك في حسن تذوق الحياة، وبلوغ هذا التذوق أعلى درجات الكمال والتناسق، فقيمة الحياة الإنسانية ذاتها ترتفع حين تصبح كلها عبادة لله، وحين يصبح كل نشاط فيها -صغر أم كبر- جزءاً من هذه العبادة أو كل العبادة متى نظرنا إلى المعنى الكبير الكامن فيه، وهو إفراد الله سبحانه بالألوهية والإقرار الكامل له وحده بالعبودية... هذا المقام الذي لا يرتفع الإنسان إلى ما هو أعلى منه، ولا يبلغ كماله الإنساني إلا في تحقيقه، وهو المقام الذي بلغه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أعلى مقاماته التي ارتقى إليها، مقام تلقي الوحي من الله ومقام الإسراء أيضاً:
    ((تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً))[الفرقان:1].
    ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ))[الإسراء:1].
    وننـتقـل إلى قيمة أخرى من قيم توحيد العبادة بمعنى الدينونة لله وحده، وآثارها في الحياة الإنسانية، إن الدينونة لله تُحَرِّرُ البشر من الدينونة لغيره، وتخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده. وبذلك تحقق للإنسان كرامته الحقيقية، هذه الحرية وتلك، اللتان يستحيل ضمانهما في ظل أي نظام آخر غير النظام الإسلامي يدين فيه الناس بعضهم لبعض بالعبودية في صورة من صورها الكثيرة... سواءً عبودية الاعتقاد، أو عبودية الشعائر، أو عبودية الشرائع.... فكلها عبودية، وبعضها مثل بعض تخضع الرقاب لغير الله بإخضاعها للتلقي في أي شأن من شؤون الحياة لغير الله، والناس لا يملكون أن يعيشوا غير مدينين، لا بد للناس من دينونة.
    والذين لا يدينون لله وحده يقعون من فورهم في ألوان العبودية لغير الله في كل جانب من جوانب الحياة.... إنهم يقعون فرائس لأهوائهم وشهواتهم بلا حد ولا ضابط، ومن ثم يفقدون خاصتهم الآدمية ويندرجون في عالم البهيمة:
    ((وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ))[محمد:12].
    ولا يخسر الإنسان شيئاً كأن يخسر آدميته ويندرج في عالم البهيمة، وهذا هو الذي يقع حتماً بمجرد التملص من الدينونة لله وحده، والوقوع في الدينونة للهوى والشهوة.
    ثم هم يقعون فرائس لألوان من العبودية، يقعون في عبودية الأحبار والرهبان والجن والكهان والدجاجلة والمشعوذين، يقعون في شر ألوان العبودية للحكام والرؤساء الذين يصرفونهم وفق شرائع من عند أنفسهم، لا ضابط لها ولا هدف إلا حماية مصالح المشرعين أنفسهم، سواء تمثل هؤلاء المشرعون في فرد حاكم، أو في طبقة حاكمة أو في جنس حاكم، فالنظرة على المستوى الإنساني الشامل تكشف عن هذه الظاهرة في كل حكم بشري لا يستمد من الله وحده ولا يتقيد بشريعة الله لا يتعداها... ولكن العبودية للعبيد لا تقف عند حدود العبودية للحكام والرؤساء والمشرعين.
    فهذه هي الصورة الصارخة، ولكنها ليست هي كل شيء، إن العبودية للعباد تتمثل في صورة أخرى خفية، ولكنها قد تكون أقوى وأعمق وأقسى من هذه الصورة ألا وهي عبودية الأعراف والأوضاع والتقاليد، ونضرب مثلاً لهذا: تلك العبودية لصانعي الموضات والأزياء مثلاً! أي سلطان لهؤلاء على قطيع كبير جداً من البشر؟ كل الذين يسمونهم متحضرين.
    إن الزي المفروض من آلهة الأزياء في الملابس أو التصاميم أو الموديلات أو العربات أو المباني أو المناظر أو الحفلات؛ أزياء الصباح، أزياء بعد الظهر، أزياء المساء، الأزياء القصيرة، الأزياء الضيقة، أزياء السهرة، الأزياء المضحكة، أزياء المراسم.. إلخ ليمثل عبودية صارمة لا سبيل لجاهلي أو لجاهلية أن يفلت منها، أو يفكر في الخروج عنها، لو دان الناس في هذه الجاهلية الحضارية لله بعض ما يدينون لصانعي الأزياء لكانوا عباداً متبتلين، فماذا تكون العبودية إن لم تكن هي هذه؟!
    وماذا تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي حاكمية وربوبية صانعي الأزياء أيضاً؟!
    وإن الإنسان ليبصر أحياناً بالمرأة المسكينة وهي تلبس ما يكشف عن سوءاتها، وهو في الوقت ذاته لا يناسب شكلها ولا تكوينها، وتضع من الأصباغ ما يتركها شائهة أو مثاراً للسخرية، ولكن الألوهية القاهرة لأرباب الأزياء والموضات تقهرها وتذلها لهذه المهانة التي لا تملك لها رداً، ولا تقوى على رفض الدينونة لها، لأن المجتمع كله من حولها يدين لها، فكيف تكون الدينونة إن لم تكن هي هذه؟!
    وكيف تكون الحاكمية والربوبية إن لم تكن هي تلك؟!
    وليس هذا إلا مثلاً واحداً للعبودية المذلة حين لا يدين الناس لله وحده وحين يدينون لغيره من العبيد.
    وليست حاكمية الرؤساء والحاكم وحدها هي الصورة الكريهة المذلة لحاكمية البشر للبشر ولعبودية البشر للبشر، وهذا يقودنا إلى قيمة توحيد العبادة والدينونة في صيانة أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم التي تصبح كلها ولا عاصم لها عندما يدين العباد للعباد في صورة من صور الدينونة، سواء في حاكمية التشريع، أو في صورة حاكمية الأعراف والتقاليد، وفي صورة حاكمية الاعتقاد والتصور، هذه هي الحقيقة.
    إن الدينونة لغير الله في الاعتقاد والتصور معناها الوقوع في براثن الأوهام والأساطير والخرافات التي لا تنتهي، والتي تمثل الجاهليات الوثنية المختلفة صوراً منها، وتمثل أوهام العوام المختلفة صوراً منها، وتقدم فيها النذور والأضاحي من الأموال وأحياناً من الأولاد!- تحت وطأة العقيدة الفاسدة والتصور المنحرف، ويعيش الناس معها في رعب من الأرباب الوهمية المختلفة، ومن السدنة والكهنة المتصلين بهذه الأرباب من السحرة المتصلين بالجن والعفاريت..، ومن المشايخ والقديسين أصحاب الأسرار، ومن.. ومن..، ومن الأوهام التي ما يزال الناس منها في رعب وفي خوف وفي تقرب وفي رجاء حتى تنقطع أعناقهم وتتوزع جهودهم وتتبدد طاقاتهم في مثل هذا الهراء.
    وقد مثلنا لتكاليف الدينونة لغير الله في الأعراف والتقاليد بأرباب الأزياء والموضات، فينبغي أن نعلم كم من الأموال والجهود تضيع إلى جانب الأعراض والأخلاق في سبيل هذه الأرباب! إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق على الدهون والعطور والأصباغ وعلى تصفيف الشعر وكيه وعلى الأقمشة التي تصنع منها الأزياء المتقلبة عاماً بعد عام، وما يتبعها من الأحذية المناسبة والحلي المتناسقة مع الزي والشعر والحذاء... إلى آخر ما تقضي به تلك الأرباب النكدة.
    إن البيت ذا الدخل المتوسط ينفق نصف دخله ونصف جهده لملاحقة أهواء تلك الأرباب المتقلبة، التي لا تثبت على حال، ومن ورائها اليهود أصحاب رءوس الأموال الموظفة في الصناعات الخاصة بدنيا تلك الأرباب، ولا يملك الرجل والمرأة -وهما في هذا الكد الناصب- أن يتوقفا لحظة عن تلبية ما تقتضيه تلك الدينونة النكدة من تضحيات في الجهد والمال والعرض والخلق على السواء .
    وأخيراً تجيء تكاليف العبودية لحاكمية التشريع البشرية، وما من أضحية يقدمها عابد الله لله إلا ويقدم الذين يدينون لغير الله أضعافها للأرباب الحاكمة من الأموال والأنفس والأعراض.
    وتقام أصناف من الوطن ومن القوم ومن الجنس ومن الطبقة ومن الإنتاج، ومن غيرها من شتى الأصنام والأرباب... وتدق عليها الطبول، وتنصب لها الرايات، ويدعى عباد الأصنام إلى بذل النفوس والأموال لها بغير تردد، وإلا فالتردد هو الخيانة وهو العار!
    وحين يتعارض العِرْض مع متطلبات هذه الأصنام فإن العرض هو الذي يضحي، ويكون هذا هو الشرف الذي يراق على جوانبه الدم، كما تقول الأبواق المنصوبة حول الأصنام ومن ورائها أولئك الأرباب من الحكام!
    إن كل التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل الله ليعبد الله وحده في الأرض , وليتحرر البشر من عبادة الطواغيت والأصنام , ولترتفع الحياة الإنسانية إلى الأفق الكريم الذي أراده الله للإنسان... إن كل هذه التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل الله ليبذل مثلها وأكثر من يدينون لغير الله؛ والذين يخشون العذاب والألم والاستشهاد وخسارة الأنفس والأولاد والأموال إذا هم جاهدوا في سبيل الله عليهم أن يتأملوا ماذا تكلفهم الدينونة لغير الله في الأنفس والأموال والأولاد وفوقها الأخلاق والأعراض.
    إن تكاليف الجهاد في سبيل الله في وجه طواغيت الأرض كلها لم تكلفهم ما تكلفهم الدينونة لغير الله , وفوق ذلك كله الذل والدنس والعار.
    وأخيراً فإن توحيد العبادة والدينونة لله وحده , ورفض العبودية والدينونة لغيره من خلقه ذو قيمة كبيرة في صيانة الجهد البشري من أن ينفق في تأليه الأرباب الزائفة كي يوجه بجملته إلى عمارة الأرض وترقيتها وترقية الحياة فيها.
    وهنا ظاهرة واضحة متكررة؛ وهي أنه كلما قام عبد من عبيد الله ليقيم من نفسه طاغوتاً يعبّد الناس لشخصه من دون الله , احتاج هذا الطاغوت كي يعبد -أي: يطاع ويتبع- إلى أن يسخر كل القوى والطاقات: تسبح بحمده وترتل ذكره وتنفخ في صورته العبدية الهزيلة لتتضخم وتشغل مكان الألوهية العظيمة , وألا تكف لحظة واحدة عن النفخ في تلك الصورة العبدية الهزيلة وإطلاق الترانيم والتراتيل حولها , وحشد الجموع بشتى الوسائل للتسبيح باسمها وإقامة طقوس العبادة لها.
    وهو جهد ناصب لا يفرغ أبداً؛ لأن الصورة العبدية الهزيلة تنكمش وتهزل وتتضاءل كلما سكن من حولها النفخ والطبل والزمر والبخور والتسابيح والتراتيل , وفي هذا الجهد الناصب تصرف طاقات وأموال وأرواح -أحياناً- وأعراض، ولو أنفق بعضها في عمارة الأرض والإنتاج المثمر لترقية الحياة البشرية وإغنائها لعاد على البشرية بالخير الوفير , ولكن هذه الطاقات والأموال والأرواح أو الأعراض لا تنفق في هذا السبيل المثمر ما دام الناس لا يدينون لله وحده وإنما يدينون للطواغيت من دونه.
    ومن هذه اللمحة يتكشف مدى خسارة البشرية في الطاقات والأموال والعمارة والإنتاج من جراء تنكبها عن الدينونة لله وحده وعبادة غيره من دونه , وذلك فوق خسارتها في الأرواح والأعراض والقيم والأخلاق , فوق الذل والقهر والدنس والعار، وليس هذا في نظام أرضي دون نظام وإن اختلفت الأوضاع واختلفت ألوان التضحيات.
    والخلاصة التي ينتهي إليها القول في هذه القضية: أنه يتجلى بوضوح أن قضية الدينونة والاتباع والحاكمية التي يعبر القرآن عنها بالعبادة هي قضية عقيدة وإيمان وإسلام وليست قضية فقه أو سياسة أو نظام؛ إنها قضية عقيدة تقوم أو لا تقوم , وقضية إيمان يوجد أو لا يوجد , وقضية إسلام يتحقق أو لا يتحقق , ثم هي بعد ذلك -لا قبله- قضية منهج للحياة الواقعية يتمثل في شريعة ونظام وأحكام وفي أوضاع وتجمعات تتحقق فيها الشريعة والنظام وتنفذ فيها الأحكام.
    وكذلك إن قضية العبادة ليست قضية شعائر، وإنما هي قضية دينونة واتباع ونظام وشريعة وفقه وأحكام وأوضاع في واقع الحياة، وإنها من أجل أنها كذلك استحقت كل هذه الرسل والرسالات واستحقت كل هذه العذابات والتضحيات...وهنا يقف الدعاة ليواجهوا الجاهلية العنيدة '' .