ويشتمل هذا الباب على:
- دعوة النبي صلى الله عليه وسلم (ارتباط العمل بحقيقة الدين والدعوة) .
- حقيقة النفس الإنسانية.
- حقيقة الإيمان الشرعية .
مقدمة:-
يقول الله تعالى:
((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ))[الذاريات:56].
ويقول جل ذكره:
((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ))[البقرة:213].
ويقول:
((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ))[الحديد:25].
  1. أصول الغايات والحقائق الكبرى للدين

    هذه الآيات الكريمة تضمنت أصول الغايات، والحقائق الكبرى للدين، وهي:
    الغاية من خلق الثقلين وحقيقة مهمتهم.
    الغاية من إرسال الرسل وحقيقة دعوتهم.
    حقيقة سنة اقتران القوة بالحق لتحقيق تلك الغايات.
    فالله تبارك وتعالى خلق آدم وذريته مفطورين على الإيمان والتوحيد، وظلت الجماعة البشرية الأولى سائرة على هذا المنهج القويم ما شاء الله أن تسير .
    ثم أصابتها السنة الكونية ((وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ))[هود:118-119] تلك السنة التي تـقتضي وتستلزم من الحكم والمصالح، وظهور آثار صفات الله عز وجل ما يعجز عنه البيان.
    ومنذ أن وقع الشرك الأول في بني آدم والمعركة قائمة لم تهدأ، مستعرة لم تخب بين الحق والباطل وبين الإيمان والكفر.
    وقد تمثل الشرك الأول في الركنين الأساسين لمفهوم العبادة وهما:
    1- التقرب والتوجه والتنسك.
    2- الطاعة والتشريع والاتباع.
    وهما ركنان متداخلان.
    وما صح لدينا من أخبار الأمة الشركية الأولى قوم نوح يدل على ذلك:
    1- قال الله تعالى عنهم:
    ((وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً))[نوح:23].
    وهذه الأصنام التي تنسكت الجاهلية الأولى بالتقرب إليها، وهي في الأصل أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كان يجلسون أنصاباً [تماثيل]، وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد [أول الأمر] حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عُبدت. .
    2- روى مسلم عن عياض بن حمار -رضي الله عنه- أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ذات يوم في خطبته: {ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته عبداً حلالٌ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً..}
    فهذا انحرافهم في الطاعة والتشريع، المقارن لشركهم في التقرب والتنسك.
    ومن ثبات السنن الدالة على وحدة المعركة أولاً وأخراً أن الله بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , والعرب واقعة في الشرك في هذين الركنين عينهما، فقد كانت تعبد الأصنام نفسها التي عبدها قوم نوح إذ [[ صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ود فكانت لكلب بـدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بـالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع ]] مع ما أضافه عمرو بن لحي الخزاعي .
    والطواغيت بعده من أصنام أخرى كاللات والعزى ومناة وهُبل، وتشريعات غيروا بها ملة إبراهيم.
    فكانت العرب أيضاً واقعة في شرك الطاعة والاتباع، وقد ذكر الله تعالى أمثلة له من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وغيرها مما أفاضت فيه سورة الأنعام مثل: قتل الأولاد، واستحلال الميتة، وما جعلوا لله مع شركائهم من نصيب في الحرث والأنعام، وما جعلوا منها من حجر لا يطعمه إلا من يشاءون بزعمهم وما حرموه من ظهورها.. كل ذلك افتراءً على الله، وتخرصاً على دينه، واتباعاً للشياطين ((وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ))[الأنعام:121].
    وهو ما ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث السابق عن أصحاب الشرك الأول.
    ولمناسبة كون المعركة -من نوح إلى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واحدة، وقضيتها واحدة، جاء التعبير عن الرسالات جميعاً بأنها كتاب واحد -في الآيات السابقة-: (( وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيه))[البقرة:213]، (( وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ))[الحديد:25].
    وقوله: ((اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ))[الشورى:17] ونحوها.
    كما جاء التعبير عن رفض دعوة الرسل وعبادة غير الله- مهما تباعدت الأجيال، وتنوعت المعبودات -بأنه عبادة للشيطان ((أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ))[يس:60-61].
    وكذلك جاء وصف أعداء الرسالات من البشر موحداً كذلك وهو الملأ المستكبرون أصحاب السلطان والمال وذلك في آي كثير.
    وموجز دعوة الرسل جميعاً أنها دعوة واحدة إلى منهج التوحيد بكل فروعه وأنواعه، وموالاة أهله، وما يستلزمه ذلك من نبذ الشرك بكل صوره وألوانه، ومعاداة أهله.
    وغاية دعوتهم هي مصلحة العالمين أنفسهم، لكي تقوم حياتهم بالقسط في الدنيا، وينعموا برضا الله وجنته في الآخرة ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ))[الأنبياء:107].
    ومن هنا ارتبطت دعوتهم بالجهد والعمل، وارتبط كتابهم بالسيف والحديد.
    إن حقيقة المعركة التي خاضها الأنبياء مع أممهم، والسنة الثابتة في دعوتهم، لا تتجلى إلا لمن عرف حقيقتين مهمتين ينبغي لمن أراد الانضمام لموكبهم الكريم وركبهم الناجي أن يجعل معرفتهما منطلقاً لدعوته وأساساً لمنهجه:
    1- طبيعة الدين كما أنزله الله وأراده أن يتحقق في واقع الأرض.
    2- طبيعة الجاهلية التي نزل لإبطالها وحربها.
    والآن وقد دار الزمان دورة ثالثة حتى أوشك أن يعود كهيئته يوم أن بعث الله محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [حيث تردى العالم الإنساني المعاصر إلا قليلاً في عين ما وقع فيه قوم نوح والعرب من شرك في التقرب والنُسك، وفي الطاعة والتشريع ] أصبح لزاماً على أولي البقية الذين ينهون عن الفساد في الأرض تجلية هذه الحقائق عن الدين، قبل الدخول في أية تفصيلات أو مناقشات مع الفرق المخالفة أو مع المتلوثين بهذا الشرك الجديد، فالتوحيد هو أول واجب على العبد وأول موضوع للدعوة.
    ذلك أن الخلل ليس في العمل والسلوك بل تعداه إلى العقيدة ذاتها، فانحسرت مفهوماتها، وانحصرت مدلولاتها، ونسيت المهمة التي جاء الدين من أجلها وقام عليها، ودرس الإسلام كما يدرس الثوب الخلق حتى لم يبق منه في أكثر البقاع وعند أكثر الناس إلا اسمه، ولم يبق من القرآن إلا رسمه .
    وليس أمام الغرباء الذين يريدون القيام مقام الأنبياء بهداية الناس للحق، ويمثلون الطائفة المنصورة الناجية التي كتب الله أن تظل على الحق لا يضرها من خالفها، ليس أمامهم من خيار في البدء بتصحيح العقيدة، وتجلية مفهوماتها من خلال هاتين الحقيقتين، ثم البيان العلمي الواضح لأصول الدين وحقائقه.
  2. شروط صحة العبادة

    وقد دل استقراء نصوص الكتاب والسنة أن هذا الدين يقوم على أصلين:
    1- ألا يعبد إلا الله [بالمعنى الشرعي الكامل للعبادة].
    2- وألا يعبد الله إلا بما شرع. .
    هذا في حقيقته وذاته، أما أسلوبه العملي ومنهجه الدعوي -وهو الجانب الذي يهمنا الآن- فقد تضمنته آية الحديد السابقة، التي جعلها شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية محور كتابه القيم السياسة الشرعية. قال في مقدمته:
    ''الحمد لله الذي أرسل رسله بالبينات والهدى، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب، إن الله قوي عزيز، وختمهم بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأيده بالسلطان النصير الجامع معنى العلم والقلم للهداية والحجة، ومعنى القدرة والسيف للنصرة والتعزيز'' .
    وقال في خاتمته: '' إن قوام الدين بالكتاب الهادي، والحديد الناصر كما ذكره الله تعالى -أي: في آية الحديد السابقة- فعلى كل أحد الاجتهاد في اتفاق القرآن، والحديد لله تعالى ولطلب ما عنده'' .
    إن اقتران الحديد بالقرآن من أجل إقامة دين الله في الأرض، ليكشف عن سنة ربانية عظمى في طبيعة هذا الدين، وطبيعة الجاهلية المقابلة، وهي أن ''هذا المنهج الإلهي الذي يمثله الإسلام كما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يتحقق في الأرض -في دنيا الناس- بمجرد تنزيله من عند الله ولا يتحقق بمجرد إبلاغه للناس وبيانه ولا يتحقق بالقهر الإلهي على نحو ما يمضي الله ناموسه في دورة الفلك، وسير الكواكب، وترتب النتائج على أسبابها الطبيعية.
    إنما يتحقق بأن تحمله مجموعة من البشر، تؤمن به إيمانا كاملاً، وتستقيم عليه بقدر طاقتها، وتجعله وظيفة حياتها وغاية آمالها، وتجهد لتحقيقه في قلوب الآخرين وفي حياتهم العملية كذلك، وتجاهد لهذه الغاية بحيث لا تستبقي جهداً ولا طاقة، تجاهد الضعف البشري، والهوى البشري، والجهل البشري، في أنفسنا وأنفسها الآخرين، وتجاهد الذين يدفعهم الضعف والهوى والجهل للوقوف في وجه هذا المنهج وتبلغ بعد ذلك كله من تحقيق هذا المنهج الإلهي إلى الحد والمستوى الذي تطيقه فطرة البشر'' .
    هذه المجموعة تجاهد الناس بالقرآن ((وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً))[الفرقان:52]، وتجاهدهم بالحديد ((وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ))[البقرة:251] حتى يستقيموا إلى الله، ويستقيموا على دين الله، وهذا ما أعلنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: {بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم}
    وقوله: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله}
    مع نصوص كثيرة لا تحصى، وليس هذا خاصاً بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل هو سنة جارية في الأنبياء قبله وإن اختلفت صور الجهاد والابتلاء، فما عليهم إلا الصبر والدعوة، أما النصر والتمكين فمن عند الله.
    وقد كان الناس الذين يملكون أثارة من علم يعلمون هذه الحقيقة، قبل أن يقرءوها في كتاب الله تعالى، بل قبل أن ينزل بها.
    فهذا ورقة بن نوفل يقول للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد سماعه خبر نزول الوحي لأول مرة: {ليتني فيها جذعاً -ليتني أكون حياً- إذ يخرجك قومك!
    فيسأله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في استغراب: أو مخرجَّي هم؟!
    فيقول ورقة: لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عوديَّ
    }.
    وهذا قيصر الروم يقول في حديثه مع أبي سفيان: { سألتك كيف كان قتالكم إياه، فزعمت أن الحرب سجال ودول، فكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة } .
    وهذا ما صدّقه الله بقوله تعالى:
    ((أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ))[البقرة:214]
    وفي هذا رد -وأيما رد- على الذين يحسبون الإيمان نظرية تعلق بالفكر، يستوجب صاحبها الجنة بلا ابتلاء ولا زلزلة.
    وهو ما تأباه سنة الله الثابتة هذه، وتأباه طبيعة الإيمان نفسها، بل طبيعة الجاهلية أيضاً.
    فلا الإيمان كان نظرية مجردة، ولا الجاهلية كانت كذلك، ولا يكون ذلك أبداً، بل هنالك سنة من سنن الاجتماع البشري، يشهد بها الواقع المحسوس والتاريخ المسطور، وهي أن ''هذه الجاهلية التي واجهها كل رسول بالدعوة إلى الإسلام لله وحده، والتي واجهها الداعية العظيم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدعوته، والتي واجهها الدعاة في كل زمان وفي كل مكان. إن هذه الجاهلية لم تكن متمثلة في نظرية مجردة، بل ربما أحياناً لم تكن لها نظرية على الإطلاق إنما كانت متمثلة في تجمع حركي، متمثلة في مجتمع خاضع لتطورات وقيم ومفاهيم ومشاعر وتقاليد وعادات، وهو مجتمع عضوي بين أفراده، ذلك التفاعل والتكامل والتناسق والولاء والتعاون العضوي، الذي يجعل هذا المجتمع يتحرك بإرادة واعية أو غير واعية للمحافظة على وجوده والدفاع عن كيانه والقضاء على عناصر الخطر التي تهدد ذلك الوجود وهذا الكيان في أي صور التهديد '' وهذه الطبيعة المتأصلة في الجاهلية جاء الحديث عنها في القرآن في مواضع كثيرة وتصويرها في مواقف كثيرة من أمثال:
    ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ))[إبراهيم:13-14].
    ((قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ))[الأعراف:88-89] .
    ((وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ))[النمل:54-56].
    ((وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ))[غافر:26].
    ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً))[الفرقان:31].
    ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ))[الأنعام:112].
    ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ))[الأنعام:123].
    ((وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ))[الأنفال:30].
  3. عرض ظاهرة العمل وعلاقتها بالإيمان

    وإيضاحاً لهذا الإجمال، وتفصيلاً لهذه الحقائق، رأيت عرض ظاهرة العمل وعلاقتها بالإيمان من خلال:
    1- تتبع المسيرة التاريخية لدعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، التي بها تظهر طبيعة هذا الدين في حركته، والصورة الوحيدة المثلى لقيامه وتحققه في واقع الأرض، كما تظهر بها الحقيقة الثابتة في الجاهلية سواء في النفوس أو في الأمم.
    2- دراسة النفس الإنسانية ومعرفة طبيعة همها وسعيها ودوافع ذلك وضوابطه، وربط ذلك بواقع الجيل الأول وحقيقة التوحيد الصافية، إذ بها تظهر حقيقة الإيمان الذي أنزله الله ليزكيها ويوجهها فجعله ملائماً لها متسقاً مع فطرتها شاملاً لكل حركتها.
    ثم ننتقل بعد ذلك إلى حقيقة الإيمان العملية والنظرية كما هي في الكتاب والسنة، وعقيدة أهل السنة والجماعة، لنرى مدى التوافق والتطابق والانسجام.