الحمد لله والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعــد:
فقد اطلعت على ما نشرته مجلة المجتمع في الأعداد من رقم [627/632] والمقابلة السابقة لها، وكذلك المقالتين المتضادتين في العدد [646] مما كتبه الشيخان الفوزان والصابوني عن مذهب الأشاعرة.
وإذا كان من حق أي قارئ مسلم أن يهتم بالموضوع وأن يدلي برأيه إن كان لديه جديد، فكيف بمن هو متخصص في هذا الموضوع؟
فـالأشاعرة جزء من موضوع رسالتي للدكتوراه "ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي" إذ هي أكبر فرق المرجئة الغلاة.
ولن أستعجل نتائج بحثي، ولكن حسبي أن أدَّعِي دعوى وأطرحها للمناقشة، وأقبل بكل سرور من يدلي بوجهة نظره فيها.
فمن واقع إسلامي وتخصصي رأيت أن أقول كلمة؛ عسى الله أن ينفع بها، ويعلم الله أنني لو لم أشعر أن قولها واجب ضروري لما سطرتها، ولكن الموضوع أكبر من أن يسكت عليه أو يجامل فيه.
  1. ملاحظات على كلام الشيخين الصابوني والفوزان

    ولي على كلام الشيخين ملاحظات:
    1- أما الصابوني فلا يؤسفني أن أقول: إن ما كتبه عن عقيدة السلف والأشاعرة يفتقر إلى أساسيات بدائية لكل باحث في العقيدة، كما أن أسلوبه بعيد كثيراً عن المنهج العلمي الموثق وعن الأسلوب المتعقل الرصين.
    وقد استبشرت بالبيان الأخير خيراً، وحسبته بيان رجوع وبراءة، فإذا هو بيان إصرار وتوكيد.
    ونظراً لكونه ليس إلا جزءاً من تيار بدعي يراد له اكتساح الأمة، ونظراً لتعرضه لقضايا بالغة الخطورة تحتاج إلى بحث مستفيض لا تسعه المقالات الصحفية، فسوف أرجئ الكلام عنه إلى حين يتيسر لي بإذن الله إخراج الرد في الصورة التي أراها.
    وليكن معلوماً أن هذا الرد الموعود ليس مقصوداً به الصابوني ولا غيره من الأشخاص، فالمسألة أكبر من ذلك وأخطر، إنها مسألة مذهب بدعي له وجوده الواقعي الضخم في الفكر الإسلامي حيث تمتلئ به كثير من كتب التفسير وشروح الحديث وكتب اللغة والبلاغة والأصول فضلاً عن كتب العقائد والفكر، كما أن له جامعاته الكبرى ومعاهده المنتشرة في أكثر بلاد الإسلام من الفلبين إلى السنغال.
    وقد ظهرت في الآونة الأخيرة محاولات ضخمة متواصلة لترميمه وتحديثه، تشرف عليها هيئات رسمية كبرى ويغذوها المستشرقون بما ينبشون من تراثه ويخرجون من مخطوطاته.
    ولهذا وجب على كل قادر أن يبين لأمته الحق وينصح لها مهما لقي، فإن مما كان يبايع عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه النصح لكل مسلم وأن يقولوا الحق لا تأخذهم فيه لومة لائم.
    2- أما فضيلة الشيخ الفوزان فقد أحسن إلى المجتمع وقرائها بتلك المقالة القيمة، فقد عرض فيها على قصرها حقائق أصولية مركزة في أسلوب علمي رصين.
    وله العذر كل العذر إذا لم يستوف الرد على الصابوني وبيان التناقضات التي هي سمة من سمات المنهج الأشعري نفسه؛ لأن الموضوع أكبر من أن تحيط به مقالة صحفية.
    ولهذا رأيت من واجبي أن أضيف إلى ما كتبه فضيلته مستدركاً ما لا يجوز تأجيله إلى ظهور الرد المتكامل:
    أولاً: فات فضيلته أن يرُدَّ على الصابوني فيما عزاه إلى شَيْخ الإِسْلامِ مكرراً إياه من قوله: {{ الأشعرية أنصار أصول الدين، والعلماء أنصار فروع الدين}}.
    ولعل الشيخ وثق في نقل الصابوني، مع أن الصابوني على ما أرجح أول من يعلم بطلان نسبة هذا الكلام لـشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية، ولغة العبارة نفسها ليست من أسلوب شَيْخ الإِسْلامِ، والغريب حقاً أنه أعاد هذا العزو في بيانه الأخير بالعدد [646] مؤكداً إصراره على التمويه والتدليس.
    وأنا أطلب من كل قارئ أن يراجع النص في [ج 4 ص 16] من مجموع الفتاوى، ليجد بنفسه قبل تلك العبارة نفسها كلمة "قال" فالكلام محكي منقول وقائله هو المذكور في أول الكلام آخر سطر من [ص 15] حيث يقول شَيْخ الإِسْلامِ:
    ''وكذلك رأيت في فتاوى الفقيه أبي محمد فتوى طويلة.. قال فيها:.." إلى أن يقول: [قال: وأما لعن العلماء الأئمة الأشعرية فمن لعنهم عزر وعادت اللعنة عليه... والعلماء أنصار فروع الدين والأشعرية أنصار أصول الدين." قال: وأما دخولهم النار..]]الخ''
    وفي آخر هذه الفتوى نفسها يقول شَيْخ الإِسْلامِ [ص 158/159]: ''وأيضاً فيقال لهؤلاء الجهمية الكلابية كصاحب هذا الكلام أبي محمد وأمثاله كيف تدعون طريقة السلف وغاية ما عند السلف أن يكونوا متابعين لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟'' إلى أن يقول: ''وأبو محمد وأمثاله قد سلكوا مسلك الملاحدة الذين يقولون إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين الحق في باب التوحيد''.
    وبهذا يتضح قطعاً:
    أ- أن العبارة المذكورة ليست من قول شَيْخ الإِسْلامِ بل قائلها أشعري يمدح مذهبه.
    ب- أن شَيْخ الإِسْلامِ نسب هذا القائل ومذهبه إلى الجهمية الكلابية واتِّباع طريقة الملاحدة، وأنكر عليهم ادعاء طريقة السلف، وهذا ينفي ما حاول الصابوني تدليسه في مقالاته الست تماماً.

  2. ذكر بعض مؤلفات شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم في الرد على الأشاعرة

    وبالمناسبة أذكر بعض ما يحضرني من الكتب التي ألفها شَيْخ الإِسْلامِ في الرد على الأشاعرة نصاً غير التي رد عليهم فيها مع غيرهم:
    1- درء تعارض العقل والنقل: وهو كله رد عليهم بالأصالة كما نص في مقدمته، حيث استفتحه بذكر قانونهم الكلي الآتي في [ص 18].
    2- بيان تلبيس الجهمية: المسمى نقض التأسيس: رد فيه على إمامهم الثاني " الفخر الرازي ". صاحب تأسيس التقديس أو أساس التقديس.
    3- التسعينية: وهي التي كتبها في الأشهر الأخيرة من حياته رحمه الله جواباً عن محاكمة الأشاعرة له .
    4- شرح العقيدة الأصفهانية : وهي شرح لعقيدة الشمس الأصفهاني التي جرى فيها على بعض أصول الأشاعرة.
    5- الفتوى الحموية: وهي معروفة.
    6- الرسالة المدنية : وهي في الجزء السادس من مجموع الفتاوى، وطبعت مفردة بـمصر.
    7- النبوات : وهو نقض لكلام الباقلاني خاصة، والأشاعرة عامة في النبوات.
    8- الإيمان : وهو نقد للأشاعرة في الإيمان، وذكر بقية المرجئة تبعاً.
    9- القاعدة المراكشية: وهي كالبيان لمذهب الإمام مالك وأئمة المالكية في العقيدة، ضد المتأخرين من مالكية المغاربة المائلين إلى مذهب الأشعري، وهي في الجزء الخامس من مجموع الفتاوى وطبعت محققة.
    10- المناظرة في العقيدة الواسطية : ألفها في محاكمة الأشاعرة له بسبب الواسطية وهي في الجزء الثالث من مجموع الفتاوى.
    11- الاستقامة: كتبه نقضاً لكتاب القشيري الصوفي الأشعري، وبَيَّن فيه أن عقيدة أئمة السلوك المعتبرين هي مذهب السلف، وأن بداية الانحراف في العقيدة عند المنتسبين للتصوف في الجملة إنما جاءت متأخرة في أوائل القرن الخامس حين انتشر مذهب الأشعري.
    ولتلميذه ابن القيم رحمه الله في الرد على الأشاعرة كتب منها :
    1- الصواعق المرسلة: ناقش فيه أصولهم ومنها موقفهم من النصوص.
    2- شفاء العليل : معظمه عنهم.
    3- العقيدة النونية : معظمها عنهم.
    4- اجتماع الجيوش الإسلامية: كله رد على مذهبهم خصوصاً في نفي العلو.
    هذا ولم يصدر من شَيْخ الإِسْلامِ مدح مطلق للأشاعرة أبداً، وإنما غاية مدحه لهم كما في [ج 12] من الفتاوى أن يصفهم بأنهم أقرب من غيرهم، وأن مذهبهم مركب من الوحي والفلسفة، أو يمدح المشتغلين منهم بالحديث، لا لكونهم أشاعرة ولكن لاشتغالهم بالسنة مع سؤال المغفرة لهم فيما وافقوا فيه متكلمي مذهبهم.
    لكن هذا أقل بكثير من المواضع التي صرح فيها بتبديعهم وتضليلهم وفساد منهجهم فهي أكثر من أن تحصر.
    كما أنه حدد -رحمه الله- متى يعد المنتسب إلى الأشعري من أهل السنة فقال:
    ''أما من قال منهم بكتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يظهر مقالة تناقض ذلك؛ فهذا يعَدُّ من أهل السنة، لكن مجرد الانتساب إلى الأشعري ؛ لا سيما وأنه بذلك يوهم حسناً لكل من انتسب هذه النسبة، وينفتح بذلك أبواب شر'' أي أن من كان على عقيدة السلف منهم لا ينبغي له الانتساب للأشعري لأنه بدعة ومذمة.
  3. تكفير الأشاعرة لأهل السنة

    ثانياً: أحسن الشيخ في مطالبة الصابوني بأي دليل صحيح على مسألة تكفير الأشاعرة، ويضاف إلى كلام فضيلته:
    إن الحاصل فعلاً هو العكس، فـالأشاعرة هم الذين كفروا وما يزالون يكفرون أتباع السلف؛ بل كفروا كل من قال إن الله تعالى موصوف بالعلو -كما سيأتي هنا- وحسبك تكفيرهم واضطهادهم لـشَيْخ الإِسْلامِ وهو ما لم يفعله أهل السنة بعالم أشعري قط.
    وقد سطر -رحمه الله- بعض جورهم عليه في أول التسعينية وصرح به كل من كتب عن سيرته.
    ولولا الإطالة لأوردت بعض ما تصرح به كتب عقيدتهم من اتهامه بالزندقة والكفر والضلال.
    ومن الأمثلة المعاصرة كتب الكوثري ومقالاته، وكتاب براءة الأشعريين وكتاب ابن تيمية ليس سلفياً، وبعض ما في كتاب أركان الإيمان .
    .

    فيا عجباً لهؤلاء القوم يكفرونه ثم يدعون أنهم وإياه على مذهب واحد ويشملهم جميعاً اسم "السنة والجماعة"!!
  4. المراد باصطلاح أهل السنة والجماعة

    ثالثاً: كان بودي أن يُفصِّل الشيخ معنى مصطلح أهل السنة ودخول الأشاعرة فيه أو عدمه، وهي التي يدندن حولها الصابوني، وأنا أوجزه جداً فأقول: إن مصطلح أهل السنة والجماعة يطلق ويراد به معنيان:
    [أ] المعنى الأعم: وهو ما يقابل الشيعة، فيقال: المنتسبون للإسلام قسمان: أهل السنة والشيعة، مثلما عَنْوَنَ شَيْخ الإِسْلامِ كتابه في الرد على الرافضي "منهاج السنة"، وفيه بيَّن هذين المعنيين، .وصرح أن ما ذهبت إليه الطوائف المبتدعة [هي] من أهل السنة بالمعنى [الأعم].
    وهذا المعنى يدخل فيه كل من سوى الشيعة كـالأشاعرة، لاسيما والأشاعرة فيما يتعلق بموضوع الصحابة والخلفاء متفقون مع أهل السنة، وهي نقطة الاتفاق المنهجية الوحيدة كما سيأتي.
    [ب] المعنى الأخص: وهو ما يقابل المبتدعة وأهل الأهواء وهو الأكثر استعمالاً وعليه كتب الجرح والتعديل، فإذا قالوا عن الرجل: إنه صاحب سنة أو كان سنياً أو من أهل السنة ونحوها، فالمراد أنه ليس من إحدى الطوائف البدعية كـالخوارج والمعتزلة والشيعة، وليس صاحب كلام وهوى.
    وهذا المعنى لا يدخل فيه الأشاعرة أبداً؛ بل هم خارجون عنه وقد نص الإمام أحمد وابن المديني على أن من خاض في شيء من علم الكلام لا يعتبر من أهل السنة وإن أصاب بكلامه السنة حتى يدع الجدل ويسلم للنصوص، فلم يشترطوا موافقة السنة فحسب بل التلقي والاستمداد منها، .فمن تلقى من السنة فهو من أهلها وإن أخطأ، ومن تلقى من غيرها فقد أخطأ وإن وافقها في النتيجة.
    والأشاعرة -كما سترى- تلقوا واستمدوا من غير السنة ولم يوافقوها في النتائج، فكيف يكونون من أهلها!!
    وإذا كانت كتب الأشاعرة تتبرأ من "الحشوية والمجسمة والنابتة والمشبهة" وغير ذلك مما يلقبون به أهل السنة والجماعة، فكيف يكونون وهم سواء!!
  5. حكم الأشاعرة عند أتباع الأئمة الأربعة

    وسنأتي بحكمهم عند أئمة المذاهب الأربعة من الفقهاء فما بالك بأئمة الجرح والتعديل من أصحاب الحديث: -
    [1] عند المالكية:
    روى حافظ المغرب وعلمها الفذ ابن عبد البر بسنده عن فقيه المالكية بالمشرق ابن خويز منداد: أنه قال في كتاب الشهادات شرحاً لقول مالك لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء، وقال:
    ''أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكلام، فكل متكلم فهو من أهل الأهواء والبدع أشعرياً كان أو غير أشعري، ولا تقبل له شهادة في الإسلام أبداً، ويهجر ويؤدب على بدعته فإن تمادى عليها استتيب منها''.
    وروى ابن عبد البر نفسه في "الانتقاء" عن الأئمة الثلاثة "مالك وأبي حنيفة والشافعي" نهيهم عن الكلام وزجر أصحابه وتبديعهم وتعزيرهم.
    ومثله ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية، فماذا يكون الأشاعرة إن لم يكونوا أصحاب كلام؟!
    [2] عند الشافعية:
    قال الإمام أبو العباس بن سريج الملقب بالشافعي الثاني، وقد كان معاصراً للأشعري: ''لا نقول بتأويل المعتزلة و الأشعرية والجهمية والملحدة والمجسمة والمشبهة والكرامية والمكيفة، بل نقبلها بلا تأويل ونؤمن بها بلا تمثيل''.
    قال الإمام أبو الحسن الكرجي من علماء القرن الخامس من الشافعية ما نصه: ''لم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن ينسبوا إلى الأشعري ويتبرءون مما بنى الأشعري مذهبه عليه، وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحوم حواليه على ما سمعت من عدة من المشايخ والأئمة" وضرب مثالاً بشيخ الشافعية في عصره الإمام أبي حامد الإسفرائيني الملقب "الشافعي الثالث" قائلاً: ''ومعلوم شدة الشيخ على أصحاب الكلام حتى ميز أصول فقه الشافعي من أصول الأشعري، وعلقه عنه أبو بكر الزاذقاني وهو عندي، وبه اقتدى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتابيه اللمع والتبصرة، حتى لو وافق قول الأشعري وجهاً لأصحابنا ميَّزَه وقال: "هو قول بعض أصحابنا وبه قالت الأشعرية ولم يعدهم من أصحاب الشافعي، استنكفوا منهم ومن مذهبهم في أصول الفقه فضلاً عن أصول الدين''.
    وبنحو قوله بل أشد منه قال شَيْخ الإِسْلامِ الهروي الأنصاري.
    [3] الحنفية:
    معلوم أن واضع الطحاوية وشارحها كليهما حنفيان، وكان الإمام الطحاوي معاصراً للأشعري، وكتب هذه العقيدة لبيان معتقد الإمام أبي حنيفة وأصحابه وهي مشابهة لما في الفقه الأكبر عنه، وقد نقلوا عن الإمام أنه صرح بكفر من قال: إن الله ليس على العرش أو توقف فيه، وتلميذه أبو يوسف كفر بشراً المريسي، ومعلوم أن الأشاعرة ينفون العلو وينكرون كونه تعالى على العرش ومعلوم أيضاً أن أصولهم مستمدة من بشر المريسي .
    [4] الحنابلة:
    موقف الحنابلة من الأشاعرة أشهر من أن يذكر، فمنذ بدَّع الإمام أحمد " ابن كلاب " وأمر بهجره- وهو المؤسس الحقيقي للمذهب الأشعري -لم يزل الحنابلة معهم في معركة طويلة، وحتى في أيام دولة نظام الملك - التي استطالوا فيها - وبعدها كان الحنابلة يخرجون من بغداد كل واعظ يخلط قصصه بشيء من مذهب الأشاعرة، ولم يكن ابن القشيري إلا واحداً ممن تعرض لذلك، وبسبب انتشار مذهبهم وإجماع علماء الدولة لا سيما الحنابلة على محاربته أصدر الخليفة القادر منشور "الاعتقاد القادري" أوضح فيه العقيدة الواجب على الأمة اعتقادها سنة 433 هـ. .
    هذا وليس ذم الأشاعرة وتبديعهم خاصاً بأئمة المذاهب المعتبرين بل هو منقول أيضاً عن أئمة السلوك الذين كانوا أقرب إلى السنة واتباع السلف، فقد نقل شَيْخ الإِسْلامِ في الاستقامة كثيراً من أقوالهم في ذلك وأنهم يعتبرون عقيدة الأشعرية منافياً لسلوك طريق الولاية والاستقامة حتى أن عبد القادر الجيلاني لما سئل: هل كان لله ولي على غير اعتقاد أحمد بن حنبل؟ قال: ''ما كان ولا يكون".
    فهذا موجز مختصر جداً لحكم الأشاعرة في المذاهب الأربعة، فما ظنك بحكم رجال الجرح والتعديل ممن يعلم أن مذهب الأشاعرة هو رد خبر الآحاد جملة، وأن في الصحيحين أحاديث موضوعة أدخلها الزنادقة.. وغيرها من الطوام!!
    وانظر إن شئت ترجمة إمامهم المتأخر الفخر الرازي في الميزان ولسان الميزان.
    فالحكم الصحيح في الأشاعرة أنهم من أهل القبلة ولاشك في ذلك، أما أنهم من أهل السنة فلا، وسيأتي تفصيل ذلك في الموضوعات التالية.
    وهاهنا حقيقة كبرى أثبتها علماء الأشعرية الكبار بأنفسهم -كـالجويني وابنه أبي المعالي والرازي والغزالي وغيرهم- وهي حقيقة إعلان حيرتهم وتوبتهم ورجوعهم إلى مذهب السلف، وكتب الأشعرية المتعصبة مثل طبقات الشافعية أوردت ذلك في تراجمهم أو بعضه فما دلالة ذلك؟
    إذا كانوا من أصلهم على عقيدة أهل السنة والجماعة فعن أي شيء رجعوا؟ ولماذا رجعوا؟ وإلى أي عقيدة رجعوا؟
  6. إثبات أن عوام المسلمين على مذهب أهل السنة

    رابعاً: دعوى الأشاعرة أن أكثر أئمة المسلمين على مذهبهم دعوى عارية عن الدليل يكذبها الواقع التاريخي، وكتب الأشاعرة نفسها عند تعريف مذهبي السلف والخلف تقول: إن مذهب السلف هو مذهب القرون الثلاثة وبعضها يقول: إنه مذهب القرون الخمسة .فماذا بقي بعد هذه القرون؟
    وصدقوا، فالثابت تاريخياً أن مذهب الأشاعرة لم ينتشر إلا في القرن الخامس إثر انتشار كتب الباقلاني. .
    ولولا ضيق المجال لسردت قائمة متوازية أذكر فيها كبار الأشاعرة ومن عاصرهم من كبار أهل السنة والجماعة الذين يفوقون أولئك عدداً وعلماً وفضلاً.
    وحسبك ما جمعه ابن القيم في اجتماع الجيوش الإسلامية والذهبي في العلو وقبلهما اللالكائي.
    أما عوام المسلمين فالأصل فيهم أنهم على عقيدة السلف؛ لأنها الفطرة التي يولد عليها الإنسان وينشأ عليها المسلم بلا تلقين ولا تعليم [من حيث الأصل] فكل من لم يلقنه المبتدعة بدعتهم ويدرسوه كتبهم فليس من حق أي فرقة أن تدعيه إلا أهل السنة والجماعة.
    ومن الأدلة على ذلك الإنسان الذي يدخل في الإسلام حديثاً , فهل تستطيع أي فرقة أن تقول: إنه معتزلي أو أشعري؟
    أما نحن فبمجرد إسلامه يصبح واحداً منا.
    وإن شئت المثال على عقيدة العوام فاسأل الملايين من المسلمين شرقاً وغرباً هل فيهم من يعتقد أن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا تحته كما تقول الأشاعرة؟!
    أم أنهم كلهم مفطورون على أنه تعالى فوق المخلوقات، وهذه الفطرة تظل ثابتة في قلوبهم حتى وإن وجدوا من يلقنهم في أذهانهم تلك المقولة الموروثة عن فلاسفة اليونان.
    وقس على هذا نظرية الكسب، والكلام النفسي، ونفي التأثير، وأشباهها مما سترى في عقائد الأشاعرة.
  7. تحقيق نسبة ابن حجر وأمثاله لمذهب الأشاعرة

    على أن الموضوع الذي يجب التنبيه إليه هو التفريق بين متكلمي الأشاعرة، كـالرازي والآمدي والشهرستاني والبغدادي والإيجي ونحوهم، وبين من تأثر بمذهبهم عن حسن نية واجتهاد، أو متابعة خاطئة، أو جهل بعلم الكلام، أو لاعتقاده أنه لا تعارض بين ما أخذ منهم وبين النصوص.
    ومن هذا القسم أكثر الأفاضل الذين يحتج بذكرهم الصابوني وغيره وعلى رأسهم الحافظ ابن حجر -رحمه الله-.
    ولست أشك أن الموضوع يحتاج لبسط وإيضاح، ومع هذا فإنني أقدم للقراء لمحة موجزة عن موقف ابن حجر من الأشاعرة :
    من المعلوم أن إمام الأشعرية المتأخر الذي ضبط المذهب وقعد أصوله هو الفخر الرازي [606 هـ] ثم خلفه الآمدي [631 هـ] والأرموي [655هـ] فنشرا فكره في الشام ومصر واستوفيا بعض القضايا في المذهب.
    ونَقْدُ فكر هؤلاء الثلاثة هو الموضوع الرئيسي في كتاب درء التعارض لـشَيْخ الإِسْلامِ.
    وأعقبهم الإيجي صاحب المواقف - الذي كان معاصراً لـشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية - فألف "المواقف" الذي هو تقنين وتنظيم لفكر الرازي ومدرسته، وهذا الكتاب هو عمدة المذهب قديماً وحديثاً.
    وقد ترجم الحافظ الذهبي رحمه الله في الميزان وغيره للرازي والآمدي بما هم أهله، ثم جاء ابن السبكي -ذلك الأشعري المتعصب- فتعقبه وعنف عليه ظلماً.
    ثم جاء ابن حجر رحمه الله فألف لسان الميزان فترجم لهما بطبيعة الحال - ناقلاً كلام ابن السبكي ونقده للذهبي .ولم يكن يخفى عليه مكانتهما وإمامتهما في المذهب كما ذكر طرفاً من شنائع الأرموي ضمن ترجمة الرازي.
    فماذا كان موقف ابن حجر؛ لأن موقفه هو الذي يحدد انتماءه لفكر هؤلاء القوم أو عدمه؟
    إن الذي يقرأ ترجمتيهما في اللسان لا يمكن أن يقول: إن ابن حجر على مذهبهما أبداً، كيف وقد أورد نقولاً كثيرة موثقة عن ضلالهما وشنائعهما التي لا يقرها أي مسلم فضلاً عمن هو في علم الحافظ وفضله.
    على أنه قال في آخر ترجمة الرازي "أوصى بوصية تدل على أنه حسن اعتقاده".
    وهذ العبارة التي قد يفهم منها أنها متعاطفة مع الرازي ضد مهاجميه هي شاهد لما نقول نحن هنا، فإن وصية الرازي التي نقلها ابن السبكي نفسه صريحة في رجوعه إلى مذهب السلف.
    فبعد هذا نسأل:
    أكان ابن حجر يعتقد أو يؤيد عقيدة الرازي التي في كتبه، أم عقيدته التي في وصيته؟
    الإجابة واضحة من عبارته نفسها. هذه واحدة.
    الوجه الآخر: أن الحافظ في الفتح قد نقد الأشاعرة باسمهم الصريح وخالفهم فيما هو من خصائص مذهبهم فمثلاً:
    خالفهم في الإيمان، وإن كان تقريره لمذهب السلف فيه يحتاج لتحرير.
    ونقدهم في مسألة المعرفة، وأول واجب على المكلف في أول كتابه وآخره. .
    كما أنه نقد شيخهم في التأويل "ابن فورك" في تأويلاته التي نقلها عنه في شرح كتاب التوحيد من الفتح، وذم التأويل والمنطق مرجحاً منهج الثلاثة القرون الأولى.
    كما أنه يخالفهم في الاحتجاج بحديث الآحاد في العقيدة وغيرها من الأمور التي لا مجال لتفصيلها هنا.
    والذي أراه أن الحافظ -رحمه الله- أقرب شيء إلى عقيدة مفوضة الحنابلة كـأبي يعلى ونحوه ممن ذكرهم شَيْخ الإِسْلامِ في درء تعارض العقل والنقل، ووصفهم بمحبة الآثار والتمسك بها لكنهم وافقوا بعض أصول المتكلمين وتابعوهم ظانين صحتها عن حسن نية.
    وقد كان من الحنابلة من ذهب إلى أبعد من هذا كـابن الجوزي وابن عقيل وابن الزاغوني، ومع ذلك فهؤلاء كانوا أعداء ألدّاء للأشاعرة، ولا يجوز بحال أن يعتبروا أشاعرة فما بالك بأولئك!!
    والظاهر أن سبب هذا الاشتباه في نسبة بعض العلماء للأشاعرة أو أهل السنة والجماعة هو أن الأشاعرة فرقة كلامية انشقت عن أصلها "المعتزلة" ووافقت السلف في بعض القضايا وتأثرت بمنهج الوحي، في حين أن بعض من هم على مذهب أهل السنة والجماعة في الأصل تأثروا بسبب من الأسباب بأهل الكلام في بعض القضايا وخالفوا فيها مذهب السلف.
    فإذا نظر الناظر إلى المواضع التي يتفق فيها هؤلاء وهؤلاء ظن أن الطائفتين على مذهب واحد، فهذا التداخل بينهما هو مصدر اللبس.
    وكثيراً ما تجد في كتب الجرح والتعديل -ومنها لسان الميزان للحافظ ابن حجر- قولهم عن الرجل: إنه وافق المعتزلة في أشياء من مصنفاته أو وافق الخوارج في بعض أقوالهم وهكذا، ومع هذا لا يعتبرونه معتزلياً أو خارجياً.
    وهذا المنهج إذا طبقناه على الحافظ وعلى النووي وأمثالهما لم يصح اعتبارهم أشاعرة؛ وإنما يقال: وافقوا الأشاعرة في أشياء، مع ضرورة بيان هذه الأشياء واستدراكها عليهم حتى يمكن الاستفادة من كتبهم بلا توجس في موضوعات العقيدة.
    خامساً: قال فضيلة الشيخ الفوزان عن الأشاعرة: [نعم هم من أهل السنة والجماعة في بقية أبواب الإيمان والعقيدة وليسوا منهم في باب الصفات].
    وهذا سبق قلم من فضيلته، ومثل هذه الدعوى هي التي يهش لها الأشاعرة المعاصرون ويروجونها، لأنه إذا كان الفارق هو الصفات فقط قالوا: إن الخلاف فيها أصله الاجتهاد والكل متفقون على التنـزيه فكأنه لا خلاف إذاً! وربما قالوا: نحن مستعدون أن نثبت لله يداً وعيناً وسائر الصفات في سبيل توحيد الصف ووحدة الكلمة!!!
    وليكن معلوماً أن ابتداء أمر الأشاعرة أنهم توسلوا إلى أهل السنة أن يكفوا عن هجرهم وتبديعهم وتضليلهم وقالوا: نحن معكم ندافع عن الدين وننازل الملحدين، .
    فاغتر بهذا بعض علماء أهل السنة وسكتوا عنهم، فتمكن الأشاعرة في الأمة ثم في النهاية استطالوا على أولئك واستأثروا بهذا الاسم دون أهله، وأصبحوا هم يضللون أهل السنة ويضطهدونهم ويلقبونهم بأشنع الألقاب، فحتى لا تتكرر هذه المشكلة وإحقاقاً للحق رأيتُ من واجبي أن أسهم بتفصيل مذهب الأشاعرة في كل أبواب العقيدة؛ ليتضح أنهم على منهج فكري مستقل في كل الأبواب والأصول، ويختلفون مع أهل السنة والجماعة من أول مصدر التلقي حتى آخر السمعيات ما عدا قضية واحدة فقط.