المادة    
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ونفاة العلو أهل التعطيل لو فصلوا هذا التفصيل لهدوا إلى سواء السبيل، وعلموا مطابقة العقل للتنزيل، ولسلكوا خلف الدليل، ولكن فارقوا الدليل فضلوا عن سواء السبيل، والأمر في ذلك كما قال الإمام مالك رحمه الله، لما سئل عن قوله تعالى: (( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ))[الأعراف:54]: كيف استوى؟! فقال: [[الاستواء معلوم والكيف مجهول]]، ويروى هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم].
الشرح:
ذكر المصنف -رحمه الله تعالى- موضوع العلو في الفقرة السابقة، وذكر فيه أوجهاً تأتي بإذن الله تبارك وتعالى فيما بعد في موضوع العلو، ونحب أن نذكر شيئاً من التفصيل في موضوع الاستواء بالذات، فإنه من المعلوم أن إثبات الاستواء أخص من إثبات العلو، إذ ليس كل من يثبت العلو يثبت الاستواء، فإن العلو معلوم بالفطرة، ومعروف لدى العرب في الجاهلية ولدى الأمم السابقة، ولكن الاستواء لا يعلم إلا بالدليل الذي دل عليه كتاب الله سبحانه وتعالى، وإذا أثبتنا الاستواء وأبطلنا الشبه الواردة عليه، نكون قد أثبتنا العلو ضرورة، ولم تبق أية شبهة، بل إن كثيراً من الناس لم ينكروا العلو إلا لما انقدح في خيالهم الفاسد من أوهام إذا أثبتوا الاستواء.
وقد ذكرنا تلك العبارة العظيمة المنقولة عن الإمام مالك رحمه الله: [[الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة]]، وقلنا: إن هذه قاعدة ذهبية من قواعد السلف الصالح في باب الأسماء والصفات، فيقاس على الاستواء كل صفة من صفات الله تبارك وتعالى جاءت في القرآن، أو صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنة.
والروايات التي أشار إليها رحمه الله بقوله: "ويروي هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً ومرفوعاً"، وقد أشرنا سابقاً أن ذلك روي عن ربيعة شيخ مالك، وقد ذكر هذه الروايات جميعاً الحافظ اللالكائي رحمه الله تعالى، في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة المجلد الثاني الأثر رقم ( 662) ورقم (668 ) (ص:397-400).
فقد روى رحمه الله بسنده عن بشر بن عمر قال: (سمعت غير واحد من المفسرين يقولــون: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] قال: على العرش استوى: ارتفع).
وروى بسند آخر إلى أبي عمير الحنفي عن قرة بن خالد عن الحسن عن أمه عن أم سلمة في قولـــه: ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] قالت: [الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإقرار به إيمان، والجحود به كفر].
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه المسمى شرح حديث النزول، وهو موجود ضمن مجموع الفتاوى ( (5/365) يقول -بعد أن ذكر أن ما أجاب به الإمام مالك رحمه الله تعالى قد أجاب به غيره من أئمة السنة، ونص على أنه من قول مالك- يقول: "ومثل هذا الجواب ثابت عن ربيعة شيخ مالك " اهـ بمعناه.
قد يكون الإمام مالك رحمه الله أتى به من عند نفسه ابتداءً، فطابق كلامه كلام شيخه ربيعة، ولا مانع من ذلك؛ لأن الحق يتطابق ويتشابه، والكل يخرج من مشكاة واحدة.
ويمكن أن يكون مما أخذه وحفظه من شيخه ربيعة رحمهما الله تعالى، ثم علّم به ذلك الرجل الذي تأتي قصة سؤاله قريباً.
  1. حكم شيخ الإسلام على حديث الاستواء المروي عن أم سلمة

    قال شيخ الإسلام : "وقد روي هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها مرفوعاً وموقوفاً، ولكن ليس إسناده مما يعتمد عليه لا مرفوعاً ولا موقوفاً".
    نقول قطعاً وجزماً بالنسبة للمرفوع: لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، أو غير معقول، أو أياً من هذه العبارات، ولم يثبت ذلك عنه، فمن نسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك خطأ بيقين.
    وكذلك نسبته إلى أم سلمة قوياً؛ فإن إسناده لا يعتمد عليه، أي ليس موقوفاً عليها -من قولها- رضي الله تعالى عنها، وهذا هو الإسناد الذي ذكره اللالكائي هنا، وأشار إليه أيضاً الحافظ ابن حجر في فتح الباري في كتاب التوحيد (13/406)؛ لأنه هناك أطال رحمه الله في هذه المسألة، ونقل النقول في شرح كتاب التوحيد آخر كتاب من صحيح البخاري، وذكر كلام مجاهد، وكلام أبي العالية وغيرهم.
    والشيخ عبد الله الغنيمان أثابه الله شرح كتاب التوحيد، من صحيح البخاري شرحاً مستقلاً.
    وهذا الشرح ينبغي أن يقتنى؛ لأنه مفيد، وفيه تبسيط وإضافات وفوائد لا توجد في غيره وقد علق على هذه الآثار، ونقل نقولاً طيبة جديرة أن تراجع.
  2. جواب الإمام مالك عن معنى الاستواء

    ذكر اللالكائي رحمه الله الأثر الذي بعده بسنده عن جعفر بن عبد الله قال: جاء رجل إلى مالك بن أنس فقال له: يا أبا عبد الله! ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] كيف استوى؟...
    الرجل لم يسأل عن معنى الاستواء، وإنما سأل عن الكيفية، وهذا الذي نهى عنه السلف، وهذا الذي ليس من عقيدة أهل السنة والجماعة الذين يثبتون ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تكييف، فمقصود السلف من نهيهم عن التعرض لأدلة الصفات النهي عن قول: (كيف؟) وألا نقر من يسأل في صفات الله تعالى بالكيف، فيقول: كيف استوى؟ كيف يده؟ كيف وجهه؟ كيف ينزل؟ كيف يأتي؟ ونحو ذلك، لأننا لا نعلم ذاته سبحانه وتعالى، فكيف نعلم صفاته؟!
    فمعرفة كيفية الصفات فرع عن معرفة الذات، ولا إشكال في هذا، فهذا شيء معهود معقول، لا ينكره أحد؛ لأنه من الأمور العادية المعروفة، فإذا سألتك عن كيفية صفة من صفاته، فقلت لي: أنا لا أعلم الكيفية لأني لم أره، فسيكون جوابك سليماً، لأنك ما دمت لا تعرفه، فلن تتكلم في كيفية أية صفة من صفاته.
    يقول الراوي: (فما رأيت مالكاً وجد من شيء كموجدته من مقالته)، يعني: تأثر تأثراً شديداً رحمه الله ورضي عنه (وعلته الرحضاء) يعني: تغشاه العرق (كأنه محموم)، أي كأنما أصابته حمى بسبب هذا السؤال الذي لم يعهد مثله، ولم يسمعه أحد قبله من السلف الصالح، لا من سأل ولا من سئل، فكأنه رأى أن هذا شيء غريب، كعادة أهل الحق وأهل العلم والإيمان، إذا جيء بأمر مستغرب مستحدث في الدين، فإن الإنسان يقشعر جلده من هذا القول المبتدع المحدث.
    ويشبه هذا سؤال أحد التابعين أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: [[هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقالت: لقد قفَّ شعري مما قلت]] وذلك يدل على أن الإنسان إذا فوجئ بشيء مستغرب -وخاصة فيما يتعلق بالله عز وجل- فإنه يستنكره.
    ظهرت علامات وأمارات الاستنكار في هيئة الإمام مالك رحمه الله، وهو ذلك الرجل الرزين الوقور، المشهور بوقاره وسكينته، لكن هذا أمر لم يستطع أن يتمالك نفسه له، فتغشاه العرق، ووجد موجدة عظيمة، يقول الراوي: (وأطرق القوم وجعلوا ينتظرون ما يأتي منه فيه) فالكل ينتظرون ما سيجيب به الإمام على هذا السؤال المبتدع -أو سؤال المبتدع- قال: (فسري عن مالك ) أي: لما سري عنه وتمالك نفسه قال: [[الكيف غير معقول، والاستواء منه غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وإني أخاف أن تكون ضالاً.. وأمر به فأخرج]] أي أن ما يتعلق بالكيف الذي سألت عنه غير معقول؛ أي: لا يدخل في دائرة الإدراك العقلي البشري على الإطلاق، فهو أمر فوق ما تدركه العقول، لأنه من أمر الغيب بالكلية، (والاستواء منه غير مجهول)، يقول: أما الاستواء فمعناه غير مجهول، فكل من يعرف لغة العرب يعرف معنى الاستواء، لكن كيفيته -فيما يتعلق باتصاف الله سبحانه وتعالى به- شيء آخر تتقاصر دونه العقول، ولا يمكن أن تدركه.
    قال: (والإيمان به واجب)؛ لأن الله تبارك وتعالى ذكره في كتابه.
    قال: (والسؤال عنه بدعة) يعني عن كيفية الاستواء.
    ليس التفويض هو مذهب السلف الصالح كما يقال، وأنهم لا يسألون عن المعنى، فإنهم إذا قالوا: لا نسأل عن المعنى، أو لا نفسر، فالمقصود (لا نكيف).
    وقولهم: (أمِروّها كما جاءت بلا تفسير)، يعني: أمروها كما جاءت بلا كيف.
    أما المعنى اللغوي فهو معروف، لكن الكيفية هي المجهولة (غير المعقولة)، وهي التي يكون السؤال عنها بدعة، قال مالك : (وإني أخاف أن تكون ضالاً، وأمر به فأخرج) أي: أن هذا الرجل قد يكون مستعلماً مستفهماً يريد أن يعرف الحق، وقد يكون جاهلاً لا يعرف شيئاً عن الله، ولا يقدر الله تعالى حق قدره، وقد يكون من أهل الضلال، ومن أهل البدع، ممن نزغ الشيطان وألقى في قلوبهم الشبهات والضلالات، ليضل بها كثيراً؛ إذ أنه قد ظهرت ضلالات في تلك الآونة في زمن الإمام مالك رحمه الله، وكان الجعد بن درهم قد ظهر قبل ذلك في أوائل القرن الثاني، وممن سمعنا عنهم في العراق : الجعد والجهم ومن والاهم، كل أولئك كانوا قبل ذلك الزمن.
  3. جواب الإمام ربيعة عن معنى الاستواء

    ثم ذكر الإمام اللالكائي رحمه الله بعد هذه الآثار أثراً عن ربيعة، قال: (حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان عن يحيى بن آدم عن ابن عيينة قال: سئل ربيعة ).
    سفيان بن عيينة -وهو الإمام الثقة الثبت المشهور الذي لا يخفى فضله ومكانته على أحد في هذه الأمة- يقول: سئل ربيعة -وهو ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك -عن قوله : (( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5]، كيف استوى؟ قال: [[الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق]].
    (الاستواء غير مجهول) أي: أن كل أحد يعرف معناه ممن يفقه لغة العرب.
    (والكيف غير معقول) أي: لا يدخل ضمن إدراك العقول.
    قال: (ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق) هذه قاعدة عظيمة جليلة في كل أمر، وهي جديرة أن تحفظ لتضمنها معاني عظيمة، فالله تبارك وتعالى عرفنا بنفسه عز وجل، وجعل هذا الأمر واضحاً جلياً بمقدار ما تستطيع عقولنا أن تحتمل وأن تطيق، فالراسخون في العلم يفهمون ذلك، وكذلك من دونهم ممن يفهمون خطاب الشريعة، والرسول صلى الله عليه وسلم عليه البلاغ، كما نص الله تعالى على ذلك في كتابه: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ))[المائدة:67] فالنبي صلى الله عليه وسلم بلغ ما أنزل إليه، وكل ما أوحى ربُّه إليه فقد بلغه إلينا كاملاً، فما أخبرنا به عن الله عز وجل فيجب علينا التصديق به، وكما أنه من المحال أن يكتم النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أمره ربه بتبليغه، وأوحاه إليه، فكذلك لا يجوز ولا يحق لنا بأي حال ألا نصدق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
    وهذه القاعدة العظيمة تفيدنا كثيراً جداً، وذلك عندما ننظر إلى الضلالات والبدع التي أثارها الذين عطلوا صفات الله سبحانه وتعالى، واعترضوا على أحكامه، وعلى صفاته.
    فمثلاً: الباطنية اعترضوا على الصفات وعلى الأحكام جميعاً، فأولوا الصلاة والصيام والحج والزكاة، وكذلك النصيرية والدروز الملحدون الكفرة، اعترضوا وأوّلوا، وردوا كل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم تقريباً، ولم يثبتوا منه شيئاً إلا مجرد اللفظ؛ والرافضة ادعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أوحاه الله إليه، ونفاة الصفات أيضاً يقولون: إن إثبات العلو -مثلاً- يلزم منه التحيز والجسمية...إلخ.
    فنقول: لا يخلو الأمر من حالين: إما أنكم أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا محال، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم هذه الأمور، ولم تخطر له ببال، ولا لأحد من أصحابه، ولا من التابعين، فهم أعلم الخلق بالله، ولستم أعلم منهم بلا ريب أفلا يسعكم ما وسعهم؟!
    والاحتمال الآخر: أن تقولوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن الاستواء لابد أن يؤوَّل ويُقال: استوى بمعنى استولى، وأن اليد لابد أن تؤوَّل بمعنى القدرة، وأن الله لابد أن ينزه فتصرف هذه المعاني عن ظواهرها.
    والمبتدعة قد يكفرون من أخذ بظاهر الأدلة: فمن الأشعرية من يرى أن من اعتقد العلو وأن الله في السماء فهو كافر.
    فنقول: سبحان الله! إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم تَنزِل عليه هذه الآيات، ويذكر تلك الأحاديث، ولم يؤثر عنه -ولو مرة واحدة- أنه قال: يا أصحابي انتبهوا! أو يا أيها المسلمون انتبهوا، ونبهوا من خلفكم! أن هذه الألفاظ ليست على ظاهرها فيجب أن تؤولوها، لم يقل ذلك -ولو مرة واحدة- إذاً: لازم كلامهم أنهم يتهمونه صلى الله عليه وسلم بأنه كتم ذلك، فيقولون: لم نقل: إنه كتم؛ إذاً: فهل لم يعلم؟! وهل أنتم أعلم وأكثر تنزيهاً لله، أو أحرص على تنزيه الله منه صلى الله عليه وسلم؟ هذا باطل وذاك باطل، فيلزم من ذلك تصديقه صلى الله عليه وسلم كما قال ربيعة رحمه الله تعالى : (وعلى الرسول البلاغ وعلينا التصديق).
  4. قول ابن الأعرابي في معنى الاستواء لغة

    قال الإمام اللالكائي رحمه الله: "أخبرنا محمد بن جعفر النحوي إجازة، حدثنا أبو عبد الله نفطويه قال: حدثني أبو سليمان داود بن علي قال: كنا عند ابن الأعرابي ...) -وميزة الإمام اللالكائي رحمه الله أنه يذكر الأثر بالسند، وهذا الكلام نجده أيضاً مذكوراً في كثير من الكتب، مثل مختصر الصواعق، وفي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وفي كتاب العلو للذهبي - يقول: (كنا عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال له: ما معنى قول الله عز وجل: ( الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5]، فقال: (هو على عرشه كما أخبر عز وجل) -يعني: أنا لا أعلم الكيفية، فكوني إماماً أو لغوياً أعرف لغة العرب، لا يعني أنني أعرف كيفيات صفات رب العالمين، لكنه على عرشه كما أخبر، يكفينا أن نثبت علوه عز وجل واستواءه على عرشه، فهذا جواب أهل اللغة، وجواب أهل الإيمان والأثر- قال: يا أبا عبد الله، ليس هذا معناه، إنما معناه: استولى. قال: اسكت! ما أنت وهذا؟! -أي: ما يدريك؟! ما أنت وكلام العرب؟! ليس هذا شأنك ولا هو فنك ولا علمك، نحن الذين نعلم كلام العرب ولغتهم -قال: (اسكت! ما أنت وهذا؟! لا يقال: استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد، فإذا غلب أحدهما قيل: استولى".
    يقول ابن الأعرابي : لا تقول العرب (استوى)؛ بمعنى: (استولى) على الشيء، إلا إذا وجد له مضاد منازع منافس مغالب، فغَالَبه فغَلَبه، فنقول: استولى عليه، أما غير ذلك فلا، فإذا تنازع اثنان أو أكثر على مال أو ملك، فغلب أحدهما، واستحوذ على ما اختلفا عليه، نقول: استولى عليه فلان، يعني غالبه على شيء وانتزعه منه، وليس لله عز وجل منافس ولا مغالب، أخذ العرش منه، ثم نازعه الله تعالى فأخذه منه تعالى الله عما يصفون.
    وهذا أحد الوجوه العقلية التي أطال الكلام فيها الإمام العلامة ابن القيم رحمة الله تعالى عليه حين رد على نفاة العلو، كما سنشير إليه إن شاء الله فيما بعد.
    قال: أما سمعت النابغة :
    ألا لمثلك أو من أنت سابقه            سبق الجواد إذا استولى على الأمد
    أي إذا قطعه وغالبه.
    فهذا دليل على أن استوى في كلام العرب ليست بمعنى استولى، وإنما هذه فيها نوع مغالبة ومنازعة.
    وبسند آخر إلى أبي بكر محمد بن أحمد بن النضر وهو ابن بنت معاوية بن عمرو : (قال: كان أبو عبد الله بن الأعرابي جارنا، وكان ليله أحسن ليل) أي: في علم وعبادة وزهد وورع.
    وأئمة اللغة الأثبات الثقات كـالخليل بن أحمد والنضر بن شميل، وسيبويه، والكسائي وابن الأعرابي، هؤلاء كانوا أئمة علم ودين وقراءة وفقه، وفيهم الخير والصلاح، ولم يكونوا في شيء من البدع، فـالأصمعي الإمام الجليل المشهور لم يكن فيه شيء من البدع، بل كان ينكر على أهل البدع وأهل التأويل والضلالات، وجميع الفرق الخارجة عن منهج أهل السنة والجماعة، وهذا من فضل الله تعالى، وهكذا صان الله لغة العرب وإنما وقعت البدع في القرون والأجيال المتأخرة.
    يقول: (وذكر لنا أن ابن أبي داود سأله -ولعله ابن أبي دؤاد - قال: أتعرف في اللغة استوى بمعنى: استولى؟ فقال: لا أعرف).
    سبحان الله! هؤلاء -من حرصهم على الابتداع- يبحثون عن أي شيء يقوي بدعتهم، لو قال: نعم أعرف ذلك؛ لتهالكوا وتهافتوا عليه، وتركوا المعاني الأخرى الواضحة، إذ قد يكون في الكلمة معنيان، فلِم التهالك والتهافت على أحدهما؟! إنه الهوى، أما الإنسان الذي يأخذ الأمور من غير هوى ولا تعصب، فالمعنيان يستويان عنده، وقد يستوي المعنيان في اللغة، فإذا تأملنا كلام السلف، ووجدناهم رجحوا أحد المعنيين، أخذنا بكلام السلف .
  5. معنى الاستواء في اللغة (من كلام أبي العباس ثعلب)

    قال الإمام اللالكائي : "وجدت بخط أبي الحسن الدارقطني رحمه الله عن إسحاق الهادي قال: سمعت أبا العباس ثعلب يقول:
    استوى: أقبل عليه وإن لم يكن معوجاً.
    (( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ))[البقرة:29]: أقبل.
    ((اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ))[الأعراف:54]: علا.
    واستوى وجهه: اتصل.
    واستوى القمر: امتلأ.
    واستوى زيد وعمرو: تشابها واستوى فعلاهما، وإن لم تتشابه شخوصهما.
    هذا الذي يعرف من كلام العرب"، في معاني الاستواء.