أصحاب الفضيلة:
كان موضوع هذه الرسالة كما رأيتم بيان الواقع لا بيان الحكم الشرعي الذي أختاره وأرجحه فيه -مع أن كل ناظر منصف يعلم أنني متابع في رأيي للأرجح من كلام الأئمة السابقين والقول الوحيد لمشايخنا ومنهم سماحة الشيخ
عبد العزيز بن باز في كتابه
نقد القومية العربية وفضيلة الشيخ
صالح الفوزان في كتابه "
الولاء والبراء"، فضلاً عن فتاوى علماء الدعوة رحمهم الله أجمعين.
وكل علمائنا المعاصرين فيما أعلم يحرمون استقدام الكفار إلى
جزيرة العرب عمَّالاً مستأجرين، فكيف إذا كانوا حماة مستكبرين، ولا ريب عند كل مسلم أن الله تعالى إنما بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليحارب المشركين لا ليحارب بهم، وأمره أن يقاتل بمن أطاعه من عصاه، وهذا هو الأصل القطعي في المسألة، وكل نص جزئي يخالفه فلدينا جوابه ولله الحمد، ومع ذلك فقد كررت القول وما زلت أقول بالفرق بين الفتوى من الناحية الفقهية الخالصة -أي: حكم الاستعانة بالمشركين أياً كان القول فيها- وبين تنزيلها على الواقع أعنى تجويز استقدام نصف مليون صليبـي ويهودي إلى
جزيرة العرب وهو ما نخشى -عياذاً بالله- أن يتحول إلى استكانة لأعداء الله لا استعانة بهم، وقد بدت بوادر ذلك تلوح.
فقد يتفق من يقول بجواز الاستعانة المشروطة ومن يقول بالتحريم مطلقاً ومن يجيز ذلك للضرورة على أن الواقع ليس استعانة أصلاً، وذلك بناءً على معرفة الحال وتبين مناط الحكم، وهو ما أرجو أن تكون الرسالة قد أعطت صورة وافية عنه والأمر إليكم بعد ذلك.
أما ما لا أُعفي علماءنا منه بحال فهو بيان السبب الحقيقي في هذه المصيبة كما بيَّن الله في كتابه وجرت به سنته في خلقه قديماً وحديثاً أن ما أصابنا لم يكن إلا بما كسبت أيدينا واقترفنا من ذنوب وعصيان، وخروج عن شرع الله، ومجاهرة بما حرم الله، وموالاة أعداء الله، وتهاون في حق الله، وتقصير في دعوة الله، اشترك في ذلك الحاكم والمحكوم، والعالم والجاهل، والصغير والكبير، والذكر والأنثى على تفاوت فيما بينهم إلا من رحم الله ممن هم قائمون بالحق عرضة للبلاء غرض للسهام من عالم وداعية وناصح.
لقد ظهر الكفر والإلحاد في صحفنا، وفشا المنكر في نوادينا، ودُعي إلى الزنا في إذاعتنا وتلفزيوننا، واستبحنا الربا حتى أن بنوك دول الكفر لا تبعد عن بيت الله الحرام إلا خطوات معدودات.
أما التحاكم إلى الشرع -تلك الدعوى القديمة- فالحق أنه لم يبق للشريعة عندنا إلا ما يُسميه أصحاب الطاغوت الوضعي الأحوال الشخصية وبعض الحدود التي غرضها ضبط الأمن (ومنذ أشهر لم نسمع شيئاً منهم عن حد أقيم)، ومع ذلك وضعنا الأغلال الثقيلة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصفدنا الدعوة والموعظة بالقيود المحكمة، وهذا من استحكام الخذلان وشدة الهوان، ومن يُهِن الله فما له من مُكرِم.
وهكذا جنينا ثمرة الصراع الذي استغرق تاريخنا المعاصر كله بين مبدأين متناقضين هما:
1- مبدأ دولة العقيدة التي تجعل الجهاد غايتها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظيفتها.
2- ومبدأ دولة الرفاهية التي تجعل الشهوات الدنيوية غايتها والتغريب وسيلتها.
وحين انحازت فلسفة التنمية وخططها إلى الأخير منهما ولم يبق للأول إلا شعارات إعلامية وهياكل تقليدية تتآكل مع الزمن كان لا بد أن تقع السنة الربانية: {
سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه حتى ترجعوا إلى دينكم } ووقعت النازلة، فارتجف منا كل قلب، وذهل كل لب بعد أن كنا منصورين بالرعب، واستيقظنا فإذا جيشنا الذي كان أيام سيادة المبدأ الأول (قبل سبعين سنة) أكثر من 400.000 مجاهد وعجزت أمهر الاستخبارات العالمية عن اختراقه لا يتجاوز اليوم خُمُس ذلك العدد، وبينهم كثير من متبعي الشهوات ومضيعي الصلوات، وأصبحنا نستجدي لحمايتنا أمم الأرض كافرها ومسلمها حتى دويلات
أفريقيا الفقيرة.
هذا مع ما كنا فيه أيام الجهاد من الفقر والعوز اللذين كانا مضرب المثل في حين أن جيشنا الحديث يُنفق عليه منذ ثلاثين سنة على الأقل أكثر من ثلث ميزانيتنا الضخمة، وربما سمعتم ما قيل من أن ميزانية الجيش السعودي خلال هذه السنين أكثر من ميزانية دولة إسرائيل كلها، ومع ذلك فلدى الدولة
اليهودية مليون مقاتل وعشرون مفاعلاً نووياً، وقد ضربت
تونس و
بغداد و
أوغندا، وهددت بضرب
إسلام آباد واحتلت جيوشها خمسة أضعاف مساحة بلدها الأصلي.
أفيكون المغضوب عليهم أحرص على الموت وأخلص لدينهم وأمتهم وأحفظ لأموالهم منا؟!
عند طول الكارثة ظن الناصحون بالأمة خيراً، وقالوا ستُظهر التوبة، وتُعلِن الضراعة، وتخرج بقضِّها وحديدها تجأر إلى الله في الصعدات، وتعلو كلمة الحق ويخرس دعاة الفجور، وتتحول المدن والقرى والهجر إلى معسكرات جهادية، ويبرز العلماء إلى الميدان ويقودون مسيرة الجهاد، ويتداركون الموقف، ويحاسبون المفرط، وينبهون الغافل، وينذرون المُعرِض، وتتحول نفقات اللهو واللعب إلى الجهاد والمجالدة... ولكن هذا الظن قد خاب إذ سرعان ما عادت السكرة، واستحكمت الغفلة، ورانت الذنوب، وضاع صوت النصح بل حُورِب ومُنِع.
فيا أصحاب الفضيلة! هذا يومكم.. وهذا واجبكم.. والله ثُم المؤمنون معكم.
وعليكم بعد الله ينعقد الأمل، ولا زالت الأمة ولله الحمد لكم سامعة، ولنصحكم مستجيبة، فقودوها على بركة الله، واستخبروا الصادق منها يخبركم، واستشيروا المخلص يصدقكم، وأعيدوا النظر في الواقع وقارنوه بما ذكره الفقهاء عن الاستعانة تجدوا البون الشاسع.
وإنها لنصيحة أردنا بها إبراء الذمَّة، وإسداء المشورة، نضعها بين يدي مشايخنا الأجلاء وعلمائنا الأفاضل.