بعد بضع سنين قليلة في عمر الزمن لكنها طويلة ثقيلة في ليل القهر واليأس ما الذي حدث؟
القلوب واجفة، والأبصار مشدودة، والأنفاس لاهثة، عند كل إشارة إلى خبر عاجل أو حدث طارئ، والتساؤلات على كل شفة:
أين..؟ من..؟ كم..؟ يهود..! أمريكان..! انتفاضة..! شهداء...!
المشاهد تتوالى في الأذهان أكثر مما في هذه الفضائيات المتطورة:
تهاوي أوراق المفاوضات واحتراقها في لهب الغضب وجحيم القهر!
خزي راعي السلام الذي يعاقب الحملان الوديعة كلما هاجمتها الذئاب الشرسة!
ذهول أصحاب السيوف الخشبية الذين كلما داهمهم العدو هرعوا يحدُّون أطرافها على مبارد من الثلج!
انطلاقة مقلاع داود الذي نسجته الأيدي المغلولة، ووقوفه في مواجهة صواريخ جالوت!
عربات عسكرية تتراجع أمام حجارة، ورجل واحد يقاوم مئات الجنود المدججين بأحدث ما أنتجته التكنولوجيا الأمريكية!
وحشية إسرائيل التي فضحت أصدقاءها الموالين، وأحرجت أخدانها المتسترين، وقذفت بالمترددين إلى صفوف الأعداء الصرحاء!
إجماع إسلامي - لا نظير له من قبل - على أن الحل هو الجهاد!!
ذلك ما نطق به الرؤساء، والعلماء، والمفكرون الاستراتيجيون، والقادة الشعبيون، والخطباء والعامة الأميون، الرجال والنساء والأطفال.
الكل اجتمعوا على هذه الكلمة التي ما وقرت في الأذن إلا ونفذت إلى أعماق القلب، ثم تتبعها تساؤلات: كيف..؟ ومن أين..؟ ومع من..؟ ومتى..؟ وهل الحكام...؟ وهل الأمريكان...؟
شيخ أزهري رسمي يصرخ -في أكثر الفضائيات صخباً وأوسعها انتشاراً: لا يجدي مع اليهود إلا قاعدة: ((وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ))[البقرة:191].
ويسأله المذيع: ولكن يا شيخ، هل تعني القتل فعلاً (أي: هل تعي ما تقول)؟ وهل الأزهر معك؟ ويأتي الجواب صريحاً بالإيجاب.
غضب عارم في كل مكان، وأساليب جديدة في الرفض، ومحاولات جديدة للحل، فما الذي حدث، ولماذا؟
بعد متاهة طويلة من المفاوضات العقيمة، واللقاءات الفارغة المضمون؛ ظهر مفهوم "السلام" عند اليهود على حقيقته، وولدت الأزمة الجديدة بين تفاهة تنازل "الحمائم"، وعنف معارضة "الصقور"، في حين كان المحاور الآخر كالشاة العائرة بين الذئبين!!
(في إسرائيل صقور وحمائم) ذلك ما قيل لنا منذ رحلة السادات المشئومة!!
وصدَّقه بعضنا؛ لأن المعهود في خلق الله كلهم، سواء الأسرة، القبيلة، الدولة، أن يكون فيهم طرفا نقيضٍ في أي قضية!!
لكن ليس في هذه الدنيا طرفَا خلافٍ أغرب وأعجب من اليهود! فأنت قد تسمع تصريحات، أو تقرأ بيانات لا تستطيع أن تحكم على قائلها بأنه: من الحمائم أو من الصقور إلا من اسمه أو حزبه!!!
فحين تسمع زعيمين يهوديين - أحدهما سياسي والآخر كاهن - يتوعدان الفلسطينيين، ويرفضان إعادة الانتشار، فالمتبادر إلى فهمك أنهما من حزب الصقور، لكنك حين تعرف من هما، تعلم أنهما من المحسوبين على الحمائم!!
وحين تسمع أحد الصقور ينادي بالإبادة التامة للفلسطينيين، فاعلم أن الحمامة لا تخالفه إلا في الطريقة والوقت!!
وحضور مدريد أو أوسلو أو معسكر داود الثانية، لا يدل على أن الحاضرين حمائم، بل إنما يحضر من يصادف أن يكون في السلطة حينئذ من هؤلاء أو هؤلاء.
أسلوب غريب لا نظيرله في سياسات خلق الله الآخرين!
فالمنطق اليهودي يفترض أن يكون التنافس بين من يجعلونه صقراً، ومن يسمونه حمامة على التشدد والمغالاة والالتواء والمماطلة.
فهما متعارضان لكنهما متوازيان، وليسا وجهين لعملة واحدة فقط؛ بل كل منهما يصلح وجهاً لكل جهة.
ورحم الله القائل:
إن اليهود هم اليهود            فلا صقور ولا حمائم
العلة قائمة دائمة في حال الحرب وحال السلم، في حال الحكومة وحال المعارضة، إنها العقيدة اليهودية والنفسية اليهودية، التي لم تفقد خصائصها منذ قديم الزمان بشهادة أسفار التوراة المجموعة على مدى قرون متعاقبة -كما سنرى -.
فالحمائم تتحايل وتماطل من أجل التنازل عن شيء أو شبه شيء، والصقور تجادل وتناضل لكي لا يتم التنازل عن شيء، وبين تفاهة التنازل وعنف المعارضة انكشفت تلك الطبيعة (طبيعة النفسية اليهودية والعقيدة اليهودية) فتفجرت الأزمة.
أولاً: التنازل:
بعد سلسلة طويلة ومعقدة من المفاوضات، والوساطات والخلافات الإجرائية والمماحكات الجدلية، وافق باراك -أو كاد يوافق- على مشروع غريب لتقسيم المسجد الأقصى، لكنه يليق بالعقلية اليهودية الملتوية، وهو أن يكون التقسيم أفقياً على ثلاث مستويات:
1- المسجد والساحات.
2- ما تحت المسجد والساحات من الأرض.
3- ما فوق ذلك من الجو.
وأن تكون إسرائيل مسيطرة تماماً على القسم الأرضي كله، حيث يحتمل وجود الهيكل المزعوم، وكذلك تسيطر على الجو -وهذا لا يحتاج لاشتراط، فهي وحدها التي تملك المروحيات والطائرات، والفلسطينيون محرَّم عليهم ذلك مطلقاً- وينحشر نصيب السلطة العرفاتية بينهما على أن يكون عبارة عن صلاحية وظيفية أو (إشراف وظيفي) على المسجد والساحات، وهناك احتمال بنصر رمزي للسلطة يتمثل في رفع العَلَم الفلسطيني على هذه المساحة المحدودة من المدينة المقدسة.
ثانياً: المعارضة:
هبت المعارضة الدينية والحزبية في وجه باراك ونددت بهذا التنازل الرخيص، وضجت جمعيات ومؤسسات الهيكل - وهي أكثر من اثنتي عشرة جمعية أو مؤسسة - بالاحتجاج وتوعدت باراك والمسجد الأقصى والفلسطينيين جميعاً بالهلاك والتدمير.
ومما زاد الموقف تأزماً أن المفاوضات وقعت في موسم الصوم قريباً من يوم الغفران، وقريباً من ذكرى يوم خراب الهيكل على يد تيطس الروماني.
ومن هنا ربط المعارضون بين تيطس المجرم وباراك الخائن، وقال أحد الحاخامات: ''لا نبكي في هذه الذكرى خراب الهيكل قبل ألفي عام بل نبكي خرابه اليوم''
وتم إنقاذ الموقف على يد السفاح الشهير "شارون" -جزار صبرا وشاتيلا- وكانت زيارته المشئومة للمسجد الأقصى، فأجهزت على المشروع أو أجَّلته إلى حين..!!
بدون أي شك كانت زيارة شارون مدبرة أو معروفة لدى الحكومة اليهودية -فهي التي انتدبت ألفي جندي لحراسته- ولدى السلطة العرفاتية، حيث كان عرفات يراهن بردة الفعل الشعبية التي كان يتوقع انفجارها؛ لكنه لم يدرك أبعادها.
ولأن الأقصى عزيز على كل مسلم، ولأن صلف اليهود يستثير أَحْلَم الناس، ولأن الشعوب هي التي تدفع الثمن، تصدى الغيورون لـشارون ورد اليهود بوحشية التوراة المحرفة والتلمود، فاشتعلت الأرض المحتلة كلها، وتبعتها سائر الأقطار الإسلامية، وكانت انتفاضة رجب كالإعصار، وتخطت الحواجز والأسوار، وهتكت كثيراً من المؤامرات والأسرار.
وكان ذلك باختصار تعبيراً عن:
1 - القهر الذي يعاني منه الفلسطينيون، وانتفاضة المقهور لا يعدلها انتفاضة!
2 - احتقان الغضب والرفض الصامت للشعوب طوال هذه السنين العجاف.
3 - شعور الزعماء العرب بالإهانة والتهميش حين أصبحت اللعبة ثلاثية الأطراف: إسرائيل تطالب إلى ما لا نهاية، عرفات يستسلم ويتنازل باستمرار، أمريكا الحَكَم الجائر تريد منهم الانسياق وراء ما تقرره، والتوسط لإرغام الفلسطينيين على قبوله، وتفرض عليهم تمويل المشروعات، وتمرير القرارات إعلامياً، وفرض النتائج على الشعوب دون مراعاة للحساسية الدينية الخطرة للقضية.
بعض العرب نصح أمريكا قائلاً: ''إذا أردت أن تُطاع فأمر بما يُستطاع''.
ولكنها مضت في غطرستها بلا رادع، وهذا ما شعر به الأوروبيون واليابانيون -فضلاً عن الروس الراعي الآخر الذي تهدَّم بيته عليه- ولهذا كانت الغضبة عامة عارمة وإن اختلفت الأسباب.
على أن الملمح الجديد لانتفاضة رجب هو البروز الواضح للمصطلحات الإسلامية في لغة الخطاب لدى الجميع، وهو مؤشر للقوة المعنوية للصحوة المباركة، وأنها الطريق الأخير والوحيد بعد انكشاف زيف الشعارات العلمانية كلها.
وأقبلت تباشير الصباح ليوم سينتهي بغضب من الله، وانتقامٌ يسلطه على طواغيت الكفر وجند التخريب والإجرام.