1. خطورة البنيوية على اللغة والدين

    ومع كل ماسبق من نشأة البنيوية وما تطور عنها في سياق تاريخي معرفي مغاير ومناقض لما تنتمي إليه هذه الأمة، فلا بأس أن نتنـزل في الجدل ونفرض أن البنيوية ليست سوى منهج مجرد في الدراسات اللغوية والأدبية ونسأل:
    أليست البنيوية منهجاً مطرداً بقوانين وتحليلات شمولية قاطعة لا تستثني قائلاً ولا نصاً ولا لغة ً؟ ثم أليس ''الموقف الألسني يجرد كل قاعدة من قدسيتها؛ بل لا يرى قاعدة إلا فيما هو متداول وممارس من طرف المجموعات البشرية، وفي بعض الأحيان يرى تكسير القاعدة قاعدة.
    إن كل من يشك في الإجابة على هذا السؤال بالإيجاب هو في نظر البنيويين عدو لدود ورجعي تقليدي؛ ذلك أن قوة النظرية تستمد من شموليتها واطراد قانونها بخلاف سائر المناهج والاتجاهات المنطقية -كما يزعمون- وعليه فليس لدى البنيويين نص مقدس لا يخضع لنظريتهم، وتبعاً لذلك جرت دراسة التوراة والإنجيل بنيوياً مثلها مثل سائر النصوص، ومن هنا ندرك مدى خطورة الدعوة إلى البنيوية وتطبيقاتها على اللغة العربية التي أسمى ما فيها وذروة نصوصها باتفاق كل ناطق بها أو دارس لها هو "النص الموحى" -أي: كلام الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
    كيف يمكن أن تطبق على القرآن الكريم نظرية موت المؤلف، واستقلال النص وقيامه كوناً مستقلاً بذاته يفهمه كل قارئ كما يشاء، حيث أنه لا مانع لدى البنيوية من أن يكون له تفسيرات بعدد القراء بل أكثر من ذلك.
    فانظر إلى ما يقوله الدكتور الغذامي -بعد أن أطال في تقرير هذا الأمر، وجعله من أعظم ميزات المنهج وأسمى خصائصه:
    الكاتب صاغ النص حسب معجمه الألسني، وكل كلمة من هذا المعجم تحمل معها تاريخاً مديداً ومتنوعاً وعى الكاتب بعضه وغاب عنه بعضه الآخر، ولكن هذا الغائب إنما غاب عن ذهن الكاتب ولم يغب عن الكلمة التي تظل حبلى بكل تاريخياتها، والقارئ حينما يستقبل النص فإنه يتلقاه حسب معجمه، وقد يمده هذا المعجم بتواريخ للكلمات مختلفة عن تلك التي وعاها الكاتب حينما أبدع نصه، ومن هنا تتنوع الدلالة وتتضاعف، ويتمكن النص من اكتشاف قيم جديدة على يد القارئ، وتختلف هذه القيم وتتنوع من قارئ وآخر؛ بل عند قارئ واحد في أزمنة متفاوتة، وكل هذه التنوعات هي دلالات للنص حتى وإن تناقضت مع بعضها البعض.
    أيقبل مسلم تطبيق هذا الكلام على القرآن؟
    إن إقرار تطبيقه على شعر العرب ولغتهم وهدم قواعدهم النحوية والبلاغية جملة لابد أن يؤدي إلى ذلك حتماً.
    إن موقف طه حسين ومن وراءه أخف من هذا الموقف ولو من بعض الوجوه؛ ذلك أنه -وشيوخه المستشرقين- حين أرادوا هدم البيان القرآني -توصلاً إلى هدم الإسلام- اتخذوا ذريعة لذلك إنكار الشعر الجاهلي في ذات نصوصه، أما هذا المنهج البنيوي فهو يتنكر للقواعد والأصول والمعايير النحوية واللغوية؛ بل للفطرة العربية من أساسها، إنه يستبقي النصوص -أشباحاً وهلاماً- فقط!!
    فالأولون ساروا على منهج كفار قريش في الزعم بأن النص القرآني ليس منـزلاً من عند الله، والبنيويون حاكوا الباطنية في تفسيره -كما يشاءون- بلا ضابط من عقل أو نقل.
    وإنه لو قدر للحداثة العربية أن تسير على الدرب نفسه الذي سلكته نظيرتها التركية لكان معنى ذلك المسخ الكامل لا للغة فحسب بل لوجه الإسلام كله.
  2. أسباب رواج الحداثة العربية

    والحداثة العربية في جميع صورها إنما راجت لسببين أساسين هما:-
    1- جنوح الناس إلى الخروج عن المألوف ولهاثهم خلف "العصرنة"!!
    2- الخلط بين الحداثة -وإن شئت فقل بين الهدم- والتجديد.
    وهما يرجعان في الحقيقة إلى أمر واحد عاشته أوروبا وتعيشه كل الأمم، لأنه خطأ إنساني مشترك يمكن أن يقع فيه كل من لا يملك المعيار الرباني الثابت، وهو خطأ الاعتقاد في التقدم المطلق، واعتبار الزمن وحده معياراً للحكم على الأشياء.
  3. مصادقة الحداثة لنظرية التطور الحضاري والمعرفي

    في حين أن نظرة عقلية عجلى تؤكد أن الحداثة هي نفسها مفهوم نسبي بما أن حاضرنا هو ماضي الغد!!
    فكما رأينا -في أوروبا- كان لوثر أكبر الحداثيين في عصره، وهو الآن نموذج للبروتستانتي الكلاسيكي، ودانتي كان حداثياً كبيراً في زمانه، وهو الآن مثال الكلاسيكية الإنسانية.
    وكان ديكارت حداثي زمانه بالنسبة للفلسفة العقلية، ثم كان الرومانسيون في القرن الثامن عشر نموذج الحداثة الثائرة على العقلانية الجامدة!
    وفي أواخر القرن التاسع عشر كانت الرمزية ثورة حداثية على الاتجاهات جميعها، ولما ظهرت مدارس (اللامعقول) المتنوعة (السوريالية، العبثية، العدمية، الوجودية) كتب النقاد عنها باعتبارها أكبر انقلاب معرفي حداثي، وأسمى سارتر مجلته العصور الحديثة!!
    وفي الستينيات -كما أسلفنا- زعمت البنيوية أنها الثورة الحداثية التي لم يشهد التاريخ لها من نظير، ولكن نقيضها التفكيكية سرعان ما ظهرت في أواخر العقد نفسه مدعيةً الدعوى نفسها!!
    وفي أمريكا كانت موجة (الهيبيز) آخر صرعة في نظر مفكري ذلك العقد والآن تلاشت، وارتد كثيرون للأصولية الإنجيلية!!
    وهذا كله غير حداثة ماركس التي حقرت كل ما قبلها، وعندما جاء لينين صاغها بشكل تقدمي (حداثي) أكثر عصرية، ثم جاء عصر استالين وتبنى اتحاد الكتاب السوفيت آراءه الأكثر حداثة، وهكذا...
    إنه العقل البشري المحدود الضعيف الذي يتخيل كل مرحلة من مراحله أنها نهاية التاريخ، والدهر أعظم من ذلك وأطول لو كانوا يفقهون.
    ولا نستطيع أن نجرد الحداثيين العرب عن فهم هذه الحقيقة، لكنهم بذكائهم اللماح لم ينسوا أن اطراد "الجدلية" إلى نهاية التاريخ تساوي نهاية اللغة، يمكنه حل المأزق بافتراض أن اختفاء عنصر النقيض في المرحلة الأخيرة من الصراع الأبدي يؤدي إلى نهاية لا محدودة!! ولذلك تعجل هؤلاء الخطى وطالبوا -من الآن- بالوصول بالمعرفة إلى تلاشيها المطلق، وباللغة إلى تجريدها المطلق!!
    وبتعبير الحداثيين: (إن الوصول بالمعرفة السائدة والنمطية إلى تلاشيها المطلق ينفي احتمال ظهور أي وضع معرفي استاتيكي (ثابت)، وسيظل الانفجار المعرفي الحداثي هو السائد والوحيد إلى ما لا نهاية)!!
    وحسبك بهذه النتيجة من باطل لا تنكره بداءة العقول فحسب، بل يرفضه الواقع الحي في كل البلاد ولاسيما في الأدب العربي، إنه ليس من سنة الله كما أن الجمود المطلق ليس من سنته.
  4. احتواء الأدب العربي على العناصر الحركية المستمرة (الشعر مثلاً)

    فالنشاط الأدبي العربي هو جزء من النشاط الحيوي العام الذي يخضع للمبدأ الكلي المطلق في التصور الإسلامي وهو الحركة حول محور ثابت، فالتراث الأدبي في جملته يحوي عناصر حركية مستمرة -ديناميكية- ولكنها تنطلق في حركتها من أصول ثابتة وتلتزم بمعايير ثابتة، وهكذا يتجلى المنهج الفريد الجامع بين الاستقرار والمرونة، لا التصور الجدلي الأدبي العقيم. إن من دلالات الإبداع والعبقرية أن يأتي الأديب بتلك النماذج الفائقة التي لا يستطيع سائر الناس الإتيان بمثلها مع التزامه بنفس المعايير أو الأساليب التي يعرفون! يظهر هذا المنهج الفذ في الشعر العربي الذي توهم كثير من الداخلين في جحر الضب أن معاييره تضيق عن الإبداع وتستلزم الجمود!! كلا، إن الإبداع تسابق وما من سباق إلا وله مسارات وحواجز وضوابط، وإلا كان كل ماشٍ في الشارع متسابقاً، ولنأخذ مثالاً: الالتزام بالبحور الشعرية المعروفة، أيّ ضيق أو جمود فيها؟ إنها سعة لا نظير لها مطلقاً في شعر أي أمة من الأمم، مع الالتزام في الوقت نفسه بمعايير جمالية لا نظير لها كذلك، فالعروض العربي يتألف من ستة عشر بحراً، والبحر الواحد -غالباً- يكون منه التام والمجزوء والمشطور، وهذا ما يمكن تصنيفه -حسب المعايير الأوروبية- بحوراً جديدة، هذا غير ما يلحق التفعيلة نفسها من تغييرات معروفة لأهل الفن ولا يستفيد غيرهم من ذكرها هنا، إنها سعة تسمح للموهبة أن تبدع كما تشاء فيما تشاء مع ضبط لا يسمح بتسرب الطفيليات وولوج من لا يملك المفتاح.
  5. إصرار الحداثيين على التخبط

    أما حسب المفهوم الحداثي، فالطفل الصغير الذي يلغو بكلمات وتمتمات هائمة لا رابط بينها، والشاعر الذي يخبط في العروض والقوافي، ويلفق التراكيب الهشة، ويضع كلمة سطراً وجملة سطراً آخر وثلاث جمل سطراً ثم يرجع من جديد حتى يسود مساحة كبيرة من الورق بغثيان لا معنى له، والنائم الذي يحلم ويهمهم بألفاظ لا نسق يجمعها، والحشاش... و... كل أولئك حداثيون تنطبق عليهم معايير القوم (100%) وبعبارة أوضح مادام لدى الإنسان مسكة من عقل؛ فلا يمكن أن تصل معرفته إلى التلاشي المطلق، فهذا شأن من يتعاطى أخطر ما أبدعته العبقرية الغربية من عقاقير الهلوسة!!
    ولو أن المقام يتسع لعرضنا نماذج ممن تاب الله عليهم وثابوا إلى رشدهم؛ ليعرضوا كيف كانوا يفكرون ويكتبون وينظمون في الماضي الحداثي الحالك كما حدثوني بذلك شخصياً أو كتبوه لي.
    على أنني لو عذرت أحداً من أقطاب الحداثة لعذرت أولئك الدعاة الصليبيين التوراتيين، الذين أرادوا أن تكون الثقافة العربية كلها سائرة على النمط التوراتي مضموناً وأسلوباً. إنهم أذكياء استخدموا عقولهم لبعث أساطير دينهم وإحياء أساليب كتبهم المقدسة، وليسوا كبني جلدتنا الداخلين وراءهم في جحر الضب بلهاء ساروا في طريق يهدم حقائق الدين الرباني والكتاب الإلهي المحفوظ مع دعوى إيمانهم به.
    وإن تعجب فاعجب لأمة تهزها أزمات سياسية واجتماعية كبرى، كالأزمة التي داهمت الأمة في حرب الخليج الثانية، ويخرج أدباؤها ومبدعوها ليسودوا الصفحات بأن سبب الأزمة هو (إشكالية النص)!!
    أما سائر البشر الذين جعلوا لها أسباباً أخرى فهم نمطيون سطحيون!!
    أما والحال كذلك وللمبررات الموضوعية التي تجعل القضية حية متدفقة وإن تلونت أو كمنت، ولضرورة إقامة الحجة وإبانة سبيل المجرمين فلابد من تجدد الإسهام من أهل الخبرة وفرسان الميدان في هذا المجال، وإنما سطرت هذه المقدمة تذكيراً وإعذاراً، والله ولي التوفيق.