ففي الستينيات برزت البنيوية، منافساً للوجودية من جهة، وتطويراً للمادية الجدلية من جهة أخرى، وتغلغلت في كثير من العلوم حتى ظهر منافسها "التفكيكية" في السبعينيات .
واختلفت آراء البنيويين في البنيوية وذهب بها كل منهم مذهبه، وحدثت نتيجة لذلك فوضى فكرية لا تـزال تغمر الفكر الغربي، وقد جلبها اليسار العربي ومؤسساته، وبعض الاتجاهات الوجودية الملفقة إلى العالم العربي، حتى اكتظت بها الملاحق الأدبية في الجرائد اليومية، فضلاً عما عداها، هذا في حين أن الزمن قد عفى عليها في بلادها.
ونظراً لما حظيت به النظرية -ولا تزال- في عالمنا العربي، ولكونها تمثل المعلم الفاصل بين مرحلتي الحداثة وما بعد الحداثة، فسوف ينحصر جل اهتمامنا هنا بها مع شيء من التفصيل عن مدارسها وحلقاتها وتطبيقاتها في فروع المعرفة.
  1. مدرسة جنيف

    في القرن التاسع عشر نادى الباحث الاجتماعي اليهودي دوركايم بالنظرية المسماة "العقل الجمعي"، ودعا إلى دراسة الظواهر الاجتماعية باعتبارها "أشياء مستقلة"، وتبعاً لذلك ظهر الباحث اللغوي السويسري "فرديناد دي سوسيور" بنظريته في "ظاهرة اللغة"، حيث جرد اللغة من دلالاتها الإشارية المألوفة وعدها نظاماً من الرموز يقوم على علاقات ثنائية، ومن هنا ظهرت فكرة "البنية".
    ومن أبرز ما قرره سوسيور بقوة مبدأ "اعتباطية الرمز اللغوي" وهو ما يعني أن أشكال التواصل الإنساني ما هي إلا أنظمة تتكون من مجموعة من العلاقات التعسفية أي: العلاقات التي لا ترتبط ارتباطاً طبيعياً أو منطقياً أو وظيفياً بمدلولات العالم الطبيعي" وأن "كل نظام لغوي يعتمد على مبدأ لا معقول من اعتباطية الرمز وتعسفه" أي: تماماً كما يعتبط العقل الجمعي عند "دوركايم" ويتعسف فيفرض على الناس ما هو خارج عن ذواتهم، ومن هنا انبعثت فكرة "السيمولوجيا" أي علم الدلالة، أو العلامة والإيحاء، وتطورت فيما بعد.
  2. المدرسة الشكلية الروسية

    ويرجع أصلها إلى "حلقة موسكو اللغوية" وهي نوع من الإلحاد غير الماركسي في روسيا وقد أدمجها استالين قسراً ضمن الواقعية الاشتراكية، لكن نفراً من روادها هاجروا إلى الغرب وهناك طوروا الفكرة، ومنهم معلمها الشهير "جاكوبسون"، ومن أهم آرائها "تحرير الكلمة الشعرية من الاتجاهات الفلسفية والدينية والانطلاق من "دراسة العمل الأدبي في ذاته"، فهي تؤكد "أن العمل الأدبي يتجاوز نفسية مبدعه، ويكتسب خلال عملية الموضعة الفنية وجوده الخاص المستقل" .
    وتؤكد أن "العمل الفني لا يتطابق بشكل كامل مع الهيكل العقلي للمؤلف ولا المتلقي"، أو كما يقول: "موخارو فسكي: "فإن الأنا الشاعر لا ينطبق على أية شخصية فعلية ملموسة، ولا حتى شخصية المؤلف نفسه، إنه محور تركيب القصيدة الموضوع'' .
    هذا هو الأساس الذي بالاعتماد عليه يحمل البنيويون النصوص فلسفات وأفكاراً ورؤى لم تخطر لقائلها ببال، بل لم تظهر في عصره -إن كان قديماً- وعليه نادى "رولان بارت" أكبر ناقد في أوروبا كما وصفه الدكتور الغذامي بنظرية "موت المؤلف"!! ''وهكذا ابتدأت الشكلية الروسية من دعوتها إلى استقلال الكلمة الشعرية كشيء قائمٍ بذاته، وانتهت إلى استقلال العمل الأدبي عن نفسية مؤلفه من ناحية، وعن الموضوع الاجتماعي الذي يشير إليه بأدواته وإجراءاته الخاصة من ناحية أخرى''.
    وأكدت هذه المدرسة ضمن استقلالية العمل الأدبي أن لهذا العمل زمنه الخاص، وعارضت "الأفكار الأكاديمية التقليدية" عن تطور الأدب ومساره التقدمي المطرد، وأنكرت فكرة التوالي الطبيعي للمذاهب الأدبية أو توالدها فيما بينها، وحرصت على إبراز حقيقة عدم الاستقرار في الأشكال الأدبية.
    وغايرت المدرسة الشكلية الاتجاهات النقدية الأخرى التي تهتم بالمضمون حيث صرفت الاهتمام الأكبر إلى الشكل، جاعلة إياه وسيلة للوعي وتجديد الرؤية، فوظيفة الفن عندها ليس إعطاء رؤية ولا تصوير الواقع أو التعبير عن العالم الطبيعي الموضوعي، وإنما هي " استخدام اللغة بطريقة جديدة بحيث يثير لدينا وعياً باللغة من حيث هي لغة، ومن خلال هذا الوعي يتجدد الوعي بدلالات اللغة، هذا الوعي الذي تطمسه العادة والرتابة على حد تعبير "جورج لوكاش" .
    وهكذا نصل إلى الفكرة نفسها "موت المؤلف" كما نادى بها "رولات بارت"
    3- حلقات "براغ، كوبنهاجن، نيويورك" اللغوية.
    ويهمنا منها أمور نوجزها ما أمكن:
    أ- إن أصلها جميعاً هو الشكلية الروسية نفسها، وخصوصاً "جاكوبسون" المحرك الأساسي لحركة براغ؛ حيث كان يعمل ملحقاً ثقافياً روسيا بها ثم أسست على منوالها مدرسة "كوبنهاجن"
    ثم حلقة "نيويورك" التي أسست بعد هجرة "جاكوبسون" إليها، حيث التقى بـ"كلود ليفي شتراوس " وهناك نبت من علاقتهما الفكرية الكثير من عناصر البنيوية الحديثة وأركانها، ثم ما لبث شتراوس أن أصبح زعيم البنيوية الفرنسية، كما سيأتي .
    ونبغ من هذه الحلقة " نعوم شومسكي " أبرز ممثلي البنيوية الأمريكية!!
    وهنا لابد أن يستوقفنا دور "جاكوبسون" الكبير في تأسيس وتطوير البنيوية، حتى أن بعض الباحثين يلخص تاريخ نشأة البنائية وتشكلاتها المختلفة في شخصيته ومغامراته العلمية ابتداءً من مطلع شبابه في موسكو حتى تخرج على يديه أجيال من الباحثين في أوروبا وأمريكا، وأصبح الحجة الأولى والمرجع الأخير في علم اللغة الحديث .
    فهل الأمر مصادفة، أم عبقرية فردية، أم أن هذه الحركة والشهرة الواسعة وراءها ما وراءها؟!
    لعل الإجابة تأتينا من معرفة أن كلاً من زعيمي المدرستين الأمريكية والفرنسية جومسكي وشتراوس يهوديان، بل إن شومسكي تربى في الأرض المحتلة .
    ومع أنني لم أجد من خلال بحثي المحدود ما يدل على دين "جاكوبسون"، لكن ما علمناه عن دوره وما نعلمه عن دور المؤسسات المريبة في احتضان الأفكار الشاذة وتوجيهها، وما هو واضح من صلته بـالماركسية التي هي فكرة يهودية يجعلنا على الأقل نستريب في انتمائه، ونتساءل أليس من السذاجة أن نغض الطرف عن كون رجال هذا المذهب يهوداً ورموزه توراتية، ونحمل المصادفة وحدها عبء ذلك؟!
    ونزيد: أليست النفسية اليهودية منذ حلول غضب الله عليها مسؤولة عن كثير من المفاسد والشرور في الفكر والواقع من غير اشتراط دافع للإفساد عمداً بالضرورة، فليس من شرط الأفاعي -هكذا كما سماهم المسيح- لكي تكون شريرة أن تضع بروتوكولات للإيقاع بالحمام!!
    ب- إن المدرسة الأمريكية "نيويورك": ''هي التي لقيت أكبر قدر من الذيوع في العالم العربي'' كما يقول الدكتور صلاح فضل .
    ولعل الأصح أن يقال في المشرق العربي وهي التي تربى في أحضانها الكاتب النصراني "كمال أبو ديب" "الذي سار على خطاه الدكتور عبد الله الغذامي وتلميذه السريحي عندنا.
    ج - الاتجاهات التطويرية للبنيوية
    انبثق من البنيوية اتجاهات قامت بتطوير الفلسفات المعروفة وفق منهج بنيوي -أي: بصياغة جديدة للفلسفات والنظريات المشهورة- ومن رواد تلك الاتجاهات إضافة إلى شتراوس وتطويره للدراسات الانتربولوجية:-
    1- "لوى التوسير" أعاد صياغة الماركسية بحيث تقرأ من منظور بنيوي لا منظور هيجلي!! وقريب منه "هنري لوفيفر" الزعيم الماركسي الحركي.
    2- "جاك لاكان" أعاد صياغة الفرويدية، بل إن كتاباته تعد في مجملها صدى لتلك النظرية، خاصة رسالته "وراء مبدأ الواقع" التي كان عنوانها محاكاة لعنوان كتاب فرويد "وراء مبدأ اللذة".
    3- "ميشل فوكو" الذي صاغ نظرية جديدة في اللغة وأصلها وتراكيبها ووظيفتها، من خلال مصدره الخاص لاستكناه الحقيقة الإنسانية وهو "الجنون" معلناً أن المجنون يمكن أن يؤدي دور النبي عند المؤمنين بالأديان!!
    4- "رولات بارت" صاغ نظرية بنيوية لتغير الأزياء (الموضة)، هي في جزء منها تطوير لآراء "دوركايم" كما أحدث أثراً بالغاً في النقد الأدبي خاصة بعد أن أصبح عضواً في مجلة telque صوت الاتجاه الذي يسمى ما بعد البنيوية أو (التفكيكيين) الذين ينتمي إليهم الغذامي في كتابه السالف ذكره.
  3. المدرسة الفرنسية

    وهي المدرسة الرائجة في القارة الأوروبية والمغرب العربي، وانتشرت في المشرق العربي تبعاً لانتشار الحداثة، ولن نفصل القول فيها وإنما نوجز أهم اتجاهاتها:
    1- البنيوية الانتربولوجية:- أي: التي تبحث في الإنسان وتطور حياته وعاداته الاجتماعية- وزعيمها هو اليهودي "كلود ليفي شتراوس" السالف الذكر، وقد طور اتجاهات دوركايم وفريزر عن الأساطير والعادات الاجتماعية للبدائيين وفق منظوره البنيوي، وهو كثيراً ما يعلن عن ولائه الماركسي واعتناقه لمبادئ المادية الجدلية، كما أنه يميل إلى البرنامج الاشتراكي سياسياً واقتصادياً، ويرى أن مستقبل الغرب والعالم كله مرهون بانتصار الاشتراكية .
    2- الاتجاه الماركسي: ويمثله رواد الروس المهاجرين إلى فرنسا أو الفرنسيين الماركسيين، ومن أشهرهم "لوسيان جولدمان" و"لوكاش" وهما مهاجران، وتسمى بنيويتهما "البنيوية التكوينية أو التوليدية" في حين تسمى بنيوية شومسكي "التحويلية"! وقد استمدا النظرية من "جان بياجيه" مؤسسها الأصلي ولكنهما حولاها إلى ماركسية .
  4. البنيوية فلسفة أم منهج

    زعم الدكتور كمال أبو ديب أن البنيوية ليست فلسفة لكنها طريقة في الرؤية ومنهج في معاينة الوجود، وعلى هذا الأساس اعتمد الحداثيون في الدفاع عنها كـالغذامي والسريحي، وتصريحهما في أكثر من مناسبة بانتهاج هذا المنهج يجعلنا نبين حقيقة هذا الادعاء.
    جاء في "مجلة فصول" ذات الاتجاه الحداثي المعروف ''يتفق السيد زكريا إبراهيم مع السيد ياسين وغيره -في النظر إلى- البنيوية على أنها تنطوي على موقف عقائدي أو تمثل منظوراً خاصاً''.
    هذا والدكتور زكريا إبراهيم نصراني من أكبر المتخصصين في هذا المجال، وله كتابه المتعمق "مشكلة البنية" وقد تحدث فيه عن ''انـزلاق البنيوية من مجال المنهجية العلمية إلى مجال الأيدلوجيا، وآية ذلك أن المنظور الفكري الذي انطوت عليه هذه البنيوية الجديدة قد جاء مؤكداً للدعوى القائلة: بأن في تضاعيف هذا الاتجاه الفلسفي الجديد إنكاراً لقدرة البشر على صنع تاريخهم الخاص، ورفضاً لكل نـزعة إنسانية، ومن ثم فقد صار البعض يؤكد أن النداء الخاص الذي اتحدت عنده كلمة البنيوية هو إعلان موت الإنسان''
    هذا مع أننا نسأل أبا ديب هذا: ماهي الفلسفة إن لم تكن طريقة في الرؤية، ومنهجاً في معاينة الوجود؟!
    ويقول "جان ماري بنو" في كتابه "الثورة البنيوية : "إذا كان الوجوديون قد تخلصوا من "الله"، فقد نجح سوسيور في التخلص من الإنسان... وقال: كان الإنسان خالق المعنى ومصدره الحي، ولكنه اختفى تماماً في ظل العلم الجديد الذي جعل المعنى حصيلة مجموعة من العلاقات اللغوية البنيوية والسيميوليجية التي تفرز العلاقات وتحدد المعاني، وفي ظل هذا التصور أصبح الإنسان إفرازاً لغوياً بدلاً منه صانعاً للغة'' .
    إنها جبرية من نوع غريب لم تعرف البشرية له نظيراً من قبل!!
    وفي مقال فصول: ''وربما كان أكبر دليل على أن البنيوية قد اكتسبت طابع المنظور الفكري أو الموقف العقائدي، وهو هجوم بعض البنيويين وعلى رأسهم "ليفي شتراوس" على "سارتر" والوجوديين، ودحض آرائهم في التقدم والمبادئ التاريخية، ويتجلى هذا الطابع العقائدي -أيضاً- في محاولة بعضهم وعلى رأسهم "التوسير" إعطاء تفسير جديد للماركسية، بحيث حولها من منهج عمل ثوري يرتكز على الإنسان إلى نظرية رجعية تؤكد حتمية سيادة نظام لا سلطان للإنسان عليه... إلخ''.
    كما أن الدكتور صلاح فضل عقد مبحثاً بعنوان: ''محاولة عقد زواج بين البنائية والماركسية".
    وهنا نشير إلى ما تنضح به كتابات السريحي والغذامي ومن لف لفهم من إضفاء القوة المطلقة للغة وسلب لإرادة الإنسان -خاصة الشاعر- حتى من نسبة وضع لفظة مكان أخرى!! فأي ربوبية قهرية يريد هؤلاء أن يجعلوها للغة!!
    على أن مما يؤكد أن البنيوية فلسفة ذات تطبيقات ثورية واقعية؛ ارتباطها ببعض الأحداث السياسية مما كان سبباً في ظهور نقيضها "التفكيكية"، ذلك أن''التفكيكية هي رد فعل لانهيار البنيوية في فرنسا بعد أحداث عام (1968م)، فهي إفراز طبيعي لحالة الإحباط والكفر بالنظريات الشاملة المتماسكة، ومنها الماركسية التي اجتاحت فرنسا في تلك الآونة.
    لقد قامت البنيوية على فكرة سيادة منطق البنية المتماسكة فوق الإنسان والمتغيرات، وكانت صدمتها شديدة حيث جعلتها أحداث الثورة الطلابية في أوروبا بصفة عامة في أواخر السبعينيات، وفي فرنسا بصفة خاصة في عام (1968م) تدرك الدلالات الحزينة لنظريتها التي أثبتت الأيام صحتها -أي: حين أثبتت البنية السياسية في فرنسا قوتها أمام أي معارضة- وأصبحت فكرة البنية عدواً لدوداً للمفكرين، وارتد الكثيرون عن البنيوية كما فعل الناقد رولات بارت في كتاباته الأخيرة، واتجه الكثيرون إلى الهجوم على جميع الأنظمة والنظريات العقائدية التي تخنق الفرد''.
    وهذا النص الصريح يذكرنا بما حصل من انهيار فكرة القومية العربية بعد هزيمة عام (1967م)، والسؤال هو مالذي ينهار بتأثير الأحداث السياسية، أهي المناهج المجردة أم الفلسفات التي قامت عليها تلك السياسات؟!
    فإن أصر القوم على تسميتها مناهج لا فلسفات فلن نجادل في مجرد الألفاظ، فالمنهج الذي تقوم عليه أنظمة شمولية تارة وتسقط تارة هو "عقيدة".. والسلام.
    ومن هنا كان السؤال الذي جعله الدكتور صلاح فضل عنواناً لمبحث خاص: ''هل البنائية تعبير عن فشل اليسار؟''.