ولكن حدث في المرحلة التالية من الدواهي ما أذهل الكنائس جميعها، وأنساها شيئاً من الخلافات فيما بينها، وإن شئت فقل غمرها إلى حين. ونعني بذلك التحولات الكبرى في الحياة الأوروبية التي يسمونها جميعاً ثورات وأهمها: 1- الثورة العلمية. 2- الثورة الفرنسية. 3- الثورة الصناعية. ويهمنا -الآن- الحديث عن الأولى منها:
  1. الثورة العلمية ضد الكنيسة

    لقد كان العلم -وبالدقة العلم- موقف الكنيسة الأحمق من العلماء- يمثل الثورة الكبرى التي نسفت خرافات الكنيسة، وأطاحت بعرشها وقوضت وجودها الطاغي إلى الأبد، كما نسفت في الوقت نفسه مكانة أرسطو ونظرياته في العلم والفن والحياة.
    وقد صدرت بيانات هذه الثورة تباعاً:
    1- نظرية كوبرنيج عن الأجرام السماوية عام (1540م).
    2- تطوير النظرية على يد تيكو براهي عام (1575م).
    3- نظرية جاليليو في الحركة وصنع المرقب عام (1597م).
    4- قوانين كبلر الثلاثة عام (1620م).
    5- نظرية الجاذبية وقوانين الحركة لـنيوتن عام (1687م).
    6- أول نظرية كونية وضعها لابلاس عام (1780م).
    وصاحب ذلك متأثراً به نظريات سياسية واقتصادية واجتماعية قدمت بيانات مساندة للثورة:
    1- المكيافيللية في السياسة: مكيافيللي يؤلف الأمير سنة (1513م) .
    2- ظهور الفلسفة الحديثة على يد ديكارت سنة (1650م).
    3- النظرية الطبيعية للدولة والمجتمع "التنين" هوبز سنة (1679م).
    4- سبينوزا عام (1677م) يؤسس مدرسة النقد التاريخي للكتب النصرانية المقدسة، ويجاهر بنبذ النصرانية في السياسة والأخلاق، والاعتقاد بوحدة الوجود.
    5- تطوير نظرية هوبز وفلسفة ديكارت على يد لوك عام (1704م).
    6- فيكو 1744م ينادي بإحلال الوضع الإنساني محل الوحي الإلهي.
    7- آراء جديدة في المنطق: باركلي عام (1753م).
    8- رفض النصرانية والإيمان بالشك المطلق: هيوم عام (1776م).
    9- ولادة النظرية الرأسمالية في كتاب "ثروة الأمم" آدم سميث عام (1776م).
    10- نظرية العقد الاجتماعي وتقديس العاطفة لا العقل: روسو عام (1778م).
    11- فولتير 1784م يجاهر بالكفر بالأديان ويطالب بمجتمع علماني.
    12- ديدرو 1784م، والموسوعيون الفرنسيون يضعون دائرة المعارف لتكون بديلاً عن الكتاب المقدس (كتبت بين عامي 1751م-1777م) .
  2. التحول الأدبي من الكلاسيكية إلى الرومانسية بعد الثورة الفرنسية

    وهكذا نكون قد اقتربنا من الثورة الثانية التي هي نتيجة لهذه الأولى، ففي سنة (1789م) حدثت الثورة الفرنسية فأضحت معلماً فاصلاً لا في تاريخ الفكر والأدب فحسب بل في التاريخ عامة.
    ومنذ عصر النهضة حتى ظهور الثورة الفرنسية كانت الكلاسيكية هي السائدة على الأدب الأوروبي.
    وقيمة الأدب الكلاسيكي تتمثل في مضمونه الأخلاقي والتـزامه المدرسي وحديثه الدائم عما ينبغي أن تكون عليه الحياة.
    فالنهايات الكلاسيكية -في المسرحية والملحمة سواء- تأتي دائماً انتصاراً للحق والفضيلة، إنه دعوة إلى الحكمة العملية لكنها لا تخاطب الناس باسم الدين ضرورة، كما أنه كان في جوانب منه لا يهدف إلى أكثر من إعطاء أكبر قدر من المتعة للقارئ، ولو كانت متعة لغوية تقوم على أنواع المحسنات اللفظية وإثبات القدرة على الفذلكة، وكان المسرح من احتكار الطبقة الأرستقراطية -الملوك والنبلاء- تفوح منه روائح العهر والفحش والإباحية وغمزات دائمة للدين ورجاله.
    ونتيجة التغييرات الطارئة، وجرياً على سنة التذبذب في التاريخ الأوروبي،تحول الأدب الأوروبي من الكلاسيكية إلى نقيضتها الرومانسية.
    والرومانسية هي ارتداد صوفي، ولكن موضوعه ليس الرب كما في رهبانية النصارى بل الطبيعة، وهي لا تهدف إلى التوجيه العقلي للناس عن طريق حكمة القدماء، بل إلى الإشباع العاطفي الذي يجعل الذات محور العالم، إنها مزيج من اليأس الرهباني، والهروب من الواقع الذي كلما تقدمت المعرفة العقلية أظهرت أنه أكثر قتامة وكآبة.
    وهكذا كان محورها الدائم هو البؤس -البؤس الديني- كما في الفردوس المفقود أو البؤس العاطفي والنفسي الذي عبر عنه "روسو"!!
    فلئن كان الأوروبيون قبل اعتناق النصرانية يعبدون الحجارة والأشجار والحيوان والكواكب، فإن الرومانسية الهاربة من النصرانية قد جمعت هذه الأوثان جميعاً في صنم واحد سمته "الطبيعة"، وجعلت محل التراتيل الكنسية تلك الأشعار الوجدانية التي تتعشق المعبود الجديد، كما فعل رمزها الكبير روسو في "راهب سافوي".
    حقاً وجد الفكر الأوروبي في الرومانسية راحة من الكد المنطقي الذي أرهق مفكري عصر النهضة وما بعدها نتيجة البحث العقيم في الكليات والماهيات والعلاقة بين العقل والمادة والتطلع اليائس إلى معرفة كنه الأشياء منطقياً، واستطلاع الميتافيزيقيا أو ما وراء الطبيعة!!
    كما وجدوا فيها مهرباً من الالتزام بالمعايير الخلقية عامة، واستطاعوا إحلال المعايير الجمالية المجردة محلها.
    كما كانت الرومانسية ملاذاً لأولئك النفر الذين أزعجتهم الحروب القومية والدينية التي لم تهدأ قط، حيث فتحت لهم مجال تعويض الذات القانطة المغتربة في صراع ليس له ما يبرره عندها، كما فعل "همنغواي" في "وداعاً أيها السلاح" بعد حوالي قرنين.
  3. التغيرات الكبرى بعد الثورة الصناعية

    ثم كان القرن التاسع عشر وهو قرن التغيرات الكبرى في كل مجالات الحياة الأوروبية:-
    الثورة الصناعية تعم أرجاء القارة، حاملة الكوارث الاجتماعية مع التقدم المادي الكبير.
    الرأسمالية بوجهها الكالح تسيطر على أوروبا وتحفز الأوروبيين للتنافس الضاري على خيرات العالم كلها، حيث كان العصر الذهبي للتوسع الاستعماري والاحتكار التجاري.
    الثورات السياسية تجتاح القارة مزلزلة بقايا الإقطاع والأنظمة الملكية.
    الفلسفة المثالية تسود القارة وخاصة ألمانيا، والمذهب النفعي يسيطر على إنجلترا.
    خارطة أوروبا تشهد تغييرات مفاجئة متلاحقة، فمثلاً: امبراطوريات تسقط وولايات تصبح امبراطوريات، دول تنكمش وأخرى تختفي!!
    التعصب القومي يبلغ ذروته (جذور الفاشية، جذور النازية، والحركة الصهيونية) .
    ظهور الحركات المتطرفة كـالماركسية، العدمية، الفوضوية.
    ولعل أكبر الأحداث الفكرية في أول القرن هو ظهور الفلسفة الوضعية التي نادى بها كونت عام (1857م) ديناً جديداً للإنسانية.
    ثم تلاها البركان الذي تجاوبت أصداؤه في أنحاء القارة كلها، وأحدث انقلاباً عاماً في الأفكار والآراء والمعتقدات التي توارثتها أوروبا -بل الإنسانية- قروناً طويلة، وهو البركان الذي فجره "داروين" في كتابه: "أصل الأنواع" المشتمل على نظرية التطور العضوي والانتقاء الطبيعي.
    وقد وصلت سيول الحمم التي قذفها البركان إلى أرجاء المعمورة كافة نتيجة جهود عظيمة قام بها أناس متعددو الاتجاهات، لكنهم متفقو الدوافع -على ما يبدو- ومن أبرزهم اليهود الثلاثة "ماركس، فرويد، دوركايم، وتبعهم بالطبع جموع هائلة من المغررين أو المسيرين! في كل مكان.
    هذا الحدث المذهل أثار حفيظة دعاة القديم، وبالأخص رجال الكنيسة فاستجمعوا قواهم واستنجدوا بكل حميم، وخاضوا معركة كان فيها حتفهم، وانقشع الغبار عن سقوط آخر قلاع الكنيسة وخروجها كلياً عن ميدان الصراع الفكري العام، واندحار الدعاة الأخلاقيين ودعاة الالتزام عامة، ولم يبق لهم إلا شراذم في (حزام الإنجيل) وشبهه.
    وهكذا كان الغرور الهائل الذي أوحت به النظرية، والثقة في التقدم المطلق في كل المجالات التي أسهمت فيها الاكتشافات العلمية المذهلة حينئذٍ، وكانت نهاية المطاف ظهور النظرية النسبية في أوائل القرن العشرين عام (1905م).
    ونتج عن ذلك تنكر مخيف للماضي بكل ما فيه، وقطع متعمد للأواصر الرابطة به، وثورة شاملة على الأخلاق والتقاليد، لم يسبق لها نظير من قبل.
  4. استقرار الأدب على المذهب الواقعي

    في هذا الجو المحموم تأرجح الأدب واستقر في اتجاه مضاد هو "الواقعية".
    والواقعية تعني: السقوط من خيال الرومانسية إلى أرض الواقع، فالمحور ليس الشاعر بل العامل والفلاح والموظف الصغير، والنزول من برج اللغة المعقدة المتأنقة إلى احتضان اللهجات المبتذلة، والصراحة في عرض ما يدور في النفس الإنسانية بلا مواربة، فالحبيبة -هنا- ليست ملاكاً تحوم حوله الأشواق المثالية بل هي جسد تظمأ له رغبات الجوارح، والقضايا الكلية ليست ما يتعلق بحقيقة الوجود وغاية الإنسان فيه، وإنما هي الهدف اليومي للفرد العادي.