وعلى أية حال انطلقت أوروبا في نهضتها بعيداً عن الدين، وسوف نتتبع خط سيرها مقتصرين على الجانب المقصود بالذات وهو: (الأدب والفن) الذي تنعكس على صفحات محيطه المتماوج الأوجه المتعاورة لـأوروبا في مراحلها التاريخية المتتالية.
  1. جمود الأدب في أوروبا

    كان جمود الآداب جزءاً من الجمود المطلق في ظل الكنيسة، حيث كان العلم -وبالأصح معرفة القراءة والكتابة- منحصراً في رجال الدين، وأسوأ من ذلك أنه كان بلغة ميتة "اللاتينية"، وهي لغة معقدة الأسلوب والقواعد في حين كانت أوروبا تتكلم لهجات كثيرة متباينة.
    أما المعايير الفنية للأدب والبلاغة والشعر والمسرح فكلها مصفَّدة بآراء أرسطو ونظرياته، وغاية العبقرية والإبداع والتجديد أن يستنبط الأديب أو الناقد من كلام أرسطو شيئاً أو يفرع عليه آخر، أما الخروج عليه فهو المحال.
    فالملحمة -وهي التي ينعى الأوروبيون على أدبنا العربي خلوّه منها- ظلت خلال القرون الوسطى والعصر الحديث محكومة بتلك القواعد المتـزمتة والتقاليد الثابتة، ومنها ضرورة الاستهلال بالتضرع إلى أرباب الشعر مثل: كليوبي، فالشاعر الإغريقي هوميروس يتضرع إليها في ملحمته، وكذا تضرع صنوه هزيود، وعلى إثرهما نجد "دانتي" المسيحي يتضرع إلى أبولو (إله الشعر) في الكوميديا، وكذلك تضرع ميلتون إلى أورانيا (ربة علم الفلك) في ملحمته الفردوس المفقود!! تعالى الله عما يشركون.
    وفي الشعر نجد التقيد المطلق بما ورثه القدماء في المضمون والشكل، ومن ذلك الالتـزام بالمقاطع وعدد الأبيات في كل مقطع وعدد التفعيلات -أيضاً- أما النقد فكان ما قرره أرسطو هو المعيار الدقيق، وكانت المحاكمات الأدبية تتخذ كلامه دستوراً.
    وهكذا لم تكن الكلاسيكية إلا تعبيراً واضحاً عن اعتقاد أوروبا الكمال المطلق لعمالقة الفكر الإغريقي، وعلى رأسهم أرسطو.
  2. ظهور الحركة الأدبية ضد الكنيسة

    والمهم أن أوروبا النصرانية قدست اللاتينية تقديسها للنص الديني نفسه، وقدست معايير أرسطو الفنية تقديسها لعلم الكلام الكنسي المنقول عن الفكر الإغريقي.
    ومن هنا كانت الحركة الأدبية المتحررة موسومة منذ البداية بالإلحاد والزندقة، وكان لابد لدعاتها من التسلح بقدر كبير من المغامرة والجرأة.
    إنه ليس تحرراً من القيود الأدبية ولكنه تحرر من القبضة الكنسية الجائرة.
    وكانت الزحزحة الأولى حيث ظهر حدثان أدبيان كبيران:-
    أولهما: الكوميديا الإلهية للشاعر الإيطالي دانتي 1321م أبرز رواد عصر النهضة -معه مثل: بتراك، دافينشي، تشوسر، مايكل أنجلو-؛ وبذلك سجلت أوروبا كما يقول برتراند رسل: "وثيقة التحرر الأولى!!''.
    أما وثيقة التحرر الأخرى: وهي أعظم من الأولى فكانت على يد المصلح الكنسي "مارتن لوثر"، ذلك المتدين الثائر الذي هاله ما رأى من فظائع البابوية، فكتب وثيقة الاحتجاج المشهورة سنة (1517م) وجعلها خمسة وتسعين بنداً وعلقها على مدخل كنيسة ويتنبرج، وليست هذه هي وثيقة التحرر التي نريد هنا ولكنها انبثقت منها. .
    إلا أن أحداً من الناس حينئذ لم يطلق على هذا اسم الحداثة (موديرنـزم) بمصطلحها الأدبي، ذلك أن الخلاف بين لوثر والكنيسة أكبر من أن يكون في الأدب أو اللغة.
    وظهر بعد اللوثرية مذاهب وألوان دينية جديدة لاسيما في القرن السابع عشر، وكان من أهم أسباب ظهورها انتشار الإنجيل بلغات حية كثيرة، فدخل الجميع من الباب الذي فتحه لوثر ومنها (الكالفينية = كالفن) (الجزويت = أجناثيوس) (الكويكرز = جورج فوكس) (الويزلية = جون ويزلي)، ومع أنها اتجهت كلها تقريباً لمحاربة الكنيسة الكاثوليكية أو مخالفتها، فقد برزت في المقابل محاولات لإعادة الوحدة الدينية لـأوروبا.