ومع أننا لا ننسى إطلاقاً مسئولية الأمة الإسلامية في كل ما حدث ويحدث، فإننا سنتجاوز هذا لننظر نظرة مجردة كيف أصبح الوليد عملاقاً مارداً، أي: كيف تشكلت أوروبا الحديثة؟
وللإجابة الإجمالية على هذا نقول:
إن هناك اتفاقاً عاماً لدى مؤرخي الفكر الأوروبيين على أن النهضة الأوروبية قامت على دعائم -أو حركات- ثلاث:
1) النـزعة الإنسانية (humanism) وإحياء الآداب القديمة أي: الانتكاس للجاهلية الإغريقية.
2) حركة الإصلاح الديني.
3) النظرة التجريبية.
وفي كل هذه الحركات نجد الأثر الإسلامي ظاهراً يوازي إن لم يـزد على الثورة العقلية الذاتية على خرافات الكنيسة، والرغبة الفطرية في التحرير من ظلمها واستبدادها، ومع هذا التوازي في الدوافع والأسباب استطاعت أوروبا بدهاء شيطاني أن تحتفظ بأسبابها الذاتية وتمدها إلى نهايات بعيدة، أما الخط الآخر فأسدلت عليه حجباً كثيفة من الإهمال والتناسي.
  1. تأثير الحضارة الإسلامية في النزعة الإنسانية

    فالنزعة الإنسانية مدينة كلياً للحضارة الإسلامية، ولا ينحصر ذلك في الأثر الأدبي -اقتباس أبرز ممثليها وهو دانتي من أبي العلاء وابن طفيل- بل يشمل العصر كله، حتى أن الامبراطور فردريك الثاني وهو أكبر أباطرة القرون الوسطى بإطلاق، ويعتبر لدى بعض المفكرين أول المحدثين ورائد النهضة،كان يتكلم العربية وكان بلاطه عربي العلم واللسان، حتى أنه حينما قابل الملك الكامل الأيوبي للصلح لم يحتج إلى مترجم، ولهذا اتهمته الكنيسة بالإسلام وسمته الزنديق الأعظم!! .
  2. تأثر حركة الإصلاح الديني بالتعاليم الإسلامية

    أما حركة الإصلاح الديني فلم تولد مع "لوثر" و"كالفن"، بل لها جذور عميقة الصلة بالإسلام لا يستطيع أي باحث أوروبي أن يغفلها مهما قلل من شأنها، ومنها (حركة تحطيم الصور والتماثيل) التي اجتاحت الامبراطورية البيزنطية في أوائل القرن الثامن الميلادي - أي بعد قرن تقريباً من ظهور الإسلام -، وممن آمن بذلك وأصدر مرسوماً عاماً به الامبراطور "ليو الثالث" .
    صحيح أن التوراة حرمت ذلك، ولكن الكنيسة أحلته فيما حرفت من شريعة الله ووصاياه، وكل ما فعلته تحويل الناس من تصوير العظماء الدنيويين إلى تصوير المسيح وأمه والقديسين عندها.
  3. سبق المسلمين في المنهج التجريبي

    أما التجريب الذي تعزى إليه نهضة أوروبا العلمية عامة، فإن باعثه الظاهري هو التساؤل العقلي الذي افترقت عليه الفلسفة القديمة وهو: أيهما أصدق الفكر المجرد أم التجربة الحسية؟.
    ولم يكن صعود "جاليليو" إلى البرج وإسقاط جسمين متماثلين في الوزن إلا تدليلاً على بطلان قول أرسطو في ذلك
    ومن هنا فإن الفكر الإسلامي -السني خاصة- الذي رفض فكر أرسطو رفضاً مطلقاً، ودعا -وفقاً لصريح القرآن- إلى نبذ تقليد السالفين، والتأمل في ملكوت السماوات والأرض، والنظر في آيات الله الآفاقية والنفسية هو أصل تقدم الإنسانية الحالي كلها، وما فعله "جاليليو" بالنسبة لحركة الأجرام السماوية ما هو إلا جزء من الأثر السني الذي شمل العالم، وصرع المنطق الصوري الإغريقي في الشرق قبل أن تتخلص أوروبا منه بعدة قرون