1. مجتمع القرون الوسطى وأخلاقها

    كانت أوروبا في القرون الوسطى تعيش حالة من الهمجية والانحطاط لا يكاد يضارعها فيها أي جزء من العالم آنذاك، لا سيما القرون الثلاثة الأولى التي اصطلح مؤرخو الغرب على تسميتها العصور المظلمة، وإن كان يطلق أحياناً على القرون الوسطى كلها العصور المظلمة تلك التي امتدت قرابة عشرة قرون.
    كان التفسخ الاجتماعي والتدهور الأخلاقي يسيطران على حياة أوروبا القاتمة ابتداءً من غزو النورمانديين البرابرة لجنوبأوروبا وسقوط إيطاليا خاصة، في أيديهم. لكن التاريخ مهما أسهب في وصف التدني الاجتماعي والأخلاقي لتلك الفترة لا يستطيع أن ينزع منها صفة البشرية، فهي مهما بلغ انحطاطها لا تصل إلى القاع الحيواني الذي تنغمس فيه أوروبا المعاصرة، والصورة مختلفة بين مجتمعين: أحدهما بشري متخلف، والآخر حيواني هابط!
    كان لمجتمع القرون الوسطى قيمه وتقاليده وأخلاقه البشرية، وهي قيم مجردة وتقاليد وأخلاق قائمة بذاتها، لا تتوقف على سند موضوعي أو عامل خارجي أياً كان، وبغض النظر عن مقدار مراعاتها وتطبيقها عملياً، فإنها كانت حقائق مقررة لا مراء فيها، وكان التمسك بها مدعاة للاعتزاز، والخروج عليها مصدراً للاستنكار وجرحاً في الفضيلة والرجولة.
    أما حراسة تلك القيم والأخلاق ومحاولة ترسيخها فكانت ملقاة على عاتق الكنيسة ومنوطة بجهود الآباء والرهبان الذين يقدمون النماذج العليا لها، غير أن الكنيسة بتحريفها لدين الله وابتداعها ما ليس منه أجرمت في حق نفسها وأتباعها، وأسهمت من غير قصد في هدم الأسس الأخلاقية التي قام عليها مجتمع القرون الوسطى، وقام عليها سلطانها العظيم.
    وقصة أخلاق الكنيسة تحكي تناقضاً صارخاً وتبايناً عجيباً:
    فمن جهة التصور اشتطت الكنيسة وغلت في تصورها للفضيلة والخلق الرفيع، ووضعت لها الشروط والمواصفات التي تنوء بالجهد البشري، ولا يستطيع استكمالها-عدا الملائكة- إلا حفنة ضئيلة من البشر تتمتع بمزايا غير عادية، ولا يصح أن تتخذ مقياساً لسائر بني الإنسان.
    ومن جهة السلوك تلطخت سيرة رجال الكنيسة وأعضاء الأديرة برذائل وأرجاس يترفع عنها الفرد العادي ويتستر عليها الفاجر البذيء وقد سبق الحديث عن ذلك في الباب الأول أي: أنها في الوقت الذي تحلق فيه تعاليمها في السماء نجد أن واقعها يتخبط في الوحل! فالعفة -مثلاً- خلق إنساني نبيل فطرت عليه البشرية، ودعت إليه الأديان كافة، لكن الكنيسة بالغت في تصورها لهذا الخلق، حتى حرمت ما أحل الله، وأنكرت ما تلح عليه الفطرة، وتدعو إليه الغاية من الوجود الإنساني، وذلك بابتداعها الرهبانية وتنفيرها الشديد من المرأة لذاتها، فتعاليمها تقول عن النظر المجرد: إذا نظرت عينك إلى معصية فاقلعها؛ فإنه خير لك أن تفقد عضواً من أعضائك من أن يلقى جسدك كله في النار.
    وانطلاقاً من ذلك حرمت الزواج على رجال الدين معتقدة أن رجل الدين لا يجوز له أن يهبط إلى مستوى أخلاق الشعب، ويشاركهم في الاستمتاع الدنس!
    هذا من الوجهة النظرية، أما الواقع العملي فشيء مختلف تماماً، فقد كانت الأديرة مباءات للفجور ومواخير للدعارة، وكان للبابوات والقساوسة من العشيقات والحظايا ما لا يكون لدى الملوك الدنيويين، وتولى منصب البابوية عدد من الأبناء غير الشرعيين لبعض الآباء والكرادلة
    والمصيبة أن تلك الحقائق لم تكن خافية على الشعب، بل كانت حديث الألسنة ومثار الجدل.
    والجشع على المال والملذات خلق ذميم - ما في ذلك شك - ولكن الكنيسة غالت في ذمه وتحريمه والدعوة إلى الزهد والتقشف، إلى درجة أنها حرمت المال الحلال، وقدست الفقر، وحظرت سبل الرفاهية، وقالت أناجيلها: مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله... وفي الوقت نفسه كان رجالها أجشع الناس وأغنى الملاك وأترف الأغنياء.
    والتسامح خلق رفيع ومنقبة عظيمة - باتفاق العقول والفطر - غير أن الكنيسة بالغت في فرضه، حتى أوجبت على أتباعها قبول الذل وتحمل الظلم فقالت: ''من لطمك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر أيضاً، ومن سخرك ميلاً فامش معه ميلين، ومن نازعك رداءك فاعطه الآخر''
    وقالت: باركوا لاعنيكم، وصلَّوا لأجل الذين يسيئون إليكم.
    كل هذا في العقيدة والتصور، ولكن الواقع العملي يشهد أن الكنيسة ارتكبت من ألوان الظلم وفظائع الطغيان ما يتورع عنه جبابرة الفاتحين وعتاة المستبدين، ولم تعرف رحمة ولا تسامحاً حتى مع مخالفيها من أتباعها أو أبناء دينها.
    وهكذا الحال في سائر الصفات النبيلة والأخلاق المحمودة.
    تطرف وشطط في التصور، وإسفاف وهبوط في السلوك، وكان لهذا التناقض الصارخ أثره البالغ على الناس في واقع حياة أتباعها أيام مجدها وسطوتها، ثم في ثورة أعدائها بعد أن تصدعت أركانها، وهوجمت من كل مكان.
    كان أتباعها طيلة القرون الوسطى لا يستطيعون الارتفاع عملياً إلى المستوى المثالي النظري لأخلاقها - ولهم في ذلك العذر - فكانوا يتزوجون ويجمعون المال ويثأرون لأنفسهم من ظالميهم، ويتصرفون في سلوكهم بعيداً عن قيودها التي لا تطاق، ولا يلزمون أنفسهم بتطبيق قواعد وأنماط سلوكية لم يسجل التاريخ أنها طبقت - بصورتها النظرية - على نطاق واسع في أية مرحلة من المراحل، لكنهم كانوا وهم يفعلون ذلك يجدون في أنفسهم تناقضاً وجدانياً، ويشعرون أنهم -إذا لم يكونوا على الصورة المثلى- مقصرون ومخطئون، يتعرضون للتأنيب المستمر من أعماق ضمائرهم، وكان هذا الشعور ملازماً لهم نفسياً رغم أنهم مظهرياً يمارسون الحياة العادية بكاملها.
    وتولد من ذلك إحساس دائم بالذنب لدى النفسية الأوروبية كلما تاقت إلى مباح أو استمتعت بمتاع وإن كان الحلال المحض! وهو إحساس توارثته الأجيال المتعاقبة حتى أصبح من الرسوخ بدرجة تجعل التخلص منه لابد أن يأتي في صورة ثورة نفسية هائجة ورد فعل جانح، وهو ما فعلته أوروبا الحديثة، هذا من جهة.
    ومن حيث النظرة الشكلية العامة نجد أن مجتمع القرون الوسطى كان أسرياً في تكوينه، زراعياً في حرفته، إقطاعياً في طبقاته ومراتبه ولكل ميزة من هذه المميزات انعكاسه الواضح على الأخلاق الاجتماعية.
    فالنظام الأسري ساعد على ترسيخ فكرة المحافظة على العرض وقداسة العلاقة الزوجية، حتى لقد كان القتل هو العقوبة المتوقعة للزوجة الخائنة أو للمعتدي على العرض.
    وطبيعته الزراعية أسهمت في المحافظة على الواجبات الفردية وعلى التقاليد المتوارثة منذ القدم، والتي كانت مزيجاً من تعاليم دينية وأعراف اجتماعية، تشكل بمجموعها قواعد أخلاقية ثابتة يلتزم بها المجتمع.
    ولكن هذه الحال -في الوقت نفسه- بإهمال الكنيسة وأحياناً بإشرافها، ساعدت على تشرب المجتمع لأفكار عتيقة وخرافات بالية من بقايا الأساطير القديمة أو من اختلاق الأقوال الساذجة، روجها الجهل المطبق وهبوط المستوى العقلي للعامة والخاصة، فتشابكت مع تلك القواعد الأخلاقية وامتزجت هذه بتلك مما أغرى الباحثين الاجتماعيين اللادينين بالاعتقاد بأن تلك، الأخلاق وليدة الخرافات نفسها أو قرينتها الدائمة.
    ونظامه وطبقاته الإقطاعية أضفت عليه صفة الثبات المطلق الذي يميز عصر الإقطاع برمته، وذلك ما أوحى إلى الباحثين بعد انفجار قنبلة التطور في أوروبا بأن التقاليد والأخلاق ليست ذاتية ولا ثابتة بل تكتسب سماتها ومميزاتها من طبيعة الوضع الاجتماعي أو الاقتصادي.
    هذه بعض الملامح الإجمالية الموجزة لاجتماع وأخلاق القرون الوسطى، وستزداد صورتها وضوحاً عند عرض الاتجاهات الاجتماعية اللادينية التي إنما نبتت أصلاً لتكون ردود فعل لذلك الواقع الاجتماعي نفسه.
  2. النظريات والمدارس المجتمعة اللادينية

    مقدمة:
    الفكر الاجتماعي اللاديني قديم الأصول، فقد تحدث أرسطو عن الحياة الاجتماعية للإنسان، وقال عبارته المشهورة: ''الإنسان حيوان اجتماعي'' كما أن أفلاطون كانت له نظراته الاجتماعية التي دونها في جمهوريته وإن كانت من صنع الخيال.
    ولما كان عصر النهضة الأوروبية وبعثت الآداب والفلسفات الإغريقية انبعث التفكير الاجتماعي اللاديني باتجاهيه: الخيالي الممثل في الطوبيات أو المدن الفاضلة، والواقعي الذي يحاول أن يستمد من الفلسفة والعقل ما يناهض به الكنيسة وتعاليمها.
    وكانت ريادة هذا المجال من نصيب مكيافيللي وهوبز اللذين ألمحنا إليهما في الفصل الأول من هذا الباب ويتلخص رأي هوبز ومكيافيللي في أنه عندما تنحرف المعتقدات عن المبادئ الأخلاقية والشرعية يستتبع ذلك في مجال الأفكار فترة فراغ نرى فيها أن فكرة العنف هي التي تسود لعدم وجود ضابط للشرعية، وفي رأي هذين الكاتبين أن الحياة في المجتمعات تقوم على استخدام القوة، وتتلخص السيكولوجية المجتمعة عندهما في العبارة الشهيرة: أن الإنسان ذئب بالنسبة للإنسان، وفي قول مكيافيللي: إن ميل الإنسان للشر يفوق ميله إلى الخير.
    ويعلق بوتول على ذلك قائلاً عن مكيافيللي: إن أهمية هذا المؤرخ الفلورنسي أنه جعل لفلسفة التاريخ: ولعلم الاجتماع السياسي وجوداً مستقلاً.
    وكان من رواد الأفكار الجديدة أيضاً الفيلسوف اليهودي سبينوزا الذي اشتهر بعداوته للأديان وأخلاقياتها، وكان معاصراً لـهوبز، وفي رأيه أن الناس يعيشون في الأصل خاضعين لسيطرة شهواتهم، وأن حقوق الناس في نزاع دائم مع قوتهم التي تتعادل فقط مع هذه الحقوق، ويهاجم سبينوزا علم الأخلاق الذي كان يسود في العصور الوسطى، والذي يمجد النسك ويدعو للندم والذي يغلب فيه الميل للشقاء فيقول: ''إن اللذة خير في ذاتها والألم قبيح في ذاته... وأن الحكمة هي التأمل في الحياة لا في الموت''
    على أن كاتباً آخر تطرف في عداوته للكنيسة وأخلاقها بدرجة عجيبة وهو مانديفيل في كتابه أقصوصة النحل الذي أثار فضيحة، وكان له دوي عظيم، فقد ذهب إلى أن النقائص هي بالتحديد التي يدمغها الأخلاقيون كالشراهة والتعجرف والفسق... إلخ، وهي التي أتاحت انتشار الحضارة والفنون والتكتيك فهذه الاتجاهات التي اعتبرت مذمومة هي في الواقع أعظم العناصر الديناميكية التي لولاها لاضمحل الإنسان إلى حالة قريبة من الحيوانية.
    وهذه البدايات والأفكار ظلت مبعثرة لم تنسق في علم واحد حتى ولد علم الاجتماع باعتباره علماً خاصاً يدرس العلاقات والظواهر المجتمعة دراسة مفصلة ضمن قواعد ومعايير خاصة.
    ولادة علم الاجتماع:
    يبدأ نسب العلم وأصله في فرنسا من مونتسكيو (1689 - 1755) فكتابه روح القوانين بحث في الفلسفة السياسية، وكان يعني بكلمة (قوانين) العلاقات الضرورية المستمدة من طبائع الأشياء، وقد ميز بين طبيعة المجتمع ومبدأ المجتمع بقوله طبيعة المجتمع هي بناؤه الخاص المميز ومبدأ المجتمع هو الرغبات والأهواء الإنسانية التي تدفعه للعمل.
    ثم جاء سان سيمون الذي كان ابناً حقيقياً لعصر التنوير ولذا كان يؤمن إيماناً شديداً بالعلم والتقدم كما كان يرغب فوق كل شيء في إنشاء علم وضعي للعلاقات الاجتماعية.
    وأِشهر تلاميذه هو أوجست كونت، ثم جاء دور كايم وتلاميذه وليفي بريل وقد كانوا جميعاً يتابعون نفس التقليد الذي وضعه سان سيمون..
    أما في بريطانيا فكان ديفيد هيوم وآدم سميث وهوبز، وكان هؤلاء الفلاسفة ينظرون إلى المجتمع على أنه نسق طبيعي، أي أنه ينشأ من الطبيعة البشرية ذاتها، وليس من العقد المجتمع، وبهذا المعنى كانوا يتكلمون عن الأخلاق الطبيعية والدين الطبيعي والفقه الطبيعي وغير ذلك.
    هذا الإجمال الذي ذكره مؤلف الانتروبولوجيا الإنتاجية يحتاج إلى تفصيل بذكر كل اتجاه وإعطاء فكرة عن منهجه وآرائه:
    أولاً - نظرية العقد الاجتماعي:
    كانت النظرية السائدة قبل كونت هي نظرية العقد الاجتماعي وصاحبها هو جان جاك روسو وقد سبق شيء من الحديث عنها في الفصل الأول من هذا الباب، والذي يهمنا منها الآن هو نظرتها إلى الأخلاق، أي إلى أسلوب التعامل بين أفراد المجتمع.
    والواقع أن روسو كان جريئاً في تحديه للدين وخروجه على أخلاق وتقاليد عصره، فقد نفى العنصر الإيماني من الأخلاق، وجعل مدارها الرئيسي المصلحة الدنيوية المجردة، أي: تحقيق أفضل وسيلة للتعاون مع المجتمع في حدود الدنيا فقط، ولغرض المنفعة الخاصة أو العامة إن أمكن، وبذلك نشأ للمرة الأولى في تاريخ المسيحية -أن نظر الباحثون للأخلاق على أنها مظاهر صورية للتعامل الخارجي، لا حقائق وقيم تنبع من ضمير الإنسان ويوحي بها وجدانه الإيماني.
    ولم يصرح روسو بمعتقده بطريق مباشر بل استخدم خياله لتصوير دعائم فلسفية وهمية يقيم نظريته عليها، وسنتابعه افتراضاته حتى نصل معه إلى النتيجة المبتغاة: الأصل في الإنسان الفردية، وكان سعيداً أيام حياته تلك ومتبعاً للقانون الطبيعي ولكن الكوارث ودواعي الاجتماع جعلته يتعلم اللغة ويألف الاجتماع حتى أصبح الإنسان الطيب شريراً بالاجتماع.
    على أن الاجتماع قد أضحى ضرورة، ومن العبث محاولة فضه والعودة إلى حال الطبيعة، وكل ما نستطيع صنعه هو أن نصلح مفاسده، بأن نقيم الحكومة الصالحة، ونهيئ لها بالتربية المواطنين الصالحين.
    أما كيفية تحقيق ذلك فيرى روسو: ''أن هذا الغرض ممكن التحقيق بأن تجمع الكثرة المفككة على أن تؤلف شيئاً واحداً وأن تحل القانون محل الإدارة الفردية وما تولده من أهواء وتجرده من خصومات، أي أن يعدل كل فرد عن أنانيته وينزل عن نفسه وعن حقوقه للمجتمع بأكمله، وهذا هو البند الوحيد للعقد الاجتماعي، ولا إجحاف فيه، إذ بمقتضاه يصبح الكل متساوين في ظل القانون، والقانون إرادة الكل تقر الكلي، أي المنفعة العامة''
    وبعد هذه الافتراضات يبدأ روسو في إملاء مقترحاته حول المجتمع المتعاقد:
    لهذا المجتمع دين مدني لا يدع للفرد ناحية من نواحي الحياة مستقلة عن الحياة المدنية، ويتعين على الدولة أن تنكر ديناً كـالمسيحية يفصل بين الروحي والسياسي، وألا تطيق إلى جانبها سلطة كنسية، إذ لا قيمة لما يفصم الوحدة الاجتماعية وإنما لزم الدين؛ لأنه ما من دولة قامت إلا وكان الدين أساسها، على أن يكون هذا الدين قاصراً على العقائد الضرورية للحياة، تفرض كقوانين حتى لينفى أو يعدم كل من لا يؤمن بها، لا باعتباره كافراً، بل باعتباره غير صالح للحياة المجتمعة!
    هذه العقائد هي عقائد القانون الطبيعي: وجود الله والعناية الإلهية والثواب والعقاب في حياة آجلة وقداسة العقد المجتمع والقوانين، ولكن أن يضيف إليها ما يشاء من الآراء في ضميره، أما بالنسبة للأخلاق فعند روسو أن كل ما يسمى الآن حقوقاً وأخلاقاً، ويستمد له سنداً من العقل هو صناعي ناشئ عن الحياة الاجتماعية التي هي صناعية كذلك، وليس في حال الطبيعة أخلاق وحقوق، ما دام الإنسان في تلك الحال مستغنياً عن الإنسان مقطوع الصلة به.
    من ذلك يتضح أن موقف روسو يقوم على أمرين:
    1-فراره الأعمى من الكنيسة المسيحية وعقائدها وأخلاقها، لا سيما وأنه تعرض هو وأمثاله لاضطهادها.
    2- الرومانسية التي يعد أعظم روادها، والتي كانت رد فعل لتقديس العقل الذي كان طابع ما يسمى عصر التنوير، والتي ظهر أثرها أكثر ما ظهر في مجال الفن والأدب.
    هذا وقد سبقت الإشارة إلى قيام الثورة الفرنسية على أفكار روسو الاجتماعية حتى لقد وصف كتابه العقد الاجتماعي بأنه إنجيل الثورة الفرنسية.
    ثانياً: المدرسة الطبيعية:
    إذا تابعنا الفكرة القائلة أن في تاريخ العلم الحديث ثلاث ثورات، لكل منها أثره البالغ في عصره في أكثر من ميدان، فإن الثورة النيوتونية -أي: نظرية الجاذبية- هي الثورة الثانية من جهة الوجود التاريخي ومن جهة شمول تأثيرها.
    لقد برهن نيوتن على أن الكون أو الطبيعة ليست منفلتة ولا مفككة كما كان يتوهم الأقدمون، ولكنها متسقة بدقة عجيبة يربط بين أجزائها قانون رياضي مطرد، ولا شيء من مظاهرها يشذ عليه، هذه الفكرة أوحت إلى العلماء والباحثين الذين كانت الكنيسة تحصي عليهم أنفاسهم وتضيق الخناق على معطياتهم، بأن ينعتقوا من ربقتها ويكفروا بإلهها مؤمنين بإله جديد أسموه بالطبيعة، لكنهم إذ تخلصوا من العقيدة المسيحية المزعجة للعقل، رأوا أن أصعب من ذلك التخلص من الأخلاق المسيحية، التي يراها كل إنسان عاقل ضرورية لبقاء مجتمعهم، لذلك لم يتورعوا عن الإدعاء بأن للإله الجديد قانونه الأخلاقي وشريعته الاجتماعية، التي تجعلنا في غنى تام عن أخلاق وشريعة الكنيسة. ويشترك في هذا الادعاء الذين أنكروا وجود إله الكنيسة جملة والذين آمنوا به على أنه صانع ساعة على حد تعبيرهم مع إنكار الوحي والأديان، وهؤلاء يطلق عليهم بمجموعهم اصطلاح الطبيعيين.
    ويرى أولئك أن العقل البشري -قادر بالاعتماد على نفسه- أن يكتشف القانون الطبيعي المجتمع مثلما استطاع نيوتن اكتشاف القانون الطبيعي لنظام الكون، ومن ثم فليست الأخلاق مرتبطة بالدين، بل لا داعي أصلاً للوحي والكتب السماوية والهيئات الكهنوتية، فكل هذه ليست سوى عوائق تباعد بين الناس وبين القانون الطبيعي الذي له وحده أن يسود.
    يقول راندال: ''إن أحد الأركان الأساسية الثلاثة لديانة العقل كان الاعتقاد أن نظام الطبيعة متضمن لقانون طبيعي في الأخلاق يجب معرفته واتباعه كأي من المبادئ العقلية التي تضمنتها آلة العالم النيوتونية، ومعنى ذلك: أن مبادئ الثواب والخطأ والعادلة والظلم كانت بالنسبة إلى القرن الثامن عشر منسجمة في منهج العقل والعلم، وأن المسلم به كلياً أن لعلم الأخلاق استقلالاً عن أي أسس لاهوتية وإلهية يماثل استقلال أي نوع آخر من المعرفة البشرية، والحقيقة أن الله أمر بالمبادئ الأخلاقية مثلما أمر بقانون الجاذبية لكن مضمون أوامره كمضمون جميع قوانين الطبيعة الأخرى لابد من كشفه بالطرق العقلية والتجريبية للعلم النيوتوني'' .
    وقد أحست بعض النفوس الجريئة مثلما أحس مونتسكيو بأنه لو لم يكن هناك إله على الإطلاق وتحررنا كما يجب، من عبودية الدين فيجب ألاَّ نتحرر من عبودية العدالة، وذلك أن مناهج علم الإنسان والسياسة والاقتصاد والمجتمع بصورة عامة يجب أن تشمل في نطاقها الأخلاق أيضاً.
    أما التخلص من أخلاقيات الكنيسة فقد سلك الطبيعيون إليه طريقاً ملتوياً إذ قالوا: ''إن الله لا يقتصر على وضع القانون الأخلاقي في الكون، وإنما هو قد بث في كل نفس قبساً أو صدى لهذا القانون الأخلاقي نفسه. وهكذا فإن إصغاءنا لصوت ضميرنا أو الالتجاء إلى النور الواضح للعقل الطبيعي - وهي عبارة أثيرة لدى مفكري القرن الثامن عشر - يؤدي بنا إلى كشف نفس الأوامر التي وردت إلينا من الكتاب المقدس ومن كتابات آباء الكنيسة، وعلى ذلك فإن الوحي يدعم الضمير، والضمير من جانبه يدعم سلطة الوحي، ومن هنا فإننا نستطيع أن نستدل على واجبنا من مصادر أخرى غير سلطة الكتاب المقدس أو القانون الكنسي وحده'' .
    واشتد الطبيعيون -ومن جرى مجراهم- في نقد الأخلاق المسيحية لا سيما بعد التشهير والتكفير اللذين تعرضوا لهما من جانب الكنيسة وحاولوا إثبات خطأ الأخلاق المسيحية وعدم فعاليتها، معتمدين على أسس عقلية وأدلة تاريخية وواقعية نستطيع حصرها فيما يلي:
    1-أنها أخلاق اصطناعية غير طبيعية: ومن السهل أن يجد هؤلاء الأدلة الكافية لإثبات هذا الرأي، فقد ذكر كرسون وغيره من الباحثين الأخلاقيين، أن السيرة السيئة لرجال الدين والسلوك الشائن الذي امتازوا به كان أعظم أثراً في الهدم الأخلاقي من كل النظريات العقلية المهاجمة لها، وأصحاب هذا الرأي يقولون: إن الأخلاق المسيحية كالعفة والإيثار والرحمة مبنية على التكلف والاصطناع -وهم هنا يلتقون مع روسو- وليس أدل على ذلك عندهم من أن رجال الدين أنفسهم أول من يخالفها ويصادم دعاوها... ولو كانت هذه الأخلاق طبيعية أي متمشية مع القانون الطبيعي، لما كانت هذه المفارقة التي يشهد بها الواقع المحسوس، لذلك فإن الواجب على المجتمع الذي ينشد الخير والتكامل أن ينفي عنه هذا الزيف والنفاق الذي يسمى الأخلاق المسيحية ويستعيض عنها بالأخلاق الطبيعية، التي يوحي بها الضمير الداخلي ويدعو إليها الانسجام الماثل في الطبيعة الخارجية.
    2-أنها أخلاق تعسفية غير عقلية: يرى هؤلاء أن النظرة المسيحية هي: "إن قوام الحياة الأخلاقية هي طاعة القانون لكن المشكلة في نظرهم هي أن هذا القانون ليس قانوناً يكتشفه العقل البشري وليس بالتالي قانوناً يبدو لنا معقولاً، وإنما هو قانون أتانا من الوحي الإلهي الذي لا يكون أمامنا إلا أن نطيعه، سواءً أكان يبدو معقولاً أم غير معقول، منطقياً أم تعسفياً، عادلاً أم ظالماً، فمن الواجب إطاعته لمجرد كونه تعبيراً عن الإرادة الإلهية، لا لأننا نرى فيه وسيلة لتحقيق سعادتنا المباشرة، وبطبيعة الحال فنحن نفترض أنه لما كانت القوة التي تسهر على تنفيذ هذا القانون الإلهي هي ألوهية خيرة، فسوف يكون بذلك قانوناً خيراً يعبر عن حكمة عليا، ولكن لما كان خلاصنا يتوقف مباشرة على إطاعتنا لهذا القانون، فمن الواضح أن المطلوب منا هو أداء واجبات يحددها بغض النظر عن رأينا البشري في هذه الأوامر.
    ولقد ظل أداء المسيحي لواجبه يعد حتى يومنا هذا مسألة طاعة لا مسألة تبصر، وقد أحسن بعضهم التعبير عن هذه الفكرة إذ قال: إن سبب كون هذه الطاعة خيراً أو حتى سبب كونها لازمة هو أمر لا شأن لنا به وكل ما يهمنا بحق هو أنها لازمة.
    3- أنها أخلاق نفعية انتهازية: يرى أولئك أيضاً أن الأخلاق المسيحية تقوم على مبدأ الثواب والعقاب في العالم الآخر، وتعد الجنة والنار حافزين لهما أهمية قصوى في السلوك الأخلاقي للمسيحي، وهناك حجة مشهورة على وجود الله تقول: ''لو لم يكن الله موجوداً لكان من الضروري ابتداعه، ونستطيع أن نتصور أنصار هذا الرأي وقد أعادوا صياغة هذه الحجة، بحيث تصبح لو لم تكن الجنة والنار موجودتين لكان من الضروري ابتداعهما، وذلك لضمان إقبال الناس على أداء واجباتهم المسيحية''
    ويتلخص رد أولئك على هذا الرأي بأنه يجعل الأخلاق في أساسها مسألة انتهازية أو شطارة وأن الأخلاقية ليست إلا سياسة حكيمة، فلو أردنا اكتساب البركة الإلهية أو البقاء بمنأى عن المتاعب في هذا العالم وفي العالم الآخر معاً فعلينا إطاعة أوامر الأخلاق ولا سيما الأخلاق المسيحية، ومع ذلك فإن هذا الموقف لا يقتصر على المسيحية الشعبية بل إنه على العكس من ذلك قد انتشر على نطاق واسع منذ كانت للناس آلهة يطيعونها أو يسترضونها أو يبتهلون إليها، فقد كانت الأذهان الساذجة تميل دائماً إلى أن تجعل من العبادة الدينية نظاماً للمقايضة يعد فيه العبد بعمل شيء للرب -أي: بطاعته والتضحية له أو مجرد الاعتراف به- ويتوقع في مقابل ذلك نعماً معينة من الرب.
    تلك بعض الأسس التي ارتكز عليها أولئك في هجومهم على الأخلاق المسيحية، وسنرى أن هذا الهجوم قد تبلور واتخذ صيغاً مغايرة أعمق نقداً وأقوى أثراً في النظريات التالية.
    ثالثاً: المدرسة الوضعية العقلية:
    (أ) أوجست كونت:
    شهد النصف الأول من القرن التاسع عشر اضطرابات اجتماعية وتقلبات فكرية منوعة، فقد سقطت أنظمة وأوضاع دامت قروناً متوالية. وانهارت قواعد ومبادئ كانت تسد حاجات المجتمع وتلبي رغباته في مجالات كثيرة، ولم يعقب هدم الماضي الذي أوغل فيه عصر التنوير بناء جديد للحاضر والمستقبل، وظهر لكثير من المفكرين حقيقة أن الهدم قد يتم بوسائل وأفكار خاطئة تماماً، إلى درجة أنها لا تستطيع أن تبني شيئاً جديداً.
    وكان الإنجاز الوحيد الذي استقطب الأذهان وبهر الأنظار هو التقدم العلمي في مجالات البحوث الطبيعية. إلا أنه مهما بلغ من العظمة لم يكن ليغطي القبائح والأمراض التي يعاني منها المجتمع الأوروبي المتناقض، والتي سببها تدهور وانحطاط القيم الاجتماعية بعد أن عجز الفلاسفة عن الإتيان ببديل لقيم الكنيسة الآخذة في الاضمحلال.
    وتساءل كثير من زعماء الفكر: أليس في إمكان العقل البشري بعد تحريره من نير الكنيسة البغيض أن يحقق النجاح الذي ظفر به في مجالات الطبيعة فيبتكر ديناً وضعياً يوازي العلم الوضعي الذي استطاع أن يحل محل علم الكنيسة الميتافيزيقي.؟
    وكان أبرز من أجاب على هذا السؤال عملياً، هو الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت رائد المدرسة الوضعية في الفكر والحياة، والذي يمثل التيار الأهوج الذي انبعث لمواجهة طغيان الكنيسة وحماقاتها.
    ينطلق كونت في فلسفته الوضعية من زعمه أنه اكتشف القانون الأساسي للتقدم البشري، وهو قانون تتابع المراحل الثلاث:
    1- مرحلة الخرافة.
    2- مرحلة الدين.
    3- مرحلة العلم الوضعية،
    ويرى كونت أنه لكي نتجنب أخطاء المرحلة الثانية لنصل إلى علمية المرحلة الثالثة، فإنه على الفكر أن يتجرد من الغيبيات والأوهام ويركز اهتمامه على فكرتي الواقع والنافع لا غير، وهذا هو أساس الوضعية.
    أما الواقع فشرط ضروري لقيام علماء الاجتماع مقام رجال الدين، وعلينا الآن أن نُعدِّل عمل رجال الدين معتمدين على الوقائع وحدها وعلى العقل وحده.
    والمنهج الذي يحقق ذلك في نظره هو (استخلاص العنصر الوضعي الإنساني الثابت من العناصر السلبية الهرمة التي تحتويها الأديان التقليدية، والتي اتخذت من ذلك العنصر الوضعي مطية لها، وبذلك يكتمل المذهب الوضعي ويتوجه على هذا النحو الدين الوضعي).
    والدين الوضعي يقوم على الانتقال من الواقع إلى النافع:
    يرى كونت أن تعاليم الأديان يمكن تلخيصها في معتقدين: الله والخلود، والدين الوضعي يعمد إلى اختيار المضمون الوضعي لهذين المعتقدين، فالمضمون الوضعي لفكرة الألوهية هو فكرة موجود كلي عظيم أزلي تتصل به نفوس العباد فيضفي عليها القدرة على قمع ميولهم الأنانية المتنافرة.... والمضمون الوضعي للخلود هو فكرة مشاركة أهل الحق والعدل... في جانب من الحياة الأزلية للموجود الإلهي ومن هذين المضمونين يستخلص كونت فكرة واحدة شاملة هي الإنسانية، فالإنسانية هي الفكرة الوضعية المتطورة لفكرتي الله والخلود اللتين كانت البشرية تدين بهما في المرحلة الثانية، ويعتقد كونت أن الإنسانية إذا فهمت على هذا النحو فإنها تكون هي نفسها الإله الذي ينشده الناس، أي الموجود الحق العظيم الأزلي يتصلون به اتصالاً مباشراً ويستمدون منه الوجود والحركة والحياة، وبذلك يصل بنا كونت إلى هدفه المراد وهو إلغاء العقائد الدينية الغيبية، وما يتصل بها من أخلاق ونظم اجتماعية، واعتبارها أفكاراً وأوهاماً غير واقعية ولا نافعة، وإنما تعبر عن الصورة غير المكتملة للإنسانية في مرحلة دنيا من مراحل تطورها.
    أما الأسلوب العلمي الحديث، فهو أن يعتنق الناس الدين الوضعي ويعبدوا الإله "غير المشخص": الإنسانية، وعليهم أن يستمدوا مثلهم وأخلاقهم وقوانين تنظيمهم الاجتماعي من ذخيرته وحدها، وعن هذه الذخيرة من القوى الخلقية المتجمعة على مر الأجيال في الموجود تفيض إلى القلوب الأفكار العظيمة والمشاعر النبيلة، فالإنسانية هي الموجود العظيم الذي يسمو بنا عن أنفسنا، ويضيف إلى ما عندنا من تعاطف قدراً فائضاً من القوى التي يحتاج ذلك الميل إليها لإخضاع ميول الأثرة، وفي الإنسانية يتحاب الناس ويتآخون، ثم في الإنسانية يستطيع الناس أن ينعموا حقاً بالخلود الذي يتطلعون إليه.
    تلك هي أسس الوضعية التي أراد كونت أن يتحدى بها تعاليم الدين في العقيدة والسلوك، وقد كان يرى نفسه قادراً على وضع منهج للحياة بديل للمسيحية، وهي حماقة مغرورة نتج عنها علم الاجتماع اللاديني الذي ما يزال بعض المفكرين يتردد في تسميته علماً.
    ويمكن القول بأن آراء كونت وفلسفته لم تكن لتشتهر وتصل من التطبيق إلى الحد الذي بلغته، لولا تلميذه اليهودي دوركايم، الذي طور المذهب ووضع له قواعد محددة، واهتم بالمشاكل العملية مضيفاً إلى ذلك حقداً أعمى وعداوة للدين مريرة.
    (ب) دور كايم:
    كان من حظ المدرسة الوضعية (وبالنظرة البعيدة من حسن حظ الهدامين التلموديين) وفي الوقت نفسه من سوء حظ الأخلاق الأوروبية أن انفجرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الثورة الفكرية الثالثة أو نظرية التطور.
    فالتفسير الآلي الميكانيكي لنشأة الحياة وتطورها عزز الآلية النيوتونية عن الكون غير العضوي، وأفسح المجال أمام الناقمين على الكنيسة لاستنتاج تفسيرات اجتماعية وسلوكية آلية كذلك.
    وهكذا أصبح من الواضح أن أثر الداروينية في العلوم الإنسانية لا يقل عنه في علوم الطبيعة والحياة، لا سيما الإيحاءان الخطران حيوانية الإنسان مع نفي الغاية من وجوده والتطور المطلق، فليس من مؤلف اجتماعي غربي لا يبرز فيه هذان الإيحاءان بجلاء.
    والواقع أن علم الاجتماع كان يعاني صعوبات جمة ويستهدف لانتقادات غير يسيرة، لم ينقذه منها إلا نظرية التطور التي أشيعت بطريقة مذهلة تثير علامات استفهام كثيرة!
    ويتحدث دور كايم نفسه عن هذه الصعوبات متفائلاً لعلم الاجتماع بنجاح يضاهي نجاح النظريات الطبيعية: ''ليس هناك علم إلا وواجه مقاومة من قبل العواطف الإنسانية التي كانت تمس الظواهر الطبيعية، وكانت هذه المقاومة لا تقل في عنفها عن المقاومة التي يلقاها علم الاجتماع في وقتنا الحاضر، وذلك لأن الظواهر الطبيعية كانت هي الأخرى ذات طابع ديني أو خلقي، أما وقد تحررت العلوم واحداً بعد آخر من سيطرة تلك الفكرة الشائعة، فإنه يحق لنا الاعتقاد أنها سوف تختفي في نهاية الأمر من علم الاجتماع أيضاً، أي: من آخر معاقلها، وبذلك تدع السبيل حراً أمام العلماء'' .
    ويعلل دور كايم توقعاته بالمبررات التي يراها كافيه لفصل علم الاجتماع عن الدين، ومن ذلك اعتقاده أن المجال الاجتماعي مجال من مجالات الطبيعة لا يفرقه عنها إلا أنه أشد منها تعقيداً، ومعلوم أنه من المستحيل أن تختلف الطبيعة اختلافاً جذرياً عن أصلها من حالة إلى حالة فيما يتعلق بالأسس الكبرى .
    أي أننا في المجال البشري نستطيع بمقدراتنا الذاتية أن نكتشف ما اكتشفه نيوتن في الطبيعة من قوانين ثابتة، أو ما اكتشفه داروين من حركة آلية متغيرة.
    ولا يفوت دور كايم أن يحدد طبيعة مذهبه كيلا يلتبس بالنظريات الأخرى، فهو يقول: ''إن الوصف الوحيد الذي نرتضيه لأنفسنا هو أن نوصف بأننا عقليون (لا ماديون ولا روحيون) وذلك لأن الهدف الرئيسي الذي نرمي إليه ما هو في الواقع إلا محاولة نريد بها مد نطاق المذهب العقلي حتى يشمل السلوك من الناحية التاريخية إلى بعض العلاقات السببية، وأنه من الممكن أيضاً تحويل هذه العلاقات بعملية عقلية إلى بعض القوانين التي يمكن تطبيقها عملياً في المستقبل، وليس مذهبنا الذي خلع عليه البعض اسم المذهب الوضعي سوى إحدى نتائج المذهب العقلي''
    ولو حاولنا أن نختصر مذهب دور كايم لوجدنا أن محوره ثلاثة أسس:
    1-عقل جمعي عشوائي خارج عن شعور الأفراد.
    2-هذا العقل يصدر أوامره على شكل ظاهرة اجتماعية تتقلب وتتغير بطريقة غير منطقية.
    3-هذه الظاهرة تقهر الأفراد وتخضعهم لسطوتها شعروا أو لم يشعروا.
    وتفصيل ذلك يبدأ من اعتبار الظواهر الاجتماعية أشياء موضوعية لها حقيقتها الخارجية: "إن طريقتنا طريقة موضوعية؛ ذلك لأنها تقوم بأسرها على أساس الفكرة القائلة بأن الظواهر الاجتماعية أشياء ويجب أن تعالج على أنها أشياء".
    "إذا سلم الناس بأن هذا المركب الفريد في جنسه الذي يتكون منه كل مجتمع يؤدي إلى وجود بعض الظواهر الجديدة التي تختلف في طبيعتها عن الظواهر النفسية التي تمر بشعور الأفراد كل منهم على حدة؛ فلابد من التسليم -أيضاً- بأن هذا النوع الجديد من الظواهر لا يوجد في المجتمع، ونعني بها أفراده وإنما يوجد في نفس المجتمع الذي أوجدها، وبناءً على ذلك فإن هذه الظواهر تكون خارجة عن شعور الأفراد حالة تفرقهم".
    "إن الظاهرة الاجتماعية هي كل ضرب من السلوك -ثابتاً كان أم غير ثابت- يمكن أن يباشر نوعاً من القهر الخارجي على الأفراد، أو هي كل سلوك يعم في المجتمع بأسره وكان ذا وجود خاص مستقل عن الصور التي يشكل بها في الحالات الفردية".
    وهذه الظواهر غير ثابتة وليس لها صور معينة تتشكل فيها:
    "إنه كلما أصبحت البيئة الاجتماعية أشد تعقداً وأسرع تطوراً أدت إلى تزعزع التقاليد والعقائد المتوارثة، التي تتشكل بصور غير محددة شديدة المرونة".
    كما أن العواطف المتعلقة بها ليس مصدرها الله أو الدين كما يتصور الناس: "لا تمتاز العواطف التي تتعلق بالظواهر الاجتماعية في شيء عن الظواهر الأخرى على مر العصور، وهي وليدة التجارب الإنسانية ولكن أي تجارب؟!
    إنها تجارب غامضة مهوشة، وليست هذه العواطف فيما أعلم وليدة فكرة علوية مثالية، وجدت من قبل أن يوجد هذا العالم الحسي، ولكنها نتيجة لألوان شتى من الخواطر والانفعالات التي تراكمت على غير نسق وعلى غير هدى، ودون أي تفسير منهجي سليم" .
    ثم إن بيت القصيد في مذهب دور كايم هو تطبيق هذه الأسس الوهمية على الدين وما يتصل به من عقائد وأخلاق، ويتلخص هذا التطبيق في ثلاث قضايا:
    1- أن الدين ليس إلهياً لأن فكرة الألوهية - في نظره - ليست إلا تعبيراً عن البيئة الاجتماعية في مرحلة من مراحل تطورها، ويكون الإله فيها رمزاً للدرجة التي وصل إليها تطوره: ''إذا أردنا فهم الفكرة التي يكونها المجتمع عن نفسه وعن العالم الذي يحيط به، فلا بد لنا من دراسة طبيعة هذا المجتمع لا طبيعة أفراده، فإن الرموز التي يتخذها المجتمع شعاراً له يستعين بها على التفكير في ذاته تختلف باختلاف الحالات التي يوجد فيها، فإذا تصور المجتمع -مثلاً- أنه ينحدر من سلالة حيوان أسطوري واتخذ هذا الحيوان شعاراً له، فمعنى ذلك أنه يتألف من إحدى تلك الجماعات الخاصة التي نطلق عليها اسم العشيرة.
    أما إذا استعاض عن هذا الحيوان الأسطوري بجد إنساني أسطوري هو الآخر؛ فمعنى ذلك أن طبيعة العشيرة قد تغيرت، وإذا تخيل المجتمع وجود آلهة أخرى أسمى مقاماً من آلهته المحلية والعائلية، واعتقد أنها تسيطر على تلك الآلهة الأخيرة، فمعنى ذلك أن الطوائف المحلية التي يتكون منها هذا المجتمع قد أخذت تميل إلى التركيز وتتجه إلى تكوين وحدة اجتماعية، وأن درجة التركز التي يدل عليها وجود معبد يضم جميع الآلهة (pantheon) تقابل درجة التركز التي وصل إليها المجتمع في ذلك الوقت نفسه.
    "وإذا لم يرتض المجتمع بعض ألوان السلوك، فإن السبب في ذلك يرجع إلى أنها تخدش بعض عواطفه الأساسية وتقوم هذه العواطف على أساس من طبيعة المجتمع كما أن عواطف الفرد ترجع إلى تركيبه الطبيعي وتكوينه العقلي".
    وإن الواجب الذي ينبغي القيام به في هذا الصدد هو أن نبحث عن طريقة تداعي التصورات الاجتماعية وتنافرها واتحادها واقترانها، وذلك بأن نقارن بين الديانات الأسطورية والقصص والتقاليد الشعبية'' .
    2- أن الدين -بناء على ما سبق- ظاهرة اجتماعية يفرضها العقل الجمعي بقدرته القاهرة على الأفراد في بعض البيئات والمراحل، دون أن يكون لهم حرية اختيار في ذلك، وهذا يعني أنه لو فرض عليهم - أحياناً - ألا يكون لهم دين مطلقاً لكانوا غير متدينين ولا يملكون إلا الانصياع لذلك: ''إني حين أؤدي واجبي كأخ أو زوج أو مواطن، أو حين أنجز العهود التي أبرمتها أقوم بأداء واجبات خارجية حددها العرف والقانون وعلى الرغم من أن هذه الواجبات لا تتعارض مع عواطفي الشخصية، وعلى الرغم من أنني أشعر بحقيقتها شعوراً داخلياً فإن هذه الحقيقة تظل خارجة عن شعوري بها، وذلك لأنني لست أنا الذي ألزمت نفسي بها ولكني تلقيتها عن طريق التربية، وكذلك الأمر فيما يمس العقائد والطقوس الدينية فإن المؤمن يجدها تامة التكوين منذ ولادته، وإنما كانت هذه العقائد أسبق في الوجود من الفرد الذي يدين بها للسبب الآتي: وهو أن لها وجوداً خارجياً بالنسبة إليه... ولا توجد هذه الضروب من السلوك والتفكير خارج شعور الأفراد فقط، بل إنها تمتاز أيضاً بقوة آمرة قاهرة هي السبب في أنها تستطيع أن تفرض نفسها على الفرد أراد ذلك أم لم يرد'' .
    3-ثم يصل دور كايم إلى نتيجة خطرة، وهي أن الدين ليس فطرياً ومثله الأخلاق والأسرة، وذلك رأي اقتبسه علماء الاجتماع التالون له وعمموه في أبحاثهم، دون أن يدرك هؤلاء أو بعضهم الدافع التلمودي الهدام لدى دور كايم لأن يقول به: ''إن الناس يفسرون عادة نشأة النظام الأسري بوجود العواطف التي يكنها الآباء للأبناء ويشعر بها الأبناء تجاه الآباء، كما يفسرون نشأة الزواج بالمزايا التي يحققها كل من الزوجين وفروعهما...، وليس الأمر على خلاف ذلك فيما يتعلق بالظواهر الخلقية، فإن الأخلاقيين يتخذون واجبات المرء نحو نفسه أساساً للأخلاق، وكذا الأمر فيما يتعلق بالدين، فإن الناس يرون أنه وليد الخواطر التي تثيرها القوى الطبيعية الكبرى أو بعض الشخصيات الفذة لدى الإنسان... إلخ ولكن ليس من الممكن تطبيق هذه الطريقة على الظواهر الاجتماعية اللهم إلا إذا أردنا تشويه طبيعتها'' .
    "ومن هذا القبيل أن بعض هؤلاء العلماء يقولون بوجود عاطفة دينية فطرية لدى الإنسان، وأن هذا الأخير مزود بحد أدني من الغيرة الجنسية والبر بالوالدين وصحبة الأبناء وغير ذلك من العواطف، وقد أراد بعضهم تفسير نشأة كل من الدين والزواج والأسرة على هذا النحو ولكن التاريخ يوقفنا على أن هذه النزعات ليست فطرية في الإنسان، وعلى أنها قد لا توجد جملة في بعض الظروف الاجتماعية الخاصة، ولذا فهذه العواطف المثالية نتيجة للحياة الاجتماعية، وليس أساساً لها أضف إلى ذلك أنه لم يقم برهان قط على أن الميل للاجتماع كان غريزة وراثية وجدت لدى الجنس البشري منذ نشأته، وأنه من الطبيعي جداً أن ينظر إلى هذا الميل على أنه نتيجة للحياة الاجتماعية التي تشربت بها نفوسنا على مر العصور" .
    هذا هو دور كايم، وتلك هي دعاواه التلمودية مغلفة بغلاف العلم والبحث، ومع الأسف فمذهبه أكبر المذاهب الاجتماعية الغربية، ورغم كلاسيكيته لا يزال له أثر عظيم في الدراسات المعاصرة.
    رابعاً: النظرة الشيوعية للمجتمع والأخلاق:
    سبق في فصل الاقتصاد من هذا الباب أن تحدثنا عن المذهب الشيوعي وموقفه من الدين من خلال التفسير المادي للتاريخ، وقد ألمحنا هنالك إلى موقفه من الأخلاق أيضاً، وذلك لأن الشيوعية -كما هو معلوم- تجعل الاقتصاد أساس كل شيء وغايته.
    وقد يكون من الضروري هنا التحدث عن النظرة الشيوعية للمجتمع والأخلاق استقلالاً، وإن كانت في واقع النظرية واجهة اقتصادية فحسب:
    إن الشيوعية في هدفها لا تختلف عن المدرسة السالفة الذكر فـماركس ودور كايم أخوان في اليهودية ونظيران في التصور التلمودي الذي يطمح إلى نسف عقائد وأخلاق الأميين، ولكن كلاً منهما يسلك طريقاً غير طريق صاحبه، وكأني باليهود يخططون لكي يصلوا إلى هذا الغرض من كل منفذ وبأي سبيل، فهم يرسمون للأميين طرائق شتى ويدعون لها الخيار في أن يسلكوا أياً منها، ولكنها كلها -في الحقيقة- روافد تؤدي إلى الهدف نفسه، تدمير الدين والأخلاق.
    فنظير العقل الجمعي العشوائي عند دور كايم يختلق ماركس الحتمية التاريخية العمياء، ذاك يفرض جبرية اجتماعية قاهرة، وهذا يفرض جبرية اقتصادية قاهرة كذلك، ويتفق الإثنان في أن المجتمع (يتطور) وأن الأخلاق كذلك تتطور، وأن لا شيء من القيم والمثل ثابت إطلاقاً، كما يتفقان في النظرة الحيوانية للإنسان فهو إما حيوان اجتماعى أو حيوان اقتصادي، واتفاقهما هنا ليس غريباً بعد أن عرفنا أن الداروينية من أمضى الأسلحة التي استغلها اليهود بمكر ودهاء.
    ومعلوم ما تقوله الشيوعية من أن (الدين أفيون الشعوب)، وأنه (الانعكاس الخيالى للأشياء البشرية في دماغ الإنسان) وأنه نابع أصلاً من (أساس اقتصاد سلبي) وأن الإله ما هو إلا (تشخيص للقوى الطبيعية التي تؤثر على طعام الإنسان) إلى آخر هذه السلسلة من الهراء والزيف التي تقوم على الوهم الكاذب والخيال الخاطئ، ولا تعبر عن حقيقة إلا عن العداوة الحاقدة للدين.
    إذا عرفنا ذلك فما نظرة الشيوعية إلى المجتمع والأخلاق؟
    (يلاحظ بوخارين في كتابه (نظرية المادية التاريخية) أنه ينبغى دون شك التحرز من جعل الشعور الجمعي حقيقة غيبية، لكن هذا التعبير يشير مع ذلك إلى ظاهرتين يمكن ملاحظتهما دائماً في كل مكان:
    1- أن هناك في كل عصر اتجاهاً سائداً في الأفكار والعواطف والحالات النفسية، أي: سيكلوجية سائدة تلون الحياة الاجتماعية بأكملها.
    2- إن هذه السيكلوجية السائدة تتغير تبعاً لتغير طابع العصر، ومعنى ذلك في لغتنا أنها تتغير تبعاً لظروف التطور الاجتماعي، ويفسر المؤلف ذلك بأنه في الواقع توجد خصائص سيكلوجية عامة تتصف بها جميع طبقات المجتمع.
    (وعلى هذا النحو نجد في النظام الإقطاعي سمات سيكلوجية مشتركة بين السيد النبيل وبين الفلاح مثل: التعلق بالأشياء القديمة والروتين والتقاليد والخضوع للسلطة والخوف من الله والركود الفكري والكراهية لكل جديد... إلخ. وهذا يعود في الوقت نفسه إلى سمة الركود في المجتمع، وإلى أن الفلاح كان تحت النظام الأبوي سيداً وأباً في أسرته كما أن السيد كان سيداً وأباً في ضيعته).
    ذلك هو تطبيق قول ماركس: ''إن وجود الناس هو الذي يعين مشاعرهم) وليس العكس، فالمجتمع الإقطاعي ذو البيئة الزراعية مجتمع متدين له تقاليد وفيه أسرة، والمحافظة على العرض فيه خلق أصيل، فإذا تطور المجتمع وأصبح صناعياً واستقلت المرأة اقتصادياً فإن ذلك يستوجب تغيراً حتمياً يساير التغير الاقتصادى والبيئي الحتمي هو الآخر، ومعنى ذلك ألا يظل المجتمع الصناعي محتفظاً بشيء من الدين والأخلاق والتقاليد الزراعية الرجعية، بل يجب أن يستحدث ديناً جديداً وإن كان الإلحاد وأخلاقاً جديدة وإن كانت (النفعية أو المكيافيللية) وتقاليد جديدة وإن كانت (الدياثة والاختلاط''
    ولما كانت الأخلاق مستمدة من الواقع الاقتصادي أساساً أو البيئي على سبيل التعميم، فإن الشيوعية ترى كما أن لكل مرحلة أخلاقها الخاصة فإن لكل بيئة بل لكل طائفة أخلاقها الخاصة أيضاً، وليس هناك من معنى مشترك بين بني الإنسان.
    (بأية أخلاق يعظوننا اليوم؟ إنها أولاً الأخلاق الإقطاعية المسيحية الموروثة من إيمان القرون الماضية، وهى بدورها تنقسم أساسياً إلى أخلاق كاثوليكية وأخلاق بروتستانتية، الأمر الذي لا يمنع انقسامها ثانية إلى أقسام فرعية تذهب من الأخلاق الكاثوليكية واليسوعية ومن الأخلاق البروتستانتية والأرثوذكسية حتى الأخلاق الإنفلاتية، وإلى جانب هذا تقوم الأخلاق البرجوازية الحديثة، ثم من جديد إلى جانب هذه أخلاق المستقبل أخلاق البروليتاريا).
    وإجابة على تساؤل: (ما الصحيح إذن من هذه الأخلاق ولا واحد منها بمعنى مطلق نهائي؟) تجيب الشيوعية: ''لكن الأخلاق التي تحتوي على النصيب الأوفى من العناصر الواعدة بالبقاء هي بالتأكيد الأخلاق التي تمثل في الحاضر، انقلاب الحاضر، تمثل المستقبل، إنها إذن الأخلاق البروليتارية'' ثم لكي تصل الشيوعية إلى هدفها المقصود لا مانع من أن تستدل على الدعوى بالدعوى نفسها: ''منذ نرى لكل من طبقات المجتمع الحديث الثلاث: الارستقراطية الإقطاعية، والبرجوازية والبروليتارية أخلاقها الخاصة، فليس يمكن إلا أن نستنتج من هذا أن الناس -عن وعي أو لا وعي- يستمدون مفاهيمهم الأخلاقية في التحليل الأخير من العلاقات العملية التي يقوم عليها وضعهم الطبقي، أي: من العلاقات الاقتصادية التي ينتجون بها ويتبادلون فيها'' .
    ثم تمثل الفلسفة الشيوعية لذلك: (منذ اللحظة التي تطورت فيها الملكية الخاصة للأشياء المنقولة، كان لابد لجميع المجتمعات التي تسود فيها هذه الملكية الخاصة أن يكون فيها هذه الوصية الأخلاقية المشتركة: لا تسرق فهل يعني هذا أن تصبح هذه الوصية وصية أخلاقية سرمدية؟
    كلاً أبداً، ففي مجتمع أزيلت فيه دوافع السرقة، حيث السرقات بالتالي لا يمكن أن يرتكبها مع مرور الزمن غير مجانين، كم سيضحك الناس من الواعظ الأخلاقى أن يعلن على رءوس الأشهاد الحقيقة السرمدية: لا تسرق!
    ولهذا فإننا نرفض بكل اطمئنان أن تفرض علينا أية عقائدية أخلاقية كقانون سرمدي نهائي لا يتزعزع بعد اليوم، بذريعة أن لعالم الأخلاق هو أيضاً مبادئه الدائمة التي هي فوق التاريخ والفوارق القومية).
    ومن هذا المنطلق تبنت الشيوعية المذهب المكيافيللي نظرياً وعملياً -كما مر في فصل السياسة- وقد أتى (أكناز يوسيلوني) بمثال على ذلك له مغزاه العميق: كان سيلوني باعتباره عضواً بارزاً في الحزب الشيوعي الإيطالى يشارك في جلسات الشيوعية الدولية، وهو يحدثنا: أنه في أحد الاجتماعات نشب خلاف حول تطبيق قرار أصدرته اللجنة المركزية، وقد أبدى بعض الأعضاء وجهة نظر مخالفة تجاه القرار ظهر أنها معقولة، فما كان من المندوب الروسي إلا أن قال: (على جميع الفروع أن تعلن أنها تخضع للقرار الذي صدر ثم تتصرف على عكس ذلك تماماً)، فقام المندوب الإنكليزى مقاطعاً (ولكن هذا يعتبر كذباً) يقول سيلوني: (وقد قوبل ذلك الاعتراض النزيه بعاصفة من الضحك الصادق الصادر من القلب والذى لا أحسب مكاتب الشيوعية الدولية الكئيبة قد سمعت مثله من قبل، وقد ذاعت هذه (النكتة) سريعاً في طول موسكو وعرضها، إذ أن إجابة الإنكليزي التي لا تصدق لم تلبث أن نقلت بالهاتف إلى استالين وكبار الموظفين في روسيا، وكانت تثير في كل مكان عاصفة من الانبساط والضحك). .
    هذا وسنرى -إن شاء الله- بعض الواقع الأخلاقي الشيوعي إن كان لدى الشيوعية شيء اسمه أخلاق.
    خامساً: النظرية العضوية والنفعيون:
    من بين النظريات الاجتماعية الكبرى تبرز النظرية العضوية التي يعد (هربرت سبنسر) ألمع ممثليها. ومن بين النظريات الأخلاقية (النظرية النفعية) التي حمل لواءها (بنتام) و(آدم سمث) و(جون ستيوارت مل) ويمثلها في هذا القرن (برتراند رسل).
    ويصح لنا أن ننظر إلى هاتين النظريتين ونعالجهما على أساس أنهما يمثلان اتجاهاً واحداً، فبالإضافة إلى اتفاقهما في البيئة (إنجلترا) فهما تتقاربان أو تتحدان في النظر إلى الدين والأخلاق وهي الزاوية التي نعالج موضوعنا من خلالها، كما أنهما يستمدان مفهوماتهما عن الإنسان والمجتمع من نظرية التطور، لا سيما النظرية الأولى التي يبدو هذا الاستمداد واضحاً في مسماها نفسه.
    أما هربرت سبنسر فيرى أن (الأديان تخضع لقانون التطور كما تخضع جميع الظواهر الأخرى) ويأتي بتفسير خاص لنشأة الدين يتحدث عنه (بوترو) قائلاً: ''إن نقطة البداية في الأديان تبعاً للترتيب التاريخي هي الواقعة الأولية التي تتعدد فينتج عنها صور مختلفة لا نهاية لها، ليست شيئاً آخر سوى ما يسميه سبنسر بالقرين (double) فالإنسان يرى في صفحة الماء صورته أو قرينه، وكذلك يرى نفسه في الرؤيا كما يرى فيها صورة غيره من الناس... وفي الإنسان نزعة طبيعية تميل به إلى الاعتقاد أن القرين لا يتلاشى، كل ما في الأمر أنه ينصرف ولعله يظهر مرة أخرى في حلم مستقبل حتى إذا حانت منية المرء سهل عليه الاعتقاد بأن هذه الأنا الغامضة لا تزال باقية، وأنها تظل كثيراً وقليلاً شبيهة بنفسه، فهي إذن تشبه شبهاً بعيداً أو قريباً ذلك الكائن المرئي الذي كان قرينه، ومن هنا نشأ الاعتقاد في الأرواح والكائنات الفائقة على الطبيعة وفي قوتها وتأثيرها في حياة الإنسان.
    وهذا هو الأصل التاريخي للأديان في نظر هربرت سبنسر، والذي يلتقي فيه مع الأبيقورية ثم تفرع عن هذا الاعتقاد المعتقدات والطقوس والنظم الكهنوتية''
    (ولكل كائن واقعي قرينه الذي يمكن أن يعتبر روحاً وقد احتشدت الأرواح الدنيا على مر الزمن تحت سلطان الأرواح العليا التي سميت بالآلهة ثم انتهت هذه الآلهة ذاتها إلى الخضوع لإله واحد، وقد سعى الإنسان إلى تمثيل هذه القوى الفائقة على الطبيعة وإلى جعلها قريبة ومحبوبة منه فنشأت من هذه الرغبة الخرافات الدينية أو (الميثولوجيا) الرقى والعبادات والنظم التي نمت حسب قانون التطور ذاته إلى الحد الذي لم تعد تحتفظ فيه لنفسها أحياناً إلا بآثار ضعيفة جداً من أصلها.
    (وإذ فقدت هذه النظم بعد التطور الشديد لاعتقادات الناس اعتمادها على هدفها الأول، فقد ظلت قائمة كرابطة اجتماعية وهى صفة بالغة الأهمية خلعها التطور على هذه النظم وأصبحت الأديان من الآن فصاعداً تمثل استمرار الجماعات، ولذلك كان للأفراد مصلحة عظمى في احترامها.
    هكذا أجهد سبنسر خياله في اختلاق جذور بعيدة وأصول وهمية للدين، كما فعل كونت ودور كايم وماركس ليصل إلى النتيجة الأخيرة وهي أن الأديان رابطة اجتماعية مصلحية، وعلى هذه النتيجة مدار المذهب الأخلاقى النفعي، فالواقع أنه لم يزد على أنه أعطى هذا المذهب قوة جديدة، ولنأخذ (برتراند رسل) نموذجاً لهذا المذهب لأنه لا يعبر عن المدرسة النفعية التي ابتدأها بنتام فحسب بل يتحدث عن الواقع العملي لهذا المذهب الذي يسيطر على الحياة الغربية.
    يقول رسل: ''فصل الأخلاق عن اللاهوت أصعب من الفصل المماثل الذي حدث في حالة العلم... فالعديد من المفاهيم الأخلاقية التقليدية يصعب تفسيره بل وكثير منها يصعب تبريره إلا على أساس من افتراض وجود إله أو روح عالمي (أو على الأقل هدف كوني ثابت)، (وأنا لا أقول: إن هذه التفسيرات والتبريرات مستحيلة دون أساس ديني، ولكن أقول: بأنها بدون مثل هذا الأساس تفقد قدرتها على الإقناع وقوة الإرغام السيكولوجي، وقد كانت إحدى الحجج التي يفضلها المتمسكون بالدين دائماً أنه بدون الدين يصير الناس أشراراً، وقد أنكر مفكرو القرن التاسع عشر الأحرار في بريطانيا من بنتام إلى هنري سيد جوبك هذه الحجة إنكاراً شديداً''
    (إن موضوع إمكان استقلال الأخلاق على أية صورة اجتماعية مناسبة عن الدين يجب إعادة بحثه بأكمله وقد قام رسل فعلاً بذلك فوصل إلى نتيجة مفادها أن الدين ليس مصدر الأخلاق، بل إن الأخلاق قد مرت بثلاث مراحل من التطور:
    1- أخلاق المحظور (تابو) أي المحرم.
    2- أخلاق الطاعة الإلهية.
    3- الأخلاق الحديثة، وهى أخلاق نفعية عقلية.
    يقول رسل في تفصيل ذلك:
    (توجد المعتقدات والمشاعر الأخلاقية في جميع المجتمعات الإنسانية المعروفة حتى أكثرها بدائية... وبعض هذه المعتقدات مما يمكن الدفاع عنه على أسس عقلية، بيد أن الغالبية الساحقة من المعتقدات في المجتمعات البدائية خرافية بحتة).
    (والمحظور (تابو) هو أحد المصادر الرئيسية للأخلاق البدائية، فهناك بعض الأشياء خاصة تلك التي تخص رئيس القبيلة تحمل في طياتها المنع وإذا لمستها تموت، وأشياء أخرى بذاتها مكرسة للروح ويجب ألا يستعملها سوى ساحر القبيلة، وبعض الأطعمة مشروعة وبعضها غير مشروع، وبعض الأفراد يعتبرون قذرين حتى يتطهروا، وينطبق ذلك خاصة على مثل أولئك الذين تلوثهم بعض الدماء، فلا يقتصر الأمر على من ارتكبوا جريمة القتل، بل إنه ينطبق على النساء أثناء الولادة ودورات الطمث) (سفر اللاويين: 15، 19، 29)، وتظل صور الفضيلة التي أساسها (المحظور) باقية في المجتمعات المتمدينة مدىً أكبر مما تدرك الناس، فقد حرم فيثاغورس أكل البقول، وكان أمبيذ كلس يعتقد أن مضغ أوراق الغار فيه خطيئة، ويرتجف الهندوكيون من مجرد فكرة أكل لحم البقر بينما يعتبر المسلمون واليهود المتمسكون بالدين الخنزير غير طاهر، وفي سنة (1916م) أرسل أحد رجال الدين من سكوتلانده كتاباً إلى الصحف يعزو عدم نجاحنا في الحرب ضد الألمان، إلى أن الحكومة شجعت زراعة البطاطس في أيام الأحاد وجميع هذه الآراء لا يمكن تبريرها إلا على أساس المحظور.
    (وانتشار القوانين التي تحرم صوراً مختلفة من الزواج بين أفراد العشيرة هو مثل من خير الأمثلة على المحظور، فالقبيلة تقسم -أحياناً- إلى مجموعات، وعلى الرجل أن يتخذ زوجته من مجموعة أخرى غير مجموعته، وتحرم الكنيسة الأرثوذكسية زواج آباء الطفل الواحد في العماد، ولم يكن الرجل يستطيع إلى عهد قريب في إنجلترا أن يتزوج أخت زوجته المتوفاة.
    ومثل هذه الزيجات لا يمكن تبريرها على أساس أن الزيجات المحرمة تتضمن أي ضرر، ولا سبيل إلى الدفاع عنها إلا على أساس من المحظورات القديمة.
    "بل وأكثر من ذلك أن صور الزواج من المحارم التي لم يزل معظمنا يعتبرها مما لا يتفق والشرع، يستفظعها معظم الناس إلى حد لا يتناسب مع الضرر الذي ينجم عنها، ويجب أن نعتبر ذلك أثراً من آثار المحظور الذي كان موجوداً قبل التبرير العقلي" .
    وقارن مثلاً بين النفور المشمئز من زواج المحارم والتحريم الهادئ لجرائم مثل التزوير التي لا يدخل فيها عنصر الخرافة؛ لأن المتوحشين لا يستطيعون ارتكابها.
    ثم ينتقل رسل إلى الحديث عن المرحلة الثانية: ''كلما بدأ الناس يتقدمون في المدينة قل قبولهم لمجرد المحظورات، فأحلوا محلها الأوامر والنواهي الإلهية، فالأوامر العشرة تبدأ'' ثم تكلم الله بجميع هذه الكلمات قائلاً:
    "ونجد في التوراة من أولها إلى آخرها أن الرب هو الذي يتكلم... ".
    وهكذا تصبح الطاعة جوهر الأخلاق، والطاعة الأساسية هي طاعة المشيئة الإلهية، بيد أن هناك صوراً أخرى عديدة من الطاعة تستمد شرعيتها من أن ألوان عدم المساواة الاجتماعية مصدرها مشيئة الله، فالرعايا تجب عليهم طاعة الملك؛ والعبيد طاعة سادتهم، والزوجات طاعة أزواجهن، والأبناء طاعة آبائهم.
    أما المرحلة الثالثة فيرى رسل أن لها أساساً قديما أيضاً ولكن لم يعظم شأنها إلا في العصر الحديث: ''ولقد كان هناك من أول الأمر أساس مختلف للمشاعر والقواعد الأخلاقية، وهو مبدأ الأخذ والعطاء أو التراضي الاجتماعي. ولا يعتمد هذا كما هو الحال في النظم الأخلاقية الأخرى.. على الخرافة ولا على الدين، إنه ينبعث بصفة عامة عن الرغبة في حياة هادئة. فعندما أريد شيئاً من البطاطس مثلاً فإني قد أتسلل ليلاً وأستولي على بعض منه في حقل جاري، وجاري قد ينتقم بأن يسرق الفاكهة من شجر تفاحي...، وفي النهاية سنرى أن الأمر سيكون أقل إزعاجاً وأكثر راحة لو أن كلاً منا احترم مال الآخر'' .
    بالرغم من أن نظاماً مثل هذا قد تساعده المحظورات أو الشرائع الدينية، إلا أنه يستطيع أن يظل قائماً حتى بعد انهيارها، حيث إنه يتضمن على الأقل من ناحية النوايا مزايا للجميع، ومع تقدم المدنية عظم الدور الذي يلعبه هذا النظام باطراد في التشريع والحكم والأخلاق الخاصة، ولكنه لم ينجح في الإيحاء بذلك الإحساس العميق من الاستفظاع أو التوقير المتصل بالدين أو المحظور. ولعل هذا الاستدراك من رسل (بالإضافة إلى التراضي الاجتماعي، والحياة الهادئة التي تسود الغرب اليوم!!)، يكفي لبيان قيمة العنصر الإيماني في الأخلاق.
    سادساً: الدراسات النفسية الحديثة:
    يرى بعض الباحثين أن علم النفس المعاصر هو أحدث العلوم جميعاً؛ لأنه آخر علم استقل عن الدين والفلسفة، ويعزون ولادة هذا العلم إلى ثلاثة عوامل برزت في منتصف القرن الماضي:
    أولها: المنجزات الجديدة في الطبيعيات، وعلم وظائف الأعضاء.
    والثاني: شارلس داروين الذي قدم عرضاً لآرائه عن علم الحياة التطوري الحديث...، وألف كتاباً بعنوان: التعبير عن الانفعالات عند الإنسان والحيوانات..
    والثالث: أبحاث التجريبيين الذين أسسوا لأول مرة معامل الدراسات النفسية الحديثة.
    وأشهر المدارس النفسية المعاصرة على المستويين النظري والتطبيقي - لا سيما من جهة صلتها بموضوع الأخلاق - مدرستان:
    الأولى: المدرسة السلوكية: (behaviourism).
    يرى هاري ويلز أن قيام علم نفس مادي يناهض الأفكار الرجعية والمثالية كان يفتقر إلى حلقة مفقودة هي ما أسماه الميكانزم المادي الذي يمكنه أن يفسر لنا كيف نتج الوعي بالطبيعة، وكيف يعكس الوعي الواقع.
    ويقول: ''لقد ظلت المادية تعاني ضعفاً ما منذ أن كانت تفتقد هذه الحلقة -أي: منذ كان الميكانزم العصبي مجهولاً، واستغل المثاليون هذا الضعف واستفاد منه الرجعيون لنشر الجهل وتشويش الفكر وخلق أساطير عن الطبيعة البشرية''.
    والباحث الذي استطاع أن يسد هذه الثغرة هو بافلوف بنظريته عن الأفعال المنعكسة الشرطية، والمبدأ الأساسي الذي تقوم عليه المدرسة السلوكية هو حيوانية الإنسان وماديته، وذلك نتيجة لإيمانها الأعمى بنظرية داروين، وهو إيمان يبدو جلياً سواء في كتابات بافلوف أو في تجاربه العملية، فقد كانت إحدى المشاكل الكبرى التي يتوهم بافلوف أنه وضع لها العلاج الناجح هي مشكلة نشأة الوعي وتطوره في النوع الإنساني منذ أن كان قرداً إلى أن أصبح إنساناً.
    ويقول أيضاً: ''اكتسب عالم الحيوان في مسيرة تطوره حتى بلغ مرحلة الإنسان إضافة فريدة مكملة لميكانزم النشاط العصبي''، ويعني بذلك النظم الإشاري.
    أما خلاصتها الفكرية فتتمثل في إنكار الروح وإنكار استقلالية العقل، والإيمان بالجسد وحده، واعتبار السلوك البشري بأكمله أفعالاً شرطية منعكسة لا غير أي: أن السلوكية تدعم النظرية الماركسية القائلة أن واقع الناس هو الذي يعين مشاعرهم، وتسند نظرية أنجلز في أن العمل هو الذي خلق الإنسان أي طوره عن القردة، ومن هنا أطلق عليها الفيلسوف جود اسم المادية الحديثة،
    وعن ذلك يتحدث هاري ويلز قائلاً: ''ونظرية بافلوف عن نظام الكلام وهو نظام قاصر على الإنسان وحده، هي النظرية التي تملأ الثغرة التي أشار إليها أنجلز في كتابه عن الانتقال من مرحلة القردة إلى الإنسان'' .
    وهكذا نجد أن نظرية بافلوف عن العمليات العصبية الراقية إذ تملأ تلك الثغرة في المعرفة البشرية إنما تقدم إسهاماً جليلاً للمادية، فهي تزودنا بالحلقة الأخيرة في البرهان على صدق القضية المادية الأساسية القائلة بأن الوعي أو العقل البشري ثانوي بالنسبة للمادة ومشتق منها...، ولهذا السبب نفسه تلقت المثالية ضربة ساحقة وإن لم تكن القاضية والأخيرة؛ وهي المذهب القائل بأن المادة ثانوية للنشاط العقلي ومشتقة منه.
    إن علم دراسة النشاط العصبي الراقي هو خطوة جديدة تؤكد وتعمق نظرية المعرفة المادية القائلة بأن الوعي والمعرفة انعكاس للواقع وأن الحق تطابق معه، وفي هذا يقول لينين: يعكس الوعي الوجود بوجه عام، وهذا هو مجمل موقف كل المذاهب المادية، والاحساسات هي المواد الأولية التي يستخرج منها الفكر والعلم التجريبيان الحقائق والقوانين التي تعكس الطبيعة وحركة العالم الخارجي، وحجر الزاوية لأي نظرية مادية في المعرفة هو القول بأن الاحساسات صور للواقع، إنها منبهات صادرة عن الموضوعات الخارجية، ولهذا يقول لينين: إن كل مفكر مادي يرى أن الإحساس ليس سوى رابطة مباشرة تربط العقل بالعالم الخارجي، إنه تحول لطاقة الإثارة الخارجية إلى حالة ذهنية، ويتم تحول هذه الطاقة من خلال الجهاز العصبي، وهو ما اكتشفه بافلوف وعبر عنه في صورة الميكانزمات المترابطة التي تربط بين النظامين الكلامي والحسي.
    ذلك بإجمال هو مضمون النظرية السلوكية عن الإنسان وتفسيرها لتصرفاته، وقد كان لها مع فكرها المادي نظرياً أسوأ الأثر في التطبيق الواقعي، فقد استغلها الهدامون لنفي الفطرة وإنكار القيم الخلقية المجردة، كما أن طواغيت السياسة عرفوا كيف يستخدمون تجاربها على الشعوب بدلاً من الكلاب مثلما استخدموا قانون الانتخاب الطبيعي من قبل، وقد فصل العلامة مالك بن نبي الحديث عن ذلك مؤيداً بالشواهد الواقعية.
    والواقع أن بافلوف لم يكن الأول في القائلين بنظرية الفعل المنعكس الشرطي، ولا هو أول السلوكيين، فقد سبقه إلى النظرية أستاذه ستشينوف الذي ألف كتاباً أسماه: الأفعال المنعكسة للمخ سنة 1866، ولكن ظروف ما قبل الثورة الشيوعية كانت متحفظة تجاه الفكر الهدام، ولذلك فإن لجنة الرقابة في بطرسبرج شمت من الكتاب رائحة التآمر والإفساد، وناشدت النائب العام لاتخاذ آراء ضد كتاب الأستاذ أ. م. ستشينوف المادي المتطرف على أساس أنه يقوظ دعائم الأخلاق في المجتمع.
    لقد صاغ السيد ستيشنوف نظريته في ثوب رسالة علمية، بيد أن أسلوبها أبعد ما يكون عن الصيغة العلمية؛ ذلك لأنه كتبها بأسلوب يسهل على القارئ العادي أن يفهمه، وتؤكد لنا هذه الحقيقة فضلاً عن رخص سعر الكتاب أن المؤلف يقصد عامداً أن تكون نظريته سهلة التناول لأكبر عدد من القراء، ويلزم عن هذا أن كتاب السيد ستشينوف الأفعال المنعكسة للمخ مقصود به إفساد الأخلاق، فهو خارج عن القانون إذ يمثل خطورة على ضعاف العقيدة من الناس، ومن ثم تجب مصادرته وإعدامه.
    ذلك ما تعرض له الأستاذ، أما التلميذ بافلوف؛ فقد كانت حكومة استالين تقيم له المهرجانات، وظل محط التكريم والتعزيز حتى وفاته سنة (1936م) ولا غرابة في ذلك.
    الثانية -مدرسة التحليل النفسي: (psychoanalysis)
    بافلوف وفرويد متعاصران، وبينهما أوجه شبه لا سيما في النتائج والمقاصد التي وصل كل منهما إليهما، إلا أن الخلاف بينهما - في المنهج - عميق؛ ذلك أن بافلوف انطلق من الشعور في حين أن فرويد انطلق من اللاشعور، واعتمد بافلوف على تجارب موضوعية بينما اعتمد فرويد على تصورات ذاتية وتحليلات خاصة.
    ومؤلفات فرويد جميعها تعبر عن يهوديته أكثر مما تعبر عن منهجه العلمي إن كان له علم أو منهج! وهذه اليهودية تظهر جلية في التدنيس والتلويث المتعمدين للجنس البشري، وهي ظاهرة بارزة في التوراة المحرفة، كما تتجلى في الإفساد المتعمد للأخلاق والتآمر الخبيث على القيم الإنسانية وهما مضمون وفحوى التلمود.
    ويكفي للدلالة على ذلك موقف فرويد من المسيح -عليه السلام- "أقدس شخصية لدى أوروبا النصرانية"، كان التلمود يصف المسيح عليه السلام بأقذع النعوت وأشنع الألقاب، ولكن الكنيسة كانت تلاحقه في كل مكان بالحرق والمصادرة مما اضطر الحاخامات إلى ترك مكان العبارات التي تذكر المسيح عليه السلام خالية، ووضع مربعات فارغة محلها أو الإيماء إليه من طرف خفي.
    غير أن فرويد استطاع بذكائه الخبيث، وتمسحه بالعلم، أن يثأر للتلمود؛ فجاء بتلك العبارات بنصها، وأقذع منها ونشرها علانية في محاضراته وكتبه وهو آمن من أن تمسه يد سوء وقس على ذلك موقفه من الدين والأخلاق.
    وهذا يقودنا إلى معرفة مدى التفسخ الذي وصلت إليه البيئة الأوروبية والانهيار الديني والخلقي الذي اجتاحها؛ فكانت بيئة ملائمة لتفريخ أفكار فرويد وتقبلها مما دفعها إلى تفسخ أعظم.
    فالفكر المادي تغلغل في النفوس، والنزعة الحيوانية المنفلتة أصبحت هي الصبغة العامة للحياة، والثورة الصناعية وما صاحبها من تغيير في البنية الاجتماعية وتفكك في الحياة الأسرية، هيأت -جميعها- الجو للهدم الأخلاقي والعقائدي، ثم كانت الحروب الإقليمية والعالمية (الأولى) فقوضت دعائم المجتمع الأوروبي، وأفقدته الثقة في كل مبادئه ومعتقداته، ونشرأوديبت الرعب والذعر في القلوب وحطمت كل الأعراف والقوانين والأخلاقيات.
    وصحب ذلك إسفاف مريع وهبوط شائن في الأدب والفن يسرته وعممته دور السينما وكتب الجنس وقصصه ولوحاته.
    يضاف إلى ذلك ما كان يعتلج دوماً في النفسية الأوروبية من حقد عارم على الكنيسة، وتحفز دائب للانتقام منها، وشعور لا ينفك بالنقص والذنب، وهو ما أورثته الرهبانية لها، كل هذه الأمور هيأت الجو الملائم للهدامين التلموديين لإطفاء الجذوة الباقية، ونهش المزعة الأخيرة من جسد الخلق والفضيلة.
    وقد عرفنا دورهم في الثورة الفرنسية، ثم في قيام الرأسمالية وتعرضنا لاستغلالهم للداروينية، ثم عرضنا لـماركس ودور كايم وأفكارهما الهدامة، والآن يصل بنا البحث والزمن التاريخي إلى ثالث الثلاثة فرويد، وهو أكثرهم جرأة وأصرحهم إسفافاً، والحق أنه لم يفت بعض الباحثين الغربيين أن يدركوا الدوافع والمنطلقات الخفية للفكر الفرويدي بإرجاعها إلى يهوديته وتطبيق نظريته على نفسه، وقد قال بعضهم: ''من المؤكد أن مفهوم الأنا العليا يجد مصدره في ديانة فرويد الأولى اليهودية إن هذه الأنا العليا هي القانون المتبطن بدءاً من الشخصية الرئيسية الإلهية باعتبارها أباً أو من شخصية موسى باعتبارها أباً ووسيطاً معاً'' .
    ولكن هذا الإدراك لا حول له ولا طول أمام الانتشار الفظيع للفرويدية الذي جاء كما لو كانت كشفاً علمياً مذهلاً، ويقع عبء ذلك على عاتق الصحافة الغربية التي تعمل دائماً تحت تأثير المذهب اليهودي وبوحي من المرابين اليهود.
    تبدأ نظرية فرويد من زعمه بأنه اكتشف المدخل الوحيد والسليم لدراسة النفس البشرية والحكم على سلوكها وهو عقدة أوديب، ويعتقد فرويد أنه اكتشاف عظيم حقاً: ''يحق لي أن أقول إنه لو لم يكن للتحليل النفسي إلا فخر اكتشاف عقدة أوديب المكبوتة لكان ذلك خليقا بأن ينظمه في عداد أثمن ما كسب الجنس الإنساني حديثاً'' .
    فأي شيء يا ترى عقدة أوديب هذه الجديرة بهذا التهويل؟!
    يقول فرويد في بيانها: ( يبدأ الولد الصغير في سن مبكرة يشعر بالحب نحو أمه، وهو حب كان في الأصل متعلقاً بثدي الأم، كما أنه أول حالة من حالات حب الموضوع تنشأ على صورة الاعتماد على الأم، أما فيما يتعلق بالأب فإن الولد يقوم بتقمص شخصيته وتبقى هاتان العلاقتان جنباً إلى جنب لفترة من الوقت، ثم تأخذ الرغبات الجنسية المتجهة نحو الأم تزداد في الشدة، ويأخذ الأب يبدو كأنه يعوق تحقيق هذه الرغبات، وعن ذلك تنشأ عقدة أوديب، ثم يأخذ تقمص شخصية الأب بعد ذلك يتخذ صفة عدائية، ويتحول إلى رغبة في التخلص من الأب لكي يأخذ مكانه من الأم، وتصبح علاقته الوجدانية مع الأب منذ هذه اللحظة متناقضة).
    ويبدو كأنما هذا التناقض الوجداني- وهو أمر طبيعي في التقمص منذ البداية- قد أصبح الآن واضحاً، ويتكون من موقف التناقض الوجداني نحو الأب؛ وعلاقة الحب الشديدة نحو الأم مضمون عقدة أوديب الإيجابية البسيطة عند الولد.
    وبزوال عقدة أوديب يصبح من الواجب الإقلاع عن حب الأم، وقد يملأ مكانها بأحد أمرين: إما بتقمص شخصية الأم، وإما بتقمص شخصية الأب بدرجة شديدة، وترجع عقدة أوديب الكاملة إلى الثنائية الجنسية الموجودة في الأصل عند الأطفال، ومعنى هذا أن الولد لا يقف -فقط- موقف التناقض الوجداني مع أبيه وموقف المحب مع أمه، وإنما هو يسلك أيضاً في نفس الوقت سلوك البنت، ويبدي ميلاً أنثوياً عاطفياً نحو أبيه، كما يبدي اتجاه العداء نحو أمه والغيرة منها.
    وإذا سمع أحدٌ هذا الكلام وتناوله على أساس أنه صادر من إنسان جاد يعي ما يقول فإن من بين الأسئلة التي يثيرها يبرز سؤال عن إمكان وجود شعور جنسي لدى الأطفال؟، ولا يدع فرويد هذا السؤال بلا جواب، بل يفصل القول في ذلك معتمداً على الخيال اليهودي الدنس: الحياة الجنسية لا تبدأ أولاً عند البلوغ، وإنما تبتدي عقب الميلاد بمظاهر واضحة، فنشاهد في عهد الطفولة المبكر علامات للنشاط الجنسي لا يمكن أن ينكر عليها صفة الجنسية إلا الرأي المغرض القديم!!
    وهذه عند فرويد هي المرحلة الجنسية الأولى، ويتبعها فترة كمون لا تبدو فيها آثار النشاط الجنسي، أما الثالثة فهي مرحلة البلوغ.
    ويعلق فرويد على ذلك مستنتجاً: (وهذا يؤدي بنا إلى حقيقة هامة، وهي أن الحياة الجنسية ترد على دورتين، وهو ما لا نجده إلا عند الإنسان ولا شك أن له أثرا بالغ الأهمية في تكوينه، أما الدليل العلمي على ذلك فيعتقد فرويد أنه الفرض القائل بأن الإنسان انحدر عن حيوان ثديي كان يبلغ النضج الجسمي في سن الخامسة.
    وهذا الدليل العلمي(!) لا يزودنا فرويد بأية معلومات عنه، ولا يخبرنا عن مصدره التاريخي العلمي.
    ولعله اعتمد على موجة رواج فرضية داروين التي بدأ فرويد أبحاثه في عنفوان شبابها، وكانت شهرتها الطاغية المدبرة تقطع أي تساؤل يثار حولها.
    وعلى أي حال فإن فرويد يشرح ذلك كما لو كان حقيقة علمية ثابتة فعلاً فيقول: أول عضو يظهر بوصفه منطقة شهوية تعرض مطالبتها اللبيدية على النفس هي الضم منذ الميلاد، فإلحاح الطفل في المص وتشبثه به في مرحلة مبكرة ينم بوضوح عن حاجة إلى الإشباع... يمكن بل يجب أن توصف بأنها جنسية ).
    أما المرحلة الثانية فهي المرحلة السادية الشرجية؛ لأن الإشباع فيها يطلب في العدوان وفي وظيفة الإخراج.
    و المرحلة الثالثة نسميها المرحلة القضيبية...، ومع المرحلة القضيبية وفي خلالها تبلغ الجنسية الطفلية الأولى ذروتها وتقترب من اضمحلالها، ومن الآن فصاعدا تختلف مصائر الصبيان والبنات، فيدخل الصبي الطور الأوديبـي ويأخذ يعبث بقضيبه عبثاً تصحبه أخيلة أن يزاول نوعاً من النشاط الجنسي ذا صلة بأمه....
    وإلى الآن فإن غرض فرويد من هذه الفرضيات والأوهام القذرة ما يزال غير واضح تماماً، لكنه يأخذ في إيضاحه بإضافة فرض آخر ناشئ من عقدة أوديب هو ما أسماه الأنا المثالي : فالأنا المثالي هو إذن وريث عقدة أوديب؛ ولذلك فهو أيضاً نتيجة أقوى الدوافع وأهم التقلبات التي مرت باللبيدو في الهو .
    وبتكون هذا الأنا المثالي يقوم الأنا بالتغلب على عقدة أوديب، كما يقوم في نفس الوقت بوضع نفسه تحت سلطة الهو ''.
    وإذ قد وصلت السلسلة الوهمية إلى هذا الحد يبدأ فرويد في الإفصاح عن مرماه البعيد: ''من السهل أن نبين أن الأنا المثالي إنما يكون من جميع الوجوه ما ينتظر من طبيعة الإنسان السامية، ومن حيث أنه بديل لشوقه نحو الأب فهو يحوي على الأصل الذي منه نشأت جميع الأديان، وأن حكم النفس بأن الأنا قد فشل في تحقيق ما هو مثالي عنده إنما يحدث بالإحساس بعدم الجدارة؛ وهو الإحساس الذي يثبت به المتدين شوقه، وعندما يكبر الطفل تنتقل سلطة الأب إلى المدرسين وإلى الأشخاص الآخرين ذوي النفوذ، وتظل سلطة أوامرهم ونواهيهم باقية في الأنا المثالي،وهي تستمر تزاول رقابتها على الأخلاق في صورة الضمير'' . ''إن الدين والأخلاق والشعور الاجتماعي - وهي العناصر الأساسية لما هو أسمى في الإنسان - إنما كانت في الأصل شيئاً واحداً، وقد اكتسبت هذه الأشياء تبعاً للفرض الذي وضعته في كتاب الطوطم والمحرم عن عقدة الأدب أثناء نشوء النوع الإنساني، فاكتسب الدين والوازع الخلقي عن العملية الحقيقية للتغلب على عقدة أوديب نفسها...'' .
    وقبل أن نتعجل ونقول: إن هذا الهراء المتعمد لا دليل عليه ولا غرض له إلا الانتقام المتعمد من الأميين بتلويث دينهم وأخلاقهم، فإن علينا أن نبحث عن الغرض الذي ذكره فرويد عن الإنسانية في مرحلتها الأولى، فلعل فيه شيئاً من العلمية أو قل: شيئاً من النظافة.
    قرأ فرويد لـداروين أنه في عالم البقر تتجه الثيران الفتية للحصول على البقرة الأم، فتجد أباها عائقاً في الطريق فتتجه كلها نحوه لتقتله فإذا فرغت من ذلك عادت فأصطرعت فيما بينها حتى يتغلب أحدها -وهو أقواها- فيفوز وحده بالأم، ويصبح هو السيد الجديد.
    ونقل فرويد بخياله الجانح هذه القصة من عالم الحيوان إلى عالم الإنسان ليبني عليها فرضه المزعوم، فهو يذكر في كتابه الطوطم والمحرم أن الأبناء في مطلع البشرية اتجهوا نحو أمهم بدافع الجنس، وإذ رأوا أباهم يحول دون ذلك قتلوه وبعدها أحسوا بالندم على قتله، وعمدوا إلى تقديس ذكراه فعبدوه، وبذلك نشأت العبادة البشرية الأولى عبادة الأب، ثم تحولت إلى عبادة الطوطم وهو الحيوان الذي اعتقد الأبناء أن له صلة بالأب، وكان تحريم أكل الطوطم أحد المحرمين الكبيرين لدى البدائيين، أما المحرم الثاني فهو الزواج من المحارم، وأصله أن هؤلاء الأبناء رأوا أنهم سيتقاتلون من أجل الحصول على الأم، فاتفقوا على تحريمها على الجميع، ومن ذلك نشأ أول تحريم جنسي وظلت البشرية تحرم الزواج منها، ثم انتقل إلى سائر المحارم.
    يقول فلوجيل: كان أكثر تطبيقات علم النفس على الأنثربولوجيا إثارة هو بلا شك موقف فرويد الطوطم والمحرم... وقد حاول فرويد في تطبيقه لتلك الأفكار على الطوطمية أن يشرح أحد المحرمين الكبيرين للمجتمع الطوطمي وهما تحريم أكل الحيوان الطوطم وتحريم الزواج الداخلي، فأرجعهما إلى جانبي مركب أوديب : الرغبة في قتل الأب والزواج من الأم، وبهذا الشكل يبدو عيد الطوطم ومشتقاته...، بما في ذلك تناول الخبز المقدس في الكنيسة المسيحية ضاربة الجذور في اتجاه الرجل البدائي المتناقض وجدانياً أي: بين محبة الأب من ناحية والرغبة في قتله للحصول على الأم من ناحية.
    وبهذا يتضح تهافت الأسس التي قامت عليها الفرويدية، أما أثرها الهدام فسيأتي بيانه قريباً.
  3. واقع المجتمع اللاديني المعاصر

    بمجموع الاتجاهات والمدارس الفكرية، وبتضافر عوامل أخرى مساندة كفرت أوروبا بالدين والأخلاق، ونبذ المجتمع كل مقوماته المستمدة من هذين الاتجاهين، وأصبحت القيم العليا فيه هي القيم المادية النفعية تحدوها مكيافيللية صريحة، وأضحى التعامل الاجتماعي قائماً على الرابطة المصلحية وحدها ممثلة في عقد اجتماعي أو أخلاق تجارية وكما ترى فلسفة الذرائع البراجماتيزم لم يعد للأخلاق قيمة ذاتية، وإنما يحكم على أي: تصرف وتعامل من خلال ما ينجم عنه عملياً من المصلحة النفعية..
    فماذا جنت المجتمعات الغربية من ذلك كله؟...
    يقول مؤلفو تاريخ البشرية:
    "كانت فكرة الإنسان عن نفسه كما ظهرت في منتصف القرن العشرين تعكس فهمه المتغير لعلاقته بالمجتمع وبالطبقة وبالله؛ ففي معظم أنحاء العالم، وخلال طبقات اجتماعية كثيرة وعلى نطاق واسع، رأى الناس أنهم قد سيطروا على قوى جديدة وفرص جديدة، وأنـهم بسبيل هذه السيطرة فاعتقدوا أنهم بصدد فجر جديد لا يمكنهم إلا اجتلاء ملامحه بسرعة، أما مستقبله واحتمالاته فتدعو إلى الابتهاج وإلى الذعر في وقت واحد.
    فقد أحس الناس في طول العالم وعرضه أنهم في سفينة قد انقطعت أسبابها بالبر، وعليهم أن يقودوها بغير خريطة عبر بحار مجهولة. كان هذا عند البعض بمثابة مغامرة كبرى لا تخلو من نشوة، وكان عند البعض الآخر خطراً يهدد بالويل الكبير، لقد وجد الإنسان الحديث نفسه في موقف مليء بالمتناقضات، وكلما ازداد سيطرة على بيئته زاد شعوراً بعجزه أمام القوى التي كان إطلاق بعضها من صنعه.
    وكلما زادت درايته بالعالم خارج نطاق بيئته المباشرة، قلت قدرته على التصرف المباشر إزاء كثير مما يبدو أنه يؤثر على حياته اليومية، وكلما زادت المعرفة الجديدة من تقويضها لليقينيات السابقة، وكلما غيرت القوى الاجتماعية في النظم القديمة تزايد شعور الإنسان بالحاجة إلى مصدر من مصادر الأمن والطمأنينة يقوم عنده مقام المصادر التي فقدها".
    إنه الإفلاس وإنها الحيرة والضياع...!!
    يقول بوسكيه وزميله عن مشكلة الإنسان المعاصر: ''أين أنا؟ في أي عصر؟ وفي أي وضع ما زلت مشتبكاً؟ أهناك ما يربطنى بالماضى والمستقبل وبالآخرين من أهل عصري؟ هل يمكن أن يجلب لي ذلك شيئاً ما؟ وبكلمة واحدة: أين مكاني؟''.
    هكذا يبدو الإنسان في المجتمع المعاصر مسيراً بالبيئة التي يعيش فيها، لقد فقد أعظم نصيب من حريته الداخلية ومن إحساسه بمسئولياته، ولن تكون الإنسانية سيدة مصيرها قبل أن يظفر الإنسان بحريته الباطنة وإحساسه بمسئولياته، ولكن أهو مستطيع هذا؟ ذلك هو السؤال الذي يجب أن نضعه لأنفسنا.
    إن مجتمعنا منظم في مجال التقنية والاقتصاد تنظيماً عظيماً، ولكنه ليس كذلك في المجال البشري، فنحن نعيش على آراء وأخلاقيات واجتماعيات وفلسفات وسيكولوجية القرن التاسع عشر، وما زلنا كأجداد أجدادنا...، ومن المحتمل أننا ما زلنا نعيش على تنظيم ينتمى إلى القرن التاسع عشر...، لم يعد من الممكن أن نحيا في عصر الصواريخ وفق قواعد عصر الحصان...، ويمكن تفسير التفاوت بين التقدم الاقتصادي والتقدم الاجتماعي بسوء التكيف وسوء نظام مجتمعنا.
    إن التطور الاقتصادي ليترجم الاختراعات العلمية التقنية إلى ثروات جديدة، ويبدو الإنسان وكأنه يغزو شيئاً فشيئاً الكوكب الذي يعيش فوقه، عرف الطبيعة، سيطر على الطاقة؛ استغل موارد المجتمع ظاهرها وباطنها، ومع هذا لا ينتفع المجتمع كله من هذه الحركة...، حتى داخل البلاد الصناعية نجد غالباً نفس الفوارق حسب الأقاليم والفئات الاجتماعية، ويزيد من خطورة هذه الفوارق ازدياد الحاجات التي تثيرها أغنى الجماعات، وكذلك التقدم الفني والتنظيم التجاري، وتلك دائرة جهنمية تدل على نقص في التنظيم الاجتماعي وكفاح مرير تحاول فيه كل مجموعة وكل فرد الدفاع عن مصالحه الخاصة قبل كل شيء.
    ولنستمع إلى تجربة شاب أوروبي معاصر وهو يروي معاناته ومعاناة جيله كله: ''لقد تميزت العقود الأولى من القرن العشرين بالفراغ الروحي، لقد أصبحت جميع القيم الأخلاقية التي ألفتها أوروبا عدة قرون غير ذات شكل مقرر محدود، وذلك بفعل الفظائع التي كانت قد حدثت ما بين 1914-1918، ولم يكن يبدو أن مجموعة جديدة من القيم ستفرض نفسها، لقد كان في الجو شعور من الهشاشة والخطر وإحساس مسبق بالجيشان الاجتماعي والعقلي جعل المرء يشك فيما إذا كان من الممكن أن يكون هناك مرة أخرى استقرار في أفكار الإنسان ومساعيه، كان كل شيء يبدو كأنه يسيل في فيضان غير منتظم ولم تستطع الحيرة الروحية لدى الشباب أن تجد لنفسها موطئ قدم، وبسبب فقدان المقاييس الأخلاقية الموثوق بها لم يستطع أحد أن يقدم إلينا -نحن الشباب- أجوبة مرضية عن كثير من الأسئلة التي كانت تحيرنا، كان العلم يقول: المعرفة هي كل شيء ونسي أن المعرفة دونما هدف أخلاقي لا يمكن أن تؤدى إلا إلى الفوضى والغموض'' .
    إن المصلحين المجتمعين والثوريين والشيوعيين لم يكونوا يفكرون إلا بمقتضى ظروف خارجية اجتماعية أو اقتصادية، ومن ناحية أخرى فإن رجال الدين التقليدين لم يعرفوا شيئاً أفضل من أن يعزوا إلى إلههم صفات مقتبسة من عاداتهم الخاصة في التفكير، تلك العادات التي كانت قد أصبحت باردة لا معنى لها منذ زمن طويل.
    وعندما رأينا نحن الشباب أن هذه الصفات الإلهية المزعومة كثيراً ما كانت تتناقض إلى أبعد الحدود، مع ما كان يجرى في العالم من حولنا، كنا نقول لأنفسنا: إن القوة الدافعة للقضاء والقدر تختلف بصورة جلية واضحة عن الصفات المعزوة إلى الله، وإذن فإن الله موجود.
    ولم يخطر إلا لعدد قليل جداً منا أن السبب في كل هذه الفوضى والاختلاط قد يكون مرده إلى استبداد حماة الدين الذين يزعمون أنهم هم الصالحون، والذين كانوا يزعمون أن من حقهم أن يصفوا الله، والذين بإلباسهم إياه ثيابهم الخاصة قد فصلوه عن الإنسان ومصيره.
    هذا التحول الأخلاقي في الفرد كان يمكن أن يؤدي إلى الفوضى الأخلاقية والشك أو إلى إيجاد ملتمس شخصي خلاق لما يمكن أن يشكل الحياة الطيبة.
    وفي إبان العملية العامة لانحلال المقاييس الأخلاقية الثابتة بعد الحرب العظمى زال كثير من الحواجز بين الجنسين، إن ما حدث لم يكن في اعتقادي ثورة على المحافظة التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر، بقدر ما كان ارتداداً سلبياً من واقع كانت بعض المقاييس الأخلاقية المعينة فيه أبدية غير قابلة للشك إلى حالة اجتماعية، كان كل شيء فيها مدعاة للشك، انتقال رقاص الساعة من اعتقاد الأمس المريح باستمرار تقدم الإنسان ورقيه إلى الصحو المرير، الذي دعا إليه شبنجلر إلى النسبية الأخلاقية لـنيتشه، فإلى العدمية الروحية التي غذاها واحتضنها التحليليون النفسيون.
    والحق أن واقع المجتمعات اللادينية في الأرض ما يكاد يعجز الإدراك عن تصور فظائعه وأهواله، وأن ما تعانيه من أزمات وتتلوى فيه من جحيم قد أعيا الفلاسفة، وأقلق بال المصلحين وروّع قلوب المشفقين، وأثار تشاؤمية الشعراء والروائيين حتى أن كثير من الناس هناك نفض يده من كل أمل في الخلاص من دائرة مستحكمة الحلقات، واستسلم إلى حلم الموت اللذيذ يتعجله بيده أو يترقبه بفارغ الصبر!
    وليس في استطاعتنا أن نلم أطراف الحديث عن هذا المجتمع الساقط الهابط من كل زواياه، ولكننا سنكتفي بعرض صور من مأساته من خلال مناقشة قضية واحدة من قضايا الدين والخلق، وهى في الواقع القضية الخلقية الكبرى في التاريخ.
    نموذج واحد للمأساة!
    إن خير مثال يمكن أن يتخذه المرء مقياساً للمستوى الأخلاقى في أوروبا لهو قضية العرض، ومكانة المرأة في المجتمع، فقد تفاوتت هذه القضية بين تزمت الرهبانية الكنسية وانحلال الإباحية الفرويدية، واتخذت مساراً تاريخياً جديراً بالملاحظة والتتبع.
    كانت الكنيسة تردد ما قالته الـأساطير الإغريقية من أن المرأة هي سبب الشر في الأرض، وهو ما عمقته التوراة المحرفة بجعلها المرأة سبباً في إغواء الرجل والوقوع في الخطيئة، جرياً على ذلك قال أحد رجال الكنيسة لتلاميذه مرة: ''إذا رأيتم امرأة فلا تحسبوا أنكم ترون كائناً بشرياً، بل ولا كائناً وحشياً، وإنما الذي ترون هو الشيطان بذاته والذي تسمعون هو صفير الثعبان'' .
    وقد تكون راي ستراتشي إحدى المطالبات بحقوق المرأة فيما بين الحربين، صادقة حينما قالت عن الرهبانية: ''يستفاد من النظرية التي أوصت بهذا التطاول على المرأة أن الشهوة الجنسية هي أشنع الخطايا جميعاً، وأنها كانت في الحقيقة الخطيئة التي سببت سقوط الإنسان، وأن العفة الكاملة هي أعلى مثل في الحياة وأنه يجب أن يلعن النساء لأنهن سبب الغواية، وكان يقال إن الشيطان مولع بالظهور في شكل أنثى، وأنه طالما زار النساك بهذه الصورة في كهوفهم الجبلية، وصفوة القول أن مجرد التفكير في النساء كان خطراً، وأن المرأة نفسها كان نحساً من النحوس'' .
    وقد انعكس هذا المفهوم على وضع المرأة في عصر الإقطاع عامة، إذ كانت كما نقل راندال: ''تربى المرأة الخادمة لتتعلم أصول حياة الزوجية فتعمل بشروط منهكة قاسية وتتغذى بلحم فج بسيط، وترتدي ثياباً رثة، وتظل تحت العبودية والرق، وإذا حملت يؤخذ الطفل من رحمها للعبودية...، تباع المرأة الخادمة المستعبدة وتشرى كالحيوان'' .
    لكن على الرغم من هذا، فقد كان العرض له قيمته العظمى، وكانت المحافظة عليه معيار الشرف والرجولة، أي: أنه كان هناك ارتباط تاريخي بين إهدار قيمة المرأة معنوياً واقتصادياً، وبين المحافظة الشديدة على العرض، وهي ثغرة لم تعدم من ينفذ منها فيما بعد.
    وبقيام الثورة الفرنسية بدأت الشرارة الأولى في القضية التي أسميت: قضية المرأة، وتعتقد راي ستراتشي أن الثورة في ظاهرها لم تفد النساء فائدة مباشرة، وترى أن فائدتها تعود إلى أن النظرية المعنوية للحرية البشرية كانت قد سادت، وكان لا بد من أن تظهر دلائلها، إن عاجلاً وإن آجلاً) .
    عندئذ ظفر الهدامون ببغيتهم المنشودة، وسنحت لهم الفرصة التي طال ارتقابها، إلا أن الموضوع لم يبرز إلى حيز الواقع الملموس إلا بعد الانقلاب الصناعي الذي جر الويلات والمصائب على المجتمعات الغربية عموماً، والطبقة الدنيا خاصة، فقد استغل الرأسماليون الربويون عوز الناس والمجاعة التي اجتاحت الأسر الكادحة لتشغيل النساء في مصانعهم بأجور زهيدة، وكان النساء في مناجم الفحم يجررن العربات المحملة في دهاليز واطئة، ويحملن أثقالاً عظيمة من الفحم إلى السطح، ويرقين سلالم شديدة الانحدار أو درجاً حلزونية).
    وعلى الرغم من ذلك فلم يخل الأمر من فائدة نسبية للنساء الفقيرات، إذ أدى ذلك إلى تحسين نسبي في معيشتهن وإلى شيء من التعديل في القيمة المجتمعة للمرأة، وقد ركز الهدامون وأبواقهم على هذه الفائدة النسبية وأسموا هذا التحول المجتمع تحرير المرأة، وراج هذا الاصطلاح في الصحافة حتى أصبح رمزاً خداعاً للمخطط الذي كان الهدامون التلموديون يدبرونه في الخفاء، وأسهم الكتاب -على اختلاف مقاصدهم- في ترسيخ ذلك، حتى لقد قال هارولد لاسكي بعد الحرب الأولى: لم تتحرر النساء من أغلالهن إلا بعد أن جعل الانقلاب الصناعي جهودهن الاقتصادية مظهراً مألوفاً من مظاهر المجتمع، فلم يكن بد من الاعتراف بهذه الجهود، وعندئذ فتحت لهن أبواب الأعمال التي ظن الناس أن دخولهن فيها ضرب من المحال وزاد عدد المختزلات وعاملات المصانع والحوانيت فأصبحت هذه الزيادة وحدها تحتم تحريرهن من القيود السياسي ة، وكان حقهم في حماية مصالحهن الاقتصادية يتضمن أن القضاء والجمعية التشريعية، بل الشرطة لم يكن يستطاع إبقاؤها مغلقة دونهن، وتجادل الناس خمسين عاماً في هذا الأمر فلم ينتبهوا إلى شيء ذي عناء حتى جاءت الحرب بضراوتها فأوضحت ما للمرأة من شأن خطير في الحياة الاقتصادية، ولم يعد في وسع الرجل الذي أشاح عن كل نداء أن يعرض عما انطوى عليه هذا المشهد الذي زادته الحرب روعة وجلالاً).
    هكذا صور البعض ولكن الواقع كان شيئاً آخر يختلف تمام الاختلاف، مما حدا بالكثيرين إلى رفع صيحات الخطر والتحذير حتى من النساء أنفسهن:
    تقول الكاتبة الإنجليزية أني رود عن ذلك: ''إذا اشتغلت بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم خير وأخف بلاء من اشتغالهن في المعامل، حيث تصبح البنت ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد.
    أياليت بلادنا كبلاد المسلمين حيث فيها الحشمة والعفاف والطهارة رداء الخادمة والرقيق، اللذين يتنعمان بأرغد عيش ويعاملان معاملة أولاد رب البيت ولا يمس عرضهما بسوء، نعم إنه عار على بلاد الإنكليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل بكثرة مخالطتهن للرجال، فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل ما يوافق فطرتها الطبيعية كما قضت بذلك الديانة السماوية، وترك أعمال الرجال للرجال سلامة لشرفها'' .
    وتقول الكاتبة اللادي كوك أيضاً: ''إن الاختلاط يألفه الرجال، ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها، وعلى قدر الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا، ولا يخفى ما في هذا من البلاء العظيم على المرأة، فيا أيها الآباء لا يغرنكم بعض دريهمات تكسبها بناتكم باشتغالهن في المعامل ونحوها، ومصيرهن إلى ما ذكرنا فعلموهن الابتعاد عن الرجال، إذ دلنا الإحصاء على أن البلاء الناتج من الزنا يعظم ويتفاقم حيث يكثر الاختلاط بين الرجال والنساء، ألم تروا أن أكثر أولاد الزنا أمهاتهن من المشتغلات في المعامل ومن الخادمات في البيوت ومن أكثر السيدات المعرضات للأنظار.
    ولولا الأطباء الذين يعطون الأدوية للإسقاط لرأينا أضعاف ما نرى الآن، ولقد أدت بنا الحال إلى حد من الدناءة لم يكن تصوره في الإمكان حتى أصبح رجال مقاطعات من بلادنا لا يقبلون البنت ما لم تكن مجربة، أعني عندها أولاد من الزنا، فينتفع بشغلهم وهذا غاية الهبوط في المدنية، فكم قاست هذه المرأة من مرارة الحياة حتى قدرت على كفالتهم والذي اتخذته زوجاً لها لا ينظر لهؤلاء الأطفال ولا يتعهدهم بشيء يكون ويلاه من هذه الحالة التعيسة، ترى من كان معينا لهاً في الوحم ودواره والحمل وأثقاله والفصال ومرارته'' .
    وكتب أحد علماء الأخلاق قائلاً: ''إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل ودور الصناعات مهما نشأ عنه من الثروة فإن نتيجته كانت هادمة لبناء الحياة المنزلية، لأنه هاجم هيكل المنزل وقوض أركان العائلة وفرق الروابط الاجتماعية، فإنه بسلبه الزوجة من زوجها صار بنوع خاص لا نتيجة له إلا تسفيه أخلاق المرأة، لأن وظيفة المرأة الحقيقية هي القيام بالواجبات المنزلية كتربيتها أولادها وترتيبها مسكنها والاقتصاد في وسائل معيشتها، مع القيام بالاحتياجات العائلية، ولكن المعامل سلختها من كل هذه الواجبات، بحيث أصبحت المنازل غير منازل، وأضحت الأولاد تشب على غير التربية الحقيقية لكونها تلقى في زوايا الإهمال، وطفئت المحبة الزوجية، وخرجت المرأة عن كونها الزوجة الظريفة والقرينة المحبة للرجل، وصارت زميلته في العمل والمشاق'' .
    لكن هذه التحذيرات البالغة لم تغير من الواقع شيئاً، وإنما نبهت القوى الشريرة إلى إسكات مثل تلك الاعتراضات بإيجاد البديل غير الطبيعي، فقد شيدت المحاضن ودور الرعاية لتربية أولاد الزنا، وتنوعت الأدوية المانعة من الحمل بدلاً من المسقطة للجنين، واستطاع الهدامون أن يجعلوا تعليم البنات حقيقة واقعة وهي خطوة من غير المستطاع الرجوع عنها، كما أن الأزمات الاقتصادية -التي كان لهم دور فيها- دفعت بالعجلة إلى الأمام، وأصبحت القضية الشاغلة للنساء وللكتاب النسائيين هي المطالبة بمساواة الرجل في الأجور ومناهج التعليم والمقاعد النيابية.. إلخ، وتنوسيت المشكلة الأساسية مشكلة خروجها من البيت، حتى لم تعد تجد من يتحدث عنها.
    وقام كتاب وصحفيون يفلسفون الواقع ويطالبون بالمزيد، فقال برتراند رسل: ''إني لا أميز فرقاً البتة بين ما يسمونه الذكر وما يسمونه الأنثى، نعم يستحسن في المرأة التي سيعهد إليها بالعناية بالأطفال الصغار أن تتلقى قدراً معيناً من الإعداد المهني، لكن هذا لا يستلزم من الفروق إلا شبه ما بين الزارع والطحان، وهذا ليس أساسياً بأية حال من الأحوال، ولا يتطلب منا اعتباراً ونحن في مستوانا الحاضر'' .
    وتطورت المطالب حتى أصبح الكتاب النسائيون يطالبون بالمساواة بين الرجل والمرأة في الفساد، ويصبون اللعنة على المجتمع الذي ينكر زنى الفتاة ويغض نظره عن الجريمة نفسها بالنسبة للفتى، يقول رسل أيضاً: ''يجب أن يعالج الجنس من البداية كشيء طبيعى مبهج ومحتشم، وإذا أردنا أن نفعل خلاف ذلك فإننا نكون سممنا العلاقات فيما بين الرجل والمرأة وبين الآباء والأولاد''.
    إن الفضيلة التي تستند إلى الجهل لا قيمة لها وإن الفتيات لهن نفس الحق في المعرف الجنسية كالفتيان .
    وهناك شيء أساسي في تعليم حب الجنس، فلا ينبغي اعتبار الغيرة إلحاحاً مبرراً على الحقوق، بل هي مأساة لمن يشعر بها، وهى خطأ بحق من تستهدفه .
    ويضرب أمثلة لذلك في كتاب آخر: في ولاية نيويورك، حيث يعتبر الزنا جريمة عقوبتها السجن لم تقم حركة ذات أثر لتغيير القانون في هذا الشأن، ويقول كثير من الناس: وماذا يهم القانون إذا كان لا يطبق وأنا أعتقد أن هذه الحجة وهمية إلى حد كبير.. على الرغم من أن هذا القانون لا يطبق عادة، فإنه يمكن أن يحركه زوج تحدوه روح انتقامية .
    ولكن الرجل الذي كان له أعظم الأثر في هدم الفضيلة، وفتح أعمق أزمة في تاريخ الأخلاق -على حد تعبير فوجيرولا- هو فرويد ونظريته في التحليل النفسي يقول فلوجيل: ''الحق أن بعض المحللين النفسيين كانوا يؤمنون بأن الموانع التقليدية التي تفرضها مستوياتنا الخلقية عبء تنوء به الطبيعة البشرية، وكان من أثر ذلك كله أن المتحمسين من غير المختصين كانوا يدعون إلى التخلي الكامل عن التحكم وفرض النظام، سواء في ميدان التعليم أو ميدان العلاقات الجنسية، أو غير ذلك من الميادين إلى درجة جعلت الآباء يخشون من ممارسة أبسط أنواع الرقابة على أبنائهم مخافة إصابتهم بالكبت أو الأمراض العصبية'' .
    ويقول: ''إن التحليل النفسي بصرف النظر عن الإفراط في الحماس وسوء الفهم وسوء الاستخدام، قد ساعد -فعلاً- على تقويض أركان الأخلاق التقليدية، فلقد كشف عن شيء من السذاجة والخرق في عمل سلطات الرقابة الخلقية في الإنسان'' .
    ويقول الفيلسوف جود : ''ولكن مذهب التحليل النفسي قد أثر في موقف الإنسان من الاستغراق في الحاضر والاستمتاع به، وحري أن يقال: إن هذا التأثير قد أتى بصورة مباشرة من أن يقال: إنه أتى عن طريق ما بعثه من الشك في الأخلاق التقليدية وما تنطوي عليه من القيود والمحرمات، فهو بالإضافة إلى نزعة الثقة من الاتجاهات القديمة التي تنحو إلى القصد والزهد في الحياة، قد أقام مذهباً إيجابياً يحمل الناس إلى ممارسة الحاضر والانغماس في تجاربه، فلم يقتصر على القول بأن من العبث أن نحرم أنفسنا طلباً للخلاص الموعود في الآخرة، بل جعل من واجبنا أن نتلمس اللذات، ونغفل عن شئون الروح؛ فالتحليل النفسي مسئول عن هذه العقيدة الإيجابية التي تتلخص في التعبير عن النفس، فكان من تعاليم فرويد أن كبح الدوافع الغريزية وكظم الرغبات الشعورية فيه إضرار بالشخصية يتناول أسسها العميقة.
    بل إن النزعات الطهرية التي تنحو إلى الزهد والتقشف، وترى في حرمان النفس وإنكارها أسمى الفضائل، وتلتزم بالقيود والمحظورات هي نفسها وليدة للدوافع اللاشعورية، فقد أظهر فرويد أنها نوع من التبرير يتمسك به أولئك المحرومون من لذائذ الحياة أو الذين لا يسعهم الاستمتاع بها'' .
    وأثر الفرويدية في انهيار الفضيلة والدعوة إلى الإباحية أوضح من أن يذكر، ولنكتف بمثال على ذلك، وهو ما قاله أحد المؤلفين في كتاب اسمه توجيه المراهق : ''ساعد التعليم المختلط بين البنين والبنات، ومعرفة الفتيات أن اشتراكهن في الألعاب الرياضية لا يعوق عملية الولادة فيما بعد، على انتشار العلاقات اليومية الطبيعية السوية بين الفتيان والفتيات، ذلك أنهم يشاهدون بعضهم بعضاً في حجر الدراسة، ويشتركون معاً في بعض الألعاب والتمثيليات، بل ويدرسون موضوعات واحدة، وهذا كله يتيح للفتيان والفتيات أن يفهم بعضهم بعضاً، وبدلاً من أن ينظر الفتيان إلى الفتيات نظرة سطحية تقوم على الإغراء الجسدي والتفاهة العقلية والجمود الروحي، فإنهم ينظرون إليهن على أنهن زميلات وصديقات، بينما تستجيب الفتيات اللاتي حسنت تربيتهن لهذا، ويستطعن أن يعرفن الفتيان معرفة تتسم بالأمانة'' .
    وتجد أن كل شيء يؤيد هذا التعارف الوثيق بين الفتيان والفتيات، فعالم اليوم يعمل فيه الرجال والنساء، ويلعبون جنباً إلى جنب، فكيف يتسنى لهم أن يفعلوا ذلك إذا قضى كل جنس زهرة شبابه في عزلة تامة عن الجنس الآخر يجتر خيالاته وأوهامه عن فروق بين الجنسين لا أساس لها من الصحة؟!
    ولن يضيع عنصر الخيال الذي يسعى إلى توفيره الفتيان والفتيات في علاقاتهم نتيجة ما بينهم من تعارف وثيق، بل على العكس فإنه يحصنهم من الفتنة بحيث يكونون أقدر على التمييز في اختيار الشريك الذي يبحث عنه كل منهم.
    وقد يكون هذا السلوك نوعاً من التكييف المنحط من وجهة النظر الأخلاقية الخالصة، ولكن الشباب يستطيعون بل ويفهمون هذا النوع من أنواع السلوك الذي لا يتفق حقيقة مع مصالحهم.
    وظل هذا السعار يزداد، وظلت تلك الدعوات المحمومة تطغى على كل وسائل الثقافة والإعلام، وتهيمن على أعراف وتقاليد المجتمع حتى وصل انهيار الأخلاق والاستهانة بالفضيلة إلى حد أن أصبح الأمريكيون يعتقدون أن بقاء البنت عذراء قد يسبب الإصابة بمرض السرطان، لذلك يتخلصون من العذرية بسرعة، وأصبحت آخر صرعات الشذوذ الجنسي ممارسة الجنس مع أطفال دون سن الثالثة يتم اختطافهم من المكسيك ويباعون في الأسواق كالرقيق أو الدجاج، وأصبح طلبة المدارس الابتدائية يشاهدون عروضاً سينمائية جنسية ضمن الأنشطة الدراسية اليومية، ويحملون المخدرات الشديدة التأثير في حقائبهم الدراسية، وأضحت الخيانة الزوجية الفاحشة تقليداً شائعاً لا يستطيع أحد إنكاره، بينما يمارس البنات البغاء والعلاقات المحرمة تحت سمع وبصر الوالدين والمجتمع كأي وسيلة ترفيهية.
    وهاهو الواقع المحسوس في الغرب يشهد أن التدني الأخلاقي، لاسيما ما يتصل بالعرض قد سفل إلى درجة من الدياثة والسخف لا نجد لها نظيراً حتى في عالم الحيوان.
    وقد يقول قائل: إن مسألة الأخلاق من أساسها غير معترف بها في الغرب، فلا معنى للقول: بأن المجتمع اللاديني يعيش بلا أخلاق، إذ لا ضير في نظر ذلك المجتمع، أن يقال: إنه لا أخلاق له مادام لا يرى في الأخلاق إلا القيود التي فرضتها الكنيسة أو التقاليد البالية الموروثة من العصر الزراعي.
    لكننا نقول: هل المسألة مسألة أخلاق تنتهك، وتقاليد تخالف فحسب؟
    إن الدكتور ألكسيس كاريل يرى أن من أسباب تدهور الحضارة المعاصرة أن الناس يصادمون ما أسماه: القوانين الطبيعية التي تعني في القاموس الإسلامي سنن الله في الكون، ويقول: إنهم لم يدركوا أنهم لا يستطيعون أن يعتدوا على هذه القوانين دون أن يلاقوا جزاءهم.
    فكل مخالفة لفطرة الله التي فطر الناس عليها لا بد أن تتقاضى جزاءها من سعادة المجتمع وطمأنينته. وذلك منطوق قوله تعالى: ((فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)) وليس في تاريخ البشرية أجمع نموذج للضلال والشقاء والمعيشة الضنك يوازي النموذج الذي تقدمه الحضارة الغربية المعاصرة.
    لقد ضج عقلاء الغرب وجأروا بالشكوى، وحق لهم ذلك وهم يرون انهيار حضارتهم، ويشهدون مأساة مجتمعهم بأعينهم، ولم يفت بعضهم أن يدرك أن مخالفة الفطرة وتعطيل وظيفة الأمومة وخروج المرأة تزاحم الرجل في معترك الحياة هي سبب فعال في هذا الانهيار السريع والشرور المجتمعة المدمرة.
    يقول شبنجلر في مؤلفه الشهير تدهور الحضارة الغربية : ''عندما يبدأ الفكر العادي لشعب رفيع الثقافة والعلم بأن يعتبر إنجاب الأطفال هو قضية لها وجوهها المؤيدة والمناهضة، فعندئذ تكون نقط الانعطاف العظمى قد جاءت وحان أوانها، وعندما يتوجب علينا أن نقدم إطلاقاً الأسباب لقضية من قضايا الحياة، عندئذ تصبح الحياة ذاتها مشكوكاً في أمرها ومدار تساؤل... وكما هي الحال في مدننا نحن معشر الغربيين أصبح اختيار الرجل للمرأة لا بوصفها أماً لأولاده كما هي الحال بين الفلاحين والبدائيين بل بوصفها رفيقة حياة معضلة للعقول ومشكلة، فالزواج عند إبسون يبدو على أنه الامتزاج الأرقى حيث يكون فيه كل من الفريقين حراً طليقاً.. وهكذا بمقدور شو أن يقول: إنه ما لم تفكر المرأة بأنوثتها وبواجبها إزاء زوجها وأطفالها والمجتمع والقانون وإزاء كل إنسان آخر ما عدا واجبها إزاء نفسها؛ فإنها لا تستطيع أن تحرر أنوثتها.
    إن المرأة الفلاحة هي أم، وإن كامل رسالتها - هذه الرسالة التي تحن إليها منذ طفولتها - إنما تحتويها تلك الكلمة أم، ولكننا نرى اليوم امرأة إبسون المرأة الرفيقة الزميلة الخدن تخرج إلينا، ونراها بطلة جميع آداب المدن العالية العظمى، ابتداء من الدراما الشمالية حتى الرواية الباريسية، فهي بدلاً من أن يكون لها أطفال لها تصادمات وتناقضات نفسية، وما الزواج غير فن من براعة هدفه تحقيق التفاهم المتبادل.
    وسيان أكانت القضية -قضية معارضة إنجاب الأطفال- هي قضية السيدة الأمريكية التي لن تقايض على حضور أي موسم حفلات بأي ثمن، أو قضية السيدة الباريسية التي تخشى أن يهجرها عشيقها، أو قضية بطلة إبسون التي لا تنتمي إلى أحد ما عدا نفسها، فالقضية واحدة، وجميعهن ملك ذواتهن فقط، وكل واحدة منهن عاقر عقيم، وعطفاً على ما أوردت نجد الواقعة ذاتها في الإسكندرية وفي المجتمع الروماني، وبداهة في كل مجتمع متمدن آخر...
    ... عند هذا المستوى تدخل المدنيات مرحلة من تدن وتناقض مرعبين في السكان، وتستمر هذه المرحلة قروناً من الزمن، وهنا يضمحل كامل هرم الإنسان الحضارى ويتلاشى ويزول'' .
    هذا التوقع من شبنجلر ليس متشائماً كما قد يظن، بل أصبح الواقع المعاصر يدعو إلى التصديق به إلى درجة اليقين، وتلك سنة الله في خلقه ولن تجد في سنة الله تبديلاً.
    ولنعد إلى الوراء قرابة خمسين عاماً حيث السعير لم يتضح أواره، والبلاء لم تكتمل أطواره، لنجد كاتباً أمريكياً متفلسفاً ينادى بالويل والثبور، ويرفع عقيرته أسى للمصير المرعب الذي ينتظر أمته، نجد ول ديورانت يقول سنة (1929م):
    وثقافتنا اليوم سطحية ومعرفتنا خطرة؛ لأننا أغبياء في الآلات فقراء في الأغراض، وقد ذهب اتزان العقل الذي نشأ ذات يوم من حرارة الإيمان الديني، وانتزع العلم منا الأسس المتعالية لأخلاقياتنا، ويبدو العالم كله مستغرقاً في فردية مضطربة تعكس تجزؤ خلقنا المضطرب، إننا نواجه مرة أخرى تلك المشكلة التي أقلقت بال سقراط نعني: كيف نهتدي إلى أخلاق طبيعية تحل محل الزواجر العلوية التي بطل أثرها في سلوك الناس، إننا نبدد تراثنا الاجتماعي بهذا الفساد الماجن من جهة، وبهذا الجنون الثوري من جهة أخرى، حيث نفقد الفلسفة، التي بدونها نفقد وهذه النظرة الكلية التي توحد الأغراض وترتب سلم الرغبات، إننا نهجر في لحظة مثاليتنا السلمية، ونلقى بأنفسنا في هذا الانتحار الجماعي للحرب، وعندنا مائة ألف سياسي، وليس عندنا رجل حكيم واحد، إننا نطوف حول الأرض بسرعة لم يسبق لها مثيل، ولكننا لا نعرف أين نذهب، ولم نفكر في ذلك، أو هل نجد هناك السعادة الشافية لأنفسنا المضطربة؟! أو أننا نهلك أنفسنا بمعرفتنا التي أسكرتنا بخمر القوة؟! ولن ننجو منها بغير الحكمة.
    واختراع موانع الحمل وذيوعها هو السبب المباشر في تغيير أخلاقنا، فقد كان القانون الأخلاقي قديماً يقيد الصلة الجنسية بالزواج، لأن النكاح كان يؤدي إلى الأبوة بحيث لا يمكن الفصل بينهما، ولم يكن الوالد مسئولاً عن ولده إلا بطريق الزواج، أما اليوم فقد انحلت الرابطة بين الصلة الجنسية وبين التناسل، وخلقت موقفاً لم يكن آباؤنا يتوقعونه، لأن جميع العلاقات بين الرجل والمرأة آخذة في التغيير نتيجة هذا العامل، ويجب على القانون الأخلاقي في المستقبل أن يدخل في حسابه هذه التسهيلات الجديدة التي جاءت بها الاختراعات لتحقيق الرغبات المتأصلة.
    فحياة المدينة تفضي إلى كل مثبط عن الزواج، في الوقت الذي تقدم فيه إلى الناس كل باعث على الصلة الجنسية وكل سبيل يسهل أداءها، ولكن النمو الجنسي يتم مبكراً عما كان من قبل، كما يتأخر النمو الاقتصادي، فإذا كان قمع الرغبة شيئاً عملياً ومعقولاً في ظل النظام الاقتصادي الزراعي، فإنه الآن يبدو أمراً عسيراً وغير طبيعي في حضارة صناعية أجلت الزواج حتى بالنسبة للرجل، حتى لقد يصل إلى سن الثلاثين، ولا مفر من أن يأخذ الجسم في الثورة وأن تضعف القوة على ضبط النفس عما كان في الزمن القديم، وتصبح العفة التي كانت فضيلة موضعاً للسخرية، ويختفي الحياء الذي كان يضفي على الجمال جمالاً، ويفاخر الرجال بتعدد خطاياهم، وتطالب النساء بحقها في مغامرات غير محدودة على قدم المساواة من الرجال، ويصبح الاتصال قبل الزواج أمراً مألوفاً، وتختفي البغايا من الشوارع بمنافسة الهاويات لا برقابة البوليس، لقد تمزقت أوصال القانون الأخلاقي الزراعي، ولم يعد العالم المدني يحكم به.
    ولسنا نرى مقدار الشر الاجتماعي الذي يمكن أن نجعل تأخير الزواج مسئولاً عنه، ولا في أن بعض هذا الشر يرجع إلى ما فينا من رغبة في التعدد لم تهذب، لأن الطبيعة لم تهيئنا للاقتصار على زوجة واحدة، ويرجع بعضها الآخر إلى ولاء المتزوجين الذين يؤثرون شراء متعة جنسية جديدة على الملال الذي يحسونه في حصار قلعة مستسلمة، ولكن معظم هذا الشر يرجع في أكبر الظنون في عصرنا الحاضر إلى التأجيل غير الطبيعي للحياة الزوجية، وما يحدث من إباحة بعد الزواج فهو في الغالب ثمرة التعدد قبله، وقد نحاول فهم العلل الحيوية والاجتماعية في هذه الصناعة المزدهرة، وقد نتجاوز عنها باعتبار أنها أمر لا مفر منه في عالمٍ خلقه الإنسان، وهذا هو الرأي الشائع لمعظم المفكرين في الوقت الحاضر، غير أنه من المخجل أن نرضى في سرور عن صورة نصف مليون فتاة أمريكية يقدمن أنفسهن ضحايا على مذبح الإباحية، وهي تعرض علينا في المسارح وكتب الأدب المكشوفة، تلك التي تحاول كسب المال واستثارة الرغبة الجنسية في الرجال والنساء المحرومين -وهم في حمَّى الفوضى الصناعية- من حمَّى الزواج ورعايته للصحة.
    ولا يقل الجانب الآخر من الصورة كآبة، لأن كل رجل يؤجل الزواج يصاحب فتيات الشوارع ممن يتسكعن في ابتذال ظاهر، ويجد الرجل بإرضاء غرائزه في هذه الفترة من التأجيل نظاماً دولياً مجهزاً بأحدث التحصينات، ومنظماً بأسمى دروب الإدارة العلمية، ويبدو أن العالم قد ابتدع كل طريقة يمكن تصورها لإثارة الرغبات وإشباعها.
    وأكبر الظن أن هذا التجدد في الإقبال على اللذة قد تعاون أكثر مما نظن مع هجوم داروين على المعتقدات الدينية، وحين اكتشف الشبان والفتيات -وقد أكسبهم المال جرأة- أن الدين يشهر بملاذهم، التمسوا في العلم ألف سبب وسبب للتشهير بالدين، وأدى التزمت في حجب الحياة الجنسية والزهد فيها إلى رد فعل في الأدب وعلم النفس صوَّر الجنس مرادفاً للحياة، وقد كان علماء اللاهوت قديما يتجادلون في مسألة لمس يد الفتاة أيكون ذنبا؟ أما الآن فلنا أن ندهش ونقول: أليس من الإجرام أن نرى تلك اليد ولا نقبلها؟! لقد فقد الناس الإيمان وأخذوا يتجهون نحو الفرار من الحذر القديم إلى التجربة الطائشة.
    وكانت الحرب العظمى الأولى آخر عامل في هذا التغيير؛ ذلك أن الحرب قوضت تقاليد التعاون والسلام المتكونين في ظل الصناعة والتجارة، وعودت الجنود الوحشية والإباحية، حتى إذا وضعت الحرب أوزارها عاد آلاف منهم إلى بلادهم، فكانوا بؤرة للفساد الخلقي، وأدت تلك الحرب إلى رخص قيمة الحياة بكثرة ما أطاحت من رءوس، ومهدت إلى ظهور العصابات والجرائم القائمة على الاضطرابات النفسية، وحطمت الإيمان بالعناية الإلهية، وانتزعت من الضمير سند العقيدة الدينية، وبعد انتهاء معركة الخير والشر بما فيها من مثالية ووحدة، ظهر جيل مخدوع وألقى بنفسه في أحضان الاستهتار والفردية والانحلال الخلقي، وأصبحت الحكومات في واد والشعب في واد آخر، واستأنفت الطبقات الصراع فيما بينها، واستهدفت الصناعات الربح بصرف النظر عن الصالح العام، وتجنب الرجال الزواج خشية المسئولية، وانتهى الأمر بالنساء إلى عبودية كاملة وإلى طفيليات فاسدة، ورأى الشباب نفسه قد منح حريات جديدة، تحميه الاختراعات من نتائج المغامرات النسائية في الماضي، وتحوطه من كل جانب ملايين المؤثرات الجنسية في الفن والحياة.
    حتى إذا سئمت فتاة المدينة الانتظار اندفعت إلى عالم لم يسبق له مثيل في تيار المغامرات الواهية، فهي واقعة تحت تأثير إغراء مخيف من الغزل والتسلية وهدايا من الجوارب وحفلات من الشمبانيا في نظير الاستمتاع بالمباهج الجنسية.
    وأخيراً تجد الرفيق الذي يطلب يدها للزواج، ويعقد عليها لا في الكنيسة، لأنهما من أحرار الفكر الذين ألحدوا عن الدين، ولم يعد للقانون الخلقي الذي ظل جاثماً على إيمانهما المهجور أثر في قلبهما، إنهما يتزوجان في قبو المكتب البلدي الذي يفوح منه عبير السياسة، ويستمعان إلى تعاويذ العمدة، إنهما لا يرتبطان بكلمة الشرف بل بعقد من المصلحة، لهما الحرية في أي وقت في التحلل منه، فلا مراسيم مهيبة ولا خطبة عظيمة ولا موسيقى رائعة ولا عمق نشوة في الانفعال، تحيل ألفاظ وعودهم إلى ذكريات لا تمحى من صفحة الذهن، ثم يقبل أحدهما صاحبه ضاحكاً، ويتوجهان إلى البيت في صخب.
    إنه ليس بيتاً! فليس ثمة كوخ ينتظر الترحيب بهما أنشئ وسط الحشائش النضرة والأشجار الظليلة، بل يجب أن يخفيا أنفسهما خجلاً في زنزانة سجن، ليس هذا المسكن شيئاً روحياً كالبيت الذي كان يتخذ مظهراً ويكسب روحاً قبل ذلك بعشرين عاماً، بل مجرد شيء مادي فيه من الجفاف والبرودة ما تجده في مارستان، فهو يقوم وسط الضوضاء والحجارة والحديد.
    وتصاب المرأة بخيبة أمل، فهي لا تجد في هذا البيت شيئاً يجعل جدرانه تحتمل في الليل والنهار، ولا تلبث إلا قليلاً حتى تهجره في كل مناسبة، ولا تعود إليه إلا قبل مطلع الفجر، ويخيب أمل الرجل.
    ويكتشف بعد قليل أن هذه الحجرات تشبه تمام الشبه تلك التي كان يعيش فيها وهو أعزب، وأن علاقاته مع زوجته تشبه شبهاً عادياً تلك العلاقات غير البريئة التي كان يعقدها مع المستهترات من النساء.
    ولما كان زواجهما ليس زواجاً بالمعنى الصحيح لأنه صلة جنسية -لا رباط أبوة- فإنه يفسد لفقدانه الأساس الذي يقوم عليه ومقومات الحياة، يموت هذا الزواج لانفصاله عن الحياة وعن النوع، وينكمش الزوجان في نفسيهما وحيدين كأنهما قطعتان منفصلتان، وتنتهى الغيرية الموجودة في الحب إلى فردية يبعثها ضغط حياة المساخر، وتعود إلى الرجل رغبته الطبيعية في التنويع، حين تؤدي الألفة إلى الاستخفاف، فليس عند المرأة جديد تبذله أكثر مما بذلته.
    ويتوقع ديورانت آنذاك هذه الكوارث : ''لا ريب أن زواج المتعة سيظفر بتأييد أكثر فأكثر، حيث لا يكون النسل مقصوداً، وسيزداد الزواج الحر مباحاً كان أم غير مباح، ومع أن حريتهما إلى جانب الرجل أميل، فسوف تعتبر المرأة هذا الزواج أقل شراً من عزلة عقيمة تقضيها في أيام لا يغازلها أحد، سينهار المستوى المزدوج، وستحث المرأة الرجل بعد تقليده في كل شيء على التجربة قبل الزواج، سينمو الطلاق وتزدحم المدن بضحايا الزيجات المحرمة،ثم يصاغ نظام الزواج بأسره في صور جديدة أكثر سماحة، وعندما يتم تصنيع المرأة ويصبح ضبط الحمل سراً شائعاً في كل طبقة يضحى الحمل أمراً عارضاً في حياة المرأة أو تحل نظم الدولة الخاصة بتربية الأطفال محل عناية البيت... وهذا كل شيء'' .
    ولقد تحقق كل ما توقع وأعظم منه، ونجم عنه الشقاء المستديم للمرأة وللمجتمع كله، وأما المرأة فقد دفع بها الوضع الاجتماعي الذي لا يرحم إلى أن أصبحت تطرد من المنزل بعد سن الثامنة عشرة، لكي تبدأ في الكدح لنيل لقمة العيش، وإذا ما رغبت - أو أجبرتها الظروف - في البقاء في المنزل مع أسرتها بعد هذه السن، فإنها تدفع لوالديها إيجار غرفتها وثمن طعامها وغسيل ملابسها، بل تدفع رسماً معيناً مقابل اتصالاتها الهاتفية.
    وإذا حظيت الطريدة بأي عمل فإنها تستشعر دوماً تهديد البطالة والأزمات الاقتصادية، وتظل خاضعة لاستغلال الرأسماليين أو عبودية الدولة -إن كانت شيوعية- ويؤدي إرهاقها المستمر وقلقها الدائم، إلى أن تفقد طبيعتها الأنثوية، وتضحى عرضة للأمراض العصبية، وفي بعض الأحيان لا تجد وسيلة للخلاص من هذا الكابوس الرهيب أفضل من الانتحار، وقد تضخمت المشكلة وتعقدت، وسرت آثارها في كيان المجتمع كله، حتى لم يعد من الممكن الرجوع إلى الحالة السوية إلا بتغيير جذري يقتضي بناء المجتمع من أساسه وهذا التغيير بعيد الاحتمال في المجتمع الغربي اللاهث نحو الهاوية، بل إن الصيحات التي يطلقها الكثيرون ممن ذاقوا مرارة التجربة من النساء والرجال لا تجد لها صدى يذكر.
    تقول أجاثا كريستى أشهر كاتبة إنجليزية للمؤلفات البوليسية: ''إن المرأة الحديثة مغفلة؛ لأن مركزها في المجتمع يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، فنحن النساء نتصرف تصرفاً أحمق، لأننا بذلنا الجهد الكبير في السنين الماضية لحصول على حق العمل والمساواة في العمل مع الرجال، والرجال ليسوا أغبياء، فقد شجعونا على ذلك معلنين أنه لا مانع مطلقاً من أن تعمل الزوجة، وتضاعف دخل الزوج، ومن المحزن أن نجد بعد أن أثبتنا نحن النساء أننا الجنس اللطيف أننا نعود اليوم لنتساوى في الجهد والعرق الذي كان من نصيب الرجل وحده'' .
    وفي استفتاء لمعهد غالوب في أمريكا:
    إن المرأة متعبة الآن، ويفضل (65%) من نساء أمريكا العودة إلى منازلهم، كانت المرأة تتوهم أنها بلغت أمنية العمل، أما اليوم وقد أدمت عثرات الطريق قدمها واستنزفت الجهود قواها، فإنها تود الرجوع إلى عشها لاحتضان فراخها.
    ولكن المرأة الغربية المنكوبة إذ تحاول الرجوع إلى البيت ووظيفة الأمومة لا تستطيع، لأن المشكلة اتسع نطاقها إلى درجة تتعذر معها العودة الحقيقية، ولو حصل شيء من ذلك فإن المجتمع الذي تعود الانحلال والاختلاط يستنكره ويأباه، بل أصبح الزواج رغم هشاشته مصدر إزعاج للقائمين على تلك المجتمعات فقد طلعت الصحافة الغربية يوماً بخبر يقول: ''انزعجت السلطات التعليمية في اسكتلندا بسبب موجة الزواج التي تعصف بالمدرسات، فقد تبين أنه من خلال عام (1960م) عينت (1563م) مدرسة في سكتلندا، وفي نهاية العام الدراسي تركت ألف منهن الوظيفة للزواج، وقالت السلطات إن الزواج يهدد النظام المدرسي'' .
    وحيال ذلك: ماذا في وسع المرأة أن تفعل؟ بأي شيء تواجه المجتمع النكد الذي يلهب ظهرها بالسياط، ويقطع عليها طريق العودة إلى فطرتها، ليس هناك إلا أحد سبيلين: إما الانتقام من هذا المجتمع الظالم بترويعه وتعكير صفوه، كما جاء في التقرير الذي نشرته الصحف من أنه بلغت عدد سرقات المتاجر الكبيرة في إنجلترا خلال عام (1960م) نحو (32194) سرقة، هذا عدا الحالات التي لم تبلغ لإدارة البوليس، والغريب أن (60%) من هذه السرقات ارتكبتها نساء جاوزن سن البلوغ، و(30%) ارتكبها ذكور أقل من السابعة عشرة، وتقول الإحصائيات: إن كل السارقات من النساء لم يكنَّ في حاجة للمال، نعم إنها ليست الحاجة للمال، ولكنها الرغبة في الانتقام وتفريغ السخط.
    وإما الانتقام من نفسها بالانتحار كما فعلت الممثلة الشهيرة مارلين مونرو، التي كتبت قبيل انتحارها نصيحة لبنات جنسها تقول فيها: ''احذري المجد...احذري من كل من يخدعك بالأضواء...إنى أتعس امرأة على هذه الأرض... لم أستطع أن أكون أماً... إني امرأة أفضل البيت... الحياة العائلية الشريفة على كل شيء... إن سعادة المرأة الحقيقية في الحياة العائلية الشريفة الطاهرة، بل إن هذه الحياة العائلية لهي رمز سعادة المرأة بل الإنسانية، وتقول في النهاية: لقد ظلمني كل الناس...، وأن العمل في السينما يجعل من المرأة سلعة رخيصة تافهة مهما نالت من المجد والشهرة الزائفة'' .
    وليس غريباً أن تؤكد الإحصائيات العالمية أن نسبة محاولات الانتحار عند النساء أكثر منها عند الرجال، يقول تقرير كتبه أحد الأطباء الاجتماعيين في فيينا: وقد لوحظ أن النساء أكثر محاولة من الرجال، ففي عام (1948م) كان عدد المحاولات في النساء (381) وهذا يوافق (58.61%) من المجموع، وفي عام (1956م) كان العدد (590) أي بنسبه (56.73%)، وفي عام (1959) كانت النسبة (55.92%)، كما لوحظ أن نسبة المحاولات في الفتيان والفتيات الذين تتراوح أعمارهم بين (14) عاماً و(20) عاما ترتفع باستمرار، فعند الفتيان كانت النسبة في عام (48م)- (6.5%)، وفي عام (1956م) (6.53%)، وفي عام (1959م) (6.81%)، وأما عند الفتيات فالتصاعد مخيف، ففي عام (1948م) حاولت (50) فتاة الانتحار، وهذا يشكل نسبة (7.69%) من مجموع محاولات الانتحار في ذلك العام، وفي عام (1956م) حاولت (89) فتاة الانتحار، وهذا يشكل نسبة (8.55%) وفي عام (1959م) حاولت (150م) فتاة الانتحار، وهذا يعني نسبة (14.20%) وهذا يعني أن كل تسعة أيام توجد ست محاولات انتحار، أربع منها من جانب الفتيات، واثنتان من جانب الفتيان .
    وهذا غير المصائب التي يوقعها المجتمع بالمرأة، والتي هي في الواقع معاول تهدم المجتمع بكامله؛ إذ لا انفصام بين مشكلة المرأة في ذاتها ومشكلة المجتمع الذي تعيش فيه، من ذلك ما نشرته الصحف الأمريكية في (1977م) من أن فتاة أمريكية في إحدى الولايات الوسطى بالقرب من مدينة غير مشهورة وجدت مقتولة، وقد طرحت جثتها في الغابة، وحمل البوليس الجثة إلى المستشفى، ونشر إعلانا يتضمن سن الفتاة وصفاتها الجسدية لكي يحضر قريبها لتسلم الجثة، فماذا كانت النتيجة؟... تقول الصحف: إن المستشفى تلقى (1200) مكالمة من أناس كل منهم يشك في أنها قريبتة، ويستوضح بعض صفات لفتاة أخرى، بينما حضر إلى المستشفى شخصياً قرابة (500) شخص لمعاينة الجثة.
    وهذا يعني أن هؤلاء فقدوا فتيات يحملن نفس تلك الصفات، وفي السن نفسه، فكيف بمن يحملن صفات أخرى وفي مراحل من العمر أخرى؟! وإذا كان هذا على مستوى المدينة أو الولاية فكيف بالولايات كلها؟! والأغرب من ذلك كيف يقع هذا كله في أمريكا بلد الإباحية المطلقة؟!
    ومن ذلك أيضاً نسب الطلاق المرتفعة باطراد، حيث كانت نسبة الطلاق في أمريكا سنة (1890م) (6%)، وأخذت تزداد حتى وصلت سنة (1948م) إلى (40%)، ولم تنخفض عن ذلك إذ أن تلك النسبة هي نسبة الطلاق لسنة 1978م.
    أما المفاسد والشرور الاجتماعية الناتجة عن خروج المرأة عن فطرتها فأكثر من أن تحصر، وسنحاول إيجازها فيما يـلي:
    1- فساد التربية: فبعد أن أصبحت عودة المرأة لوظيفتها الأساسية مستحيلة، ولم يعد عملها موضع نقاش، كان لابد من إيجاد محاضن ودور لتربية الأطفال، وعنها يقول ألكسيس كاريل: ''لقد ارتكب المجتمع العصري غلطة جسيمة باستبداله تدريب الأسرة بالمدرسة (كذا) استبدالاً تاماً، ولهذا تترك الأمهات أطفالهن لدور الحضانة حتى يستطعن الانصراف إلى أعمالهن أو مطامعهن المجتمعة أو مباذلهن أو هوايتهن الأدبية أو الفنية أو اللعب بالبريدج أو ارتياد السينما، وهكذا يضيعن أوقاتهن في الكسل، إنهن مسئولات عن اختفاء وحدة الأسرة واجتماعياتها، التي يتصل فيها الطفل بالكبار، فيتعلم منهم أموراً كثيرة.
    إن الكلاب الصغيرة التي تنشأ مع جراء من نفس عمرها في حظيرة واحدة لا تنمو نمواً مكتملاً كالكلاب الحرة التي تستطيع أن تمضي في أثر والديها، والحال كذلك بالنسبة للأطفال الذين يعيشون وسط جمهور من الأطفال الآخرين، وأولئك الذين يعيشون بصحبة راشدين أو أذكياء. لأن الطفل يشكل نشاطه الفسيولوجي والعقلي والعاطفي طبقا للقوالب الموجودة في محيطه، إذ أنه لا يتعلم إلا قليلاً من الأطفال الذين هم في مثل سنه، وحينما يكون وحده فقط في المدرسة فإنه يظل غير مكتمل، ولكي يبلغ الفرد قوته الكامنة، فإنه يحتاج إلى عزلة نفسية واهتمام جماعة اجتماعية محددة تتكون من الأسرة'' .
    2- جنوح الأحداث: وهو نتيجة طبيعية لفساد التربية وفقدان الأسرة، ولنأخذ مثلاً لذلك الإحصائيات التي أوردها رئيس شرف الرابطة الدولية لقضاة الأحداث: بلغ عدد الأحداث المحكومين في فرنسا سنة (1939م): (12165) وبلغ سنة (1968م): (44016) حسب جدول إحصائي... وقد صار هذا التزايد في عدد الأحداث المنحرفين منذراً بأوخم العواقب، إذ بلغت أرقامه ضعفيها تقريباً في مدى ثماني سنوات. سنة (1960-26894).
    ونسجل للمناسبة أن الارتفاع التي كانت سنة (1959=15.2) بالألف لفئة الصبيان المنحرفين (16-17) سنة بلغت (25.78) بالألف سنة (1965م) وفي الولايات المتحدة نجد أن نسبة ازدياد حالات الانحراف بين الأحداث الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة قد بلغت (17%)، بينما لم يزد عدد السكان في الأحداث الذين تقل أعمارهم عن (18) سنة إلا (3%).
    وبلغت نسبة ارتفاع عدد الفتيات المنحرفات سنة 1961م (18.6%) عن سنة 1960م، بينما لم يبلغ هذا الارتفاع أكثر من (14.2%) عند الفتيان للسنة نفسها.
    ولابد لمن يريد أن يكون فكرة دقيقة عن مشكلة الانحراف في واقعها الراهن أن يضيف إلى المنحرفين المعروفين رسمياً عدداً آخر من المنحرفين لم تكتشفه السلطات بعد، ولا بد كذلك أن نضيف عدداً آخر، لم يتخذ بحقهم أكثر من إجراء إخضاعهم لدورات تثقيفية وإصلاحية... وعلينا أن نضيف عدداً آخر من الأحداث المشردين باعتبار أن القانون الفرنسي لا يعتبر تشرد الأحداث جرماً يعاقب عليه القانون.
    وليس الجديد هو هذه الإحصائيات فما أكثرها، ولكن الجديد هو أن جان شازال حاول تعليل أسباب الانحراف، فذكر من جملتها أن الأطفال الذين يحرمون من عناية الأم وعطفها، والذين لا يمكنهم أن يشعروا بحرارة المشاركة العميقة مع الأم، يعبرون عن اختباراتهم العاطفية على شكل ردات فعل من النوع العدائي والمعارض، وتعطش مفرط إلى المتعة، وحاجة طاغية إلى التسلط، وهكذا تكون على طريق الجنوح، أي: أن رئيس شرف الرابطة الدولية لقضاة الأحداث أدرك الحقيقة، ولكن بعد فوات الأوان.
    والحق أن المجتمع الذي تقوم قيمه وأسسه الأخلاقية على اللادينية أياً كانت الفلسفة التي يؤمن بها هو بيئة مناسبة للإجرام والجنوح؛ إذ ليس لديه ما يعوض التربية الأسرية المفقودة، ولذلك وصلت الحال في بعض الدول إلى درجة لا تكاد تصدق، ولنكتف بالتقرير الذي أصدره النائب الاتحادي العام في الولايات المتحدة عن الجرائم الأمريكية المسجلة رسمياً.
    وتقع جريمة قتل كل 43 دقيقة، وتقع جريمة اغتصاب امرأة كل (19) دقيقة، وجريمة سطو على السيارات كل (48) ثانية، وجريمة اختطاف كل (20) ثانية، وجاء في مجلة الجيش الأمريكي عدد فبراير (1976م) أنه وقعت ضمن نطاق الجيش الأمريكي (55210) جريمة اغتصاب في عام (1974م) أي بزيادة قدرها (9%) عن عام (1973م) .
    هذا مع العلم أن النسب آخذة في الارتفاع باطراد.
    3- فساد الفطرة: يقول مؤلف كتاب الثورة الفرويدية : ''إن مثل الولايات المتحدة أو ما نعرفه على الأقل من الحياة الجنسية في هذه البلاد يوضح لنا أن تحرر المرأة المتزايد من خلال التطرف في المعاصرة يمكن أن يعطل المحتوى الجنسي للعلاقة ما بين الرجل والمرأة تعطيلاً خطراً، ففي المرحلة الأولى فإن العراقيل التي تحول دون طغيان الشهوانية تزول، وفي المرحلة الثانية فإن ما يصيب المرأة من ذكورة جزئية يؤدي إلى بعض فقدان الرجولة في الرجل'' .
    أي: أننا بغض النظر عن الإباحية الحيوانية في ميدان العلاقة الجنسية الطبيعية بين الرجال والنساء نجد إحصاءات محيرة عن الشذوذ الجنسي لدى الجنسين تبلغ نسبها حسب تقرير كنزي (20%) فإذا فرضنا أن تلك النسبة لم تزدد خلال العشرين سنة الأخيرة - وهو افتراض خاطئ، وعلمنا أن سكان أمريكا (240) مليوناً، فمعنى ذلك أن (48) مليوناً من الأميركيين شاذون جنسياً!!
    وأغرب من ذلك أن (20) مليوناً منهم يمارسون الشذوذ بصفة تنظيمية علنية، فقد نشرت الصحف أن وفداً يبلغ تعداده عشرين شخصاً يمثلون منظمات اللواطة والسحاق في الولايات المتحدة الأمريكية قاموا بمقابلة السيدة مارغريت مساعدة الرئيس كارتر للعلاقات العامة للمطالبة بحق حرية العمل في المؤسسات العسكرية، وللسماح بمزيد من اللواطة في مكتب التحقيقات الفدرالي ووكالة الاستخبارات ووزارة الخارجية، ومنح صفة معفى من الضرائب لمنظماتهم، وقال رئيس الوفد: ''إن هذه هي المرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة التي رأينا فيها أن الرئيس كارتر مناسب للاعتراف بحقوق ومتطلبات عشرين مليون أمريكي من الجنسين يمارسون عملية اللواط والسحاق والشذوذ الجنسي بأنواعه''.
    وأسوأ من هذا أن تطالب البرلمانات في دول الشمال (اسكندنافية) باعتبار عقد الرجل على الرجل عقداً قانونياً مشروعاً يقام في الكنيسة، بل لقد تم عقد فعلي في إحدى الكنائس بولاية كاليفورنيا.
    أما صلة ذلك بخروج المرأة من البيت وتفكك الأسرة، فقد اعترف بها أيضاً جان شازال، وإن كان جرى في تعبيره عنها على المصطلحات الفرويدية، يقول في كتابه المشار إليه: ''إذا تعقد الطفل بمشاعر أوديبية من تأثير التفكك العائلي أو الأخطاء السيكولوجية العميقة، فقادته هذه المشاعر إلى التعلق بأمه والإحساس تجاه والده بالعدائية تختلط بها الحاجة إلى التمثل به، فإنه يستطيع أن يعبر عن طريق الجنوح عن اضطراب واقعه الانفعالي العاطفي، وحين يتعلق بأمه يصير خجولاً وسلبياً، وقد يتطور بسرعة خلال مراهقته نحو الاستمناء والصداقات الخاصة واللواط، يخشى المرأة حين لا تمثل بالنسبة إليه صورة الأمومة، ويكون ذوقه أنثوياً ومشبعاً بالتصنع أحياناً، وقد تلاحقه صورة الأب، وقد يرغب عندئذ في مرافقة رجال ناضجين، وقد يجذبه لسوء الحظ بعض المصابين بالشذوذ الجنسي،والولد الذي يتعلق بأمه يشمل بعدوانية كل الذين يظهر له أن وجودهم يسلبه عطف الأمومة''.
    4- الأمراض العقلية والعصبية: جاء في تقرير لـمنظمة الصحة العالمية أعدته لاجتماعها السنوي في جنيف لسنة (1978م):
    يعاني حوالي (40) مليون شخص من أمراض عقلية أكيدة في العالم، وهناك أكثر من (80) مليوناً ممن يعانون تخلفاً خطيراً من جراء الإفراط في تعاطي الأدوية والمخدرات والمشروبات، بالإضافة إلى مائتي مليون شخص يعانون من اضطرابات عقلية أقل خطراً، ولكنها تعرضهم للتخلف العقلي أيضاً.
    أما الولايات المتحدة بصفة خاصة فتقول الإحصائيات:
    إن المرض العقلي يشكل أخطر تهديد لصحة أبناء شعبها إذ يشير تقرير المعهد القومي للصحة العقلية الصادر في يوليو (1954م): أن عدد المرضي الذين ترعاهم مستشفيات الأمراض العقلية يناظر مرضى المستشفيات الأخرى مجتمعة على اختلاف أنواعها، ولا يندرج بطبيعة الحال في هذا الإحصاء عشرات الآلاف من الحالات المرضية التي لم تقصد المستشفيات، وإنما تولى علاجها -إذا قدر لها أن تحظى بالعلاج- أطباء الأمراض العقلية.
    وقد فطن بعض الباحثين إلى أن السبب في تدهور أخلاق وصحة الجيل الحاضر لا سيما الصحة العقلية ليس هو تعاطي المخدرات والمسكرات، فهذه أعراض للمشكلة الحقيقية، وهي فقدان رعاية الأم وما تمنحه من التوازن النفسي، فقد نشرت الدكتورة: ايدا إيلين بحثاً بينت فيه أن سبب الأزمات العائلية وسر كثرة الجرائم في المجتمع هو أن الزوجة تركت بيتها لتضاعف دخل الأسرة، فزاد الدخل وانخفض مستوى الأخلاق، وتنادي الخبيرة الأمريكية بضرورة عودة الأمهات فوراً إلى البيت، حتى تعود للأخلاق حرمتها، وللأبناء والأولاد الرعاية التي حرمتهم منها رغبة الأم في أن ترفع مستواهم الاقتصادي، وقالت الدكتورة إيلين: إن التجارب أثبتت أن عودة المرأة إلى الحريم هو الطريق الوحيد لإنقاذ الجيل من التدهور الذي يسير فيه.
    نبذة عن المجتمع الشيوعي:
    كان ما سبق لمحة عن البهيمية الهابطة والمعيشة الضنك والحياة النكدة التي يصلى سعيرها المجتمع الغربي المعاصر، وهي سحابة مظلمة تغطي سماء أوروبا كلها، وترسل صواعقها وشواظها على كل ركن من أركانها، ولكن الرفاق في موسكو يزعمون أن ذلك الوجه الكالح خاص بالمجتمعات البورجوازية، وأن شرور الغرب الاجتماعية مردها إلى طبعتة الطبقية ونظامه الرأسمالي، لذلك فهم يزعمون أن المجتمع العمالي البروليتاري مجتمع سليم متكافئ ذو أخلاق من النوع الذي تحدث عنه إنجلز سلفاً.
    ولعل فيما أوردنا سابقاً عن الوضع السياسي والاقتصادي داخل الستار الحديدي غني في الرد على هذه المزاعم، فمجتمع ركيزته الحقد وقوامه التجسس وطابعه الذعر والإرهاب لا يمكن بحال أن يكون مجتمعاً إنسانياً سليماً، وأنى يكون كذلك وهو يهدر قيمة الإنسان وكرامته في مقابل زيادة الإنتاج؟! ويجعل الغرض الأساسي لوجوده هو الكدح في معسكرات العمل أو المزارع الجماعية؟!
    إن الحزب الشيوعي الذي يتحكم في أقوات الناس ويعلق سيفه الرهيب فوق رءوسهم، يملك فرصة أكبر للتحكم في أخلاقهم وعاداتهم ويعتمد أن يصوغ البشر في قوالب معينة حصيلتها النهاية إفساد الإنسانية وتحطيمها، فالفرد في ظل الأنظمة الحمراء مجبر على أن يحشر هو وكامل أفراد أسرته في غرفة واحدة هي غرفة جلوسهم ونومهم ومطبخهم، ثم هي غرفة في مجتمع إسكاني ضخم غير متجانس، فالشقة التي تتكون من ست غرف يكون معدل سكانها ثلاثين نسمة ينتمون لست أسر، منها أسرة من البلد نفسه، ومنها أسرة تعرض ربها للنقل التأديبي من إحدى الجمهوريات النائية، وثالثة تسكنها -مثلاً- أسرة قادمة من إحدى الدول الديمقراطية الشعبية التابعة لـموسكو... وهكذا، ويشترك سكان الشقة في دورة مياه واحدة، بالإضافة إلى أن دورات المياه العامة قد تكون بنيت بلا أبواب منذ إنشائها، وإذا كانت الغرفة لاتحتوي إلا على سرير واحد فردي، فإن الأبوين ينامان عليه حين ينام الأبناء ذكوراً وإناثاً حتى من البالغين على المنضدة متلاصقين، وهي المنضدة التي يستعملونها للمطبخ بالنهار، وهذا بالطبع غير المساكن العمالية الملحقة بالمصانع، والتي حشر فيها العمال والعاملات الذين يصلون إلى عدة آلاف في المصانع الكبرى.
    ويبلغ تعمد الإفساد في الدول الشيوعية حداً يجعل السياح العاديين الذين يتاح لهم التجول في البلاد الشيوعية يرونه بوضوح.
    يقول سائح سويسري: ''لقد انحطت القيم الأخلاقية في أكثر بلاد العالم بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن الفرق بين ما هي عليه الحالة في البلاد الشيوعية وما هي عليه في البلاد الأخرى هو أن الحكومات الشيوعية هي التي تسعى إلى إفساد الأخلاق وتحث عليه، كما أن أوضاع الناس وفقرهم ونظام حياتهم الذي فرضته عليهم الشيوعية كل أولئك تدعو إلى إفساد الأخلاق وتشجعه، فماذا ينتظر المجتمع من أناس تحشر الأسرة كلها الأب والأم والفتيات والفتيان الكبار والصغار في غرفة واحدة هي غرفة نومهم وجلوسهم ومطبخهم.
    إن هذا النوع من الحياة والفقر وانعدام الوازع النفسي والديني كلها أمور تحض فساد الأخلاق حتى ولو لم تتيسر الأسباب، فكيف والحكومة هي التي تيسر كل شيء لفساد المجتمع؟! ففي أكثر البلاد الشيوعية وفي أمهات المدن بصورة خاصة أوجد الشيوعيون أماكن خاصة للفساد، ولست أقصد بذلك بيوت الدعارة، بل أقصد بذلك تلك الحدائق الواسعة ذات الخمائل الوارفة التي يتواري بها الفجار عن أعين الناس أو يرتكبون الفاحشة علىأعين الناس بلا حرج ولا مبالاة، أو هي شوارع تترك بلا نور ليلاً لتسهل الدعارة، وقد صرح الماريشال تيتو في إحدى خطبه موجهاً كلامه للشعب قائلاً: لقد تركنا لكم الخمر والنساء، فخذوهما واتركوا لنا السياسة''
    والمرأة -التي هي ميزان الأخلاق- أرخص سلعة في البلاد، وهي ترمي بنفسها على الرجل، ولا سيما على الغريب، وكل ما تطلبه هو أن يتزوجها ولو مؤقتاً، لكي يتسنى لها الفرار من البلاد والخلاص من جحيم الشيوعية، وبالتالي فإني رأيت الناس يعيشون في البلاد الشيوعية كما تعيش البهائم، وإني لأخشى إذا طال-لا قدر الله- عمر الشيوعية أن يظهر إلى عالم الوجود أناس يختلفون عن البشر، ويرجعون بالمدنية التي وصلنا إليها بآلاف السنين إلى حياة الغاب.
    لذا فإني أرى بأن العالم سيظل قروناً بعد القضاء على الشيوعية حتى يستعيد كرامته وإنسانيته، إذ لابد من تربية جديدة صالحة حتى يكون إنساناً صالحاً.
    أما فيما يتعلق بالزواج، فإن الزواج المعترف به من الوجهة النظرية في الغرب الرأسمالي باعتباره العلاقة المشروعة بين الجنسين لا يحظى بذلك هناك، فـالشيوعية تعد الزواج وما ينشأ عنه من الأسرة وتربية الأطفال أثراً من آثار البورجوازية وبقية من تقاليد العصر الإقطاعي لا تليق بالمجتمع العمالي الحديث.
    فـالبيان الشيوعي يقول: ''إن الأسرة البورجوازية سوف تختفي بشكل طبيعي باختفاء رأس المال، أما التهريج البورجوازي عن الأسرة وأهميتها في التربية وعن أهمية العلاقة بين الولد وأبويه فهو مما يثير الاشمئزاز، إن تقدم الصناعة الحديثة سوف يقطع كل الصلات العائلية بين أفراد الطبقة العاملة'' .
    ويتحدث آرثر كستلر -العضو السابق للحزب الشيوعي- عن المعادلة الشيوعية الصعبة فيقول: ''أما بخصوص الدافع الجنسي فقد كان مقرراً ومعترفاً به إلا أنا كنا في حيرة بشأنه، كان نظام الأسرة كله عندنا أثراً من آثار النظام البورجوازي ينبغي نبذه، لأنه لا ينمي إلا الفردية والنفاق والاتجاه إلى اعتزال الصراع الطبقي، بينما الزواج البورجوازي لم يكن في نظرنا إلا شكلاً من أشكال البغاء يحظى برضاء المجتمع وموافقته، إلا أن السفاح والاتصال الجنسي العابر كان يعتبر أيضاً شيئاً سيئاً غير مقبول، من هذا نرى أن الفضيلة البورجوازية كان شيئاً سيئاً، كما أن السفاح كان سيئاً كذلك، أما الموقف الصائب الذي ينبغي أن نتخذه نحو هذا الدافع الجنسي فهو الفضيلة العمالية التي تتلخص في أن الإنسان ينبغي له يتزوج، ويخلص لزوجته وينجب أبناء عماليين، فإذا تساءلت: أليست هذه الفضيلة البورجوازية التي استنكرناها من قبل؟ قيل لك: إن هذا التساؤل أيها الرفيق يدل على أنك لازلت تفكر بالطريقة الآلية لا بالطريقة الجدلية، إن نظام الزواج الذي يعتبر في المجتمع الرأسمالي مظهراً من مظاهر الفساد والتحلل يتحول منطقياً إلى عكس ذلك في المجتمع العمالي السليم، فهل فهمت أيها الرفيق أم تحب أن أعيد عليك جوابي بطريقة محكمة أكثر من هذه؟'' .
    وما تحدثنا عنه من التفكك الأسري والتفسخ الاجتماعي في الغرب موجود بعينه في الدول الشيوعية مع إضافة شيء آخر أكثر خطورة، وهو الشعور الدائم بالهلع والرقابة البوليسية والشك والحذر من كل إنسان، حتى أفراد الأسرة والواحد لا يمكن أن يقوم بينهم تواد وتفاهم كاملان كما يكون بين خلق الله الآخرين، وخير شاهد على ذلك قصة الطفل البطل الذي وشى بوالده إلى الحكومة فحكمت عليه بعشرة أعوام من السجن والعمل سخرة .
    والمرأة -خاصة- تعاني شقاءً لا حدود له، فهي لا تملك أن تبث شكواها فضلاً عن المطالبة بشيء من حقوقها، حتى زميلاتها في المصنع أو المزرعة لا تستطيع أن تفاتحهن بكل ما يعتلج في صدرها، لأن احتمال تسرب ذلك إلى الإدارة ماثل للعيان، وعقوبته لا يطاق تصورها، وهى عاملة بحكم طبيعة النظام وصرامته، ولذلك فهي محرومة من إرضاء غرائز الأمومة وعواطفها الأنثوية مقهورة مكبوتة، أما الأطفال فالمحاضن التي تقيمها لهم الدولة أكثر منها في الغرب، كما أنها أردأ منها في أساليب التربية ووسائل المعيشة، وهذا يضاعف البلاء الاجتماعي ويزيد المجتمع انحداراً إلى الهاوية.
    وذلك الوضع لا تدعو إليه الظروف الاجتماعية فحسب، بل هو جزء من الفلسفة الشيوعية، فقد ذكر إنجلز أن من التدابير التي يجب على البروليتاريا أن تتخذها تربية جميع الأولاد منذ أن يصبحوا قادرين على الاستغناء عن عناية الأمهات في مؤسسات عامة تابعة للدولة وعلى حساب الأمة...، والحق المتساوي في الإرث للأولاد الشرعيين وغير الشرعيين.
    وصفوة القول أن المجتمع الشيوعي هو أحط المجتمعات البشرية المعاصرة سواء من الناحية الأخلاقية أومن ناحية الطمأنينة النفسية والسعادة الاجتماعية، فهو مجتمع منحل مذعور يخيم عليه كابوس شقاء مطبق إلى حد أن الإنسان لا يستطيع أن يفكر في أمل حقيقي للخلاص.
    وهذا التفسخ الفظيع والشقاء المريع الذي تعاني منه أوروبا اللادينية بشقيها الرأسمالي والشيوعي، هو النتيجة الطبيعية والعقوبة العاجلة لكفرها بالله وتنكرها لدينه والاحتكام إلى أهواء البشر وتخرصات المضللين، وإنه لمن سنن الله في خلقه أنه إن لم تعد إلى الله وتتمسك بهداه، فإن المستقبل سيكون أمر وأنكى.