الاقتصاد هو: الإله الأكبر للجاهلية الأوروبية المعاصرة دون منازع! والجاهلية الأوروبية مثلها مثل أي جاهلية في التاريخ لا تنتهج خطاً وسطاً متزناً، بل تتحكم فيها ردود الفعل، وتتسم تصرفاتها بالغلو والتطرف والاندفاع، فليس طريق الحياة الأوروبية إلا خطاً متذبذباً من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ولا تستطيع الجاهلية الأوروبية أن تنظر إلى أي شيء إلا من خلال منظار له عدستان متقابلتان: إحداهما تكبر كل شيء عن حجمه الحقيقي، والأخرى تصغره عن حجمه الحقيقي، وبين هاتين تضيع الرؤية الحقيقية.
وهذه الظاهرة تتجلى في كل ناحية من نواحي الحياة، وربما كانت في الاقتصاد أكثر تجلياً..كانت أوروبا تحتقر الحياة الدنيا، وتزدري ما أحل الله من الطيبات، وتقدس الفقر والتقشف وتبارك البؤس والشقاء؛ لأن ذلك وسيلة للخلاص من الخطيئة، وهو الغرض الوحيد من الوجود الإنساني.
ثم انقلب الأمر رأساً على عقب وتحولت أوروبا إلى وحش ضار، وهجمت بكل قواها على المتاع الحسي، وتطلعت بكل حواسها إلى الشهوات الزائلة، تريد أن تلتهم كل متعة، وتنتهب كل لذة حتى غرقت في الدنيا ونسيت الآخرة بل نبذتها نبذاً كاملاً، ليس هذا فحسب، بل إن أوروبا عبدت -حقيقة لا مجازاً- الإنتاج المادي والطواغيت الذين يتحكمون فيه الطبقة الرأسمالية أو الحزب الشيوعي، فالصورة التي لم تتغير هي صورة العبودية المذلة، وإنما تغير الطاغوت المعبود، فأصبح الرأسمالي أو عضو الحزب بعد أن كان النبيل أو رجل الدين!
هذه العبودية المطلقة، وذلك الاتجاه الكلي إلى المادية - فكراً وسلوكاً - هما اللذان يحددان موقف المجتمع الغربي المعاصر من الدين، وبهما تظهر الجاهلية المعاصرة مجردة عن كل زيف خالية من أي طلاء.
وما علينا إلا أن نتأمل مجرى التاريخ الاقتصادي الأوروبي، ونمعن النظر في نظرياته الكبرى من العصر الإقطاعي حتى الآن، وحينئذٍ لن نفاجأ بهذه الحقائق الواضحة.
  1. أولاً: نظرية الكنيسة ونظام الإقطاع

    - على الرغم من أن الكنيسة لم تحاول تغيير بنية المجتمع المسيحي أو تنظيم بعض مجالات الحياة على الأقل، فقد كان لها أثر فعال في اقتصاد القرون الوسطى من الوجهة النظرية.
    أقرت الكنيسة النظام الإقطاعي السائد، بل أصبحت مؤسسة من مؤسساته الثابتة، وأقرت الاضطهاد الفظيع الذي كان يتعرض له أرقاء المجتمع رغم تنافيه مع تعاليم الإنجيل، ولكنها في مواقف أخرى كانت أكثر تشدداً، لا سيما في مسألة الربا، والواقع أن الربا جريمة تشترك في تحريمها كل الرسالات السماوية، وتحاربها الكتب المقدسة جميعها، وهي ظاهرة لها مغزاها العميق.
    ويتحدث ول ديورانت عن ذلك فيقول: ''كانت العقيدة المسيحية في الربا أكبر العقبات في نمو النظام المصرفي وتقدمه، وكان جيروم يرى أن الكسب كله حرام، كما أن أوغسطين يرى أن جميع الأعمال المالية إثم، لأنها تصرف الناس عن السعي للراحة الحقة أعني الله وكان البابا ليو الأول قد رفض هذه العقائد المتطرفة، ولكن الكنيسة ظلت لا تعطف على التجارة، وترتاب في جميع أنواع المضاربات والمكاسب، وتعارض جميع صنوف "الاحتكار" و"الجبأ" و"الربا" وكان هذا اللفظ الأخير يطلق في العصور الوسطى على فائدة المال أياً كان قدرها وفي ذلك يقول أمبروز الربا هو كل مال يضاف إلى رأس المال، وقد أدخل جرايتان هذا التعريف الجامد في القانون الكهنوتي الذي تسير عليه الكنيسة.
    ثم إن مجلس لا تران الثالث 1179 جدد هذا التحريم، وقرر أن الذين يجهرون بالربا لا يقبلون في العشاء الرباني، وإذا ماتوا وهم على إثمهم لا يدفنون دفن المسيحيين، وليس لقسيس أن يقبل صدقاتهم.
    أما البابا جريجوري التاسع فقد قال: إن الربا هو كل ما يناله الإنسان من كسب نظير قرض، وظل هذا الرأي قانون الكنيسة الرومانية حتى عام 1917م، وقد ظلت قروناً طوالاً تظن أن جميع المرابين يهود.
    وظل تشريع الحكومات زمناً طويلاً يؤيد موقف الكنيسة في هذه الناحية، وكانت المحاكم الدينية نفسها تحرم الربا، ولكن تبين أن حاجات التجارة أقوى أثراً من خشية السجن أو الجحيم.
    ثم ألغت معظم الدول الأوروبية بعد عام 1400 ما وضعته من قوانين لتحريم الربا، ولم يكن تحريم الكنيسة إلا كلاماً مهملاً يتفق الناس جميعاً على إغفاله.
    ويرى جورج سول أن الكنيسة كانت تحرم الربا لسبب نفعي؛ بالإضافة إلى الدافع الديني، فيقول سول: ''هذا التأكيد بفساد الربا وشروره ليس فكرة مجردة فحسب، ولكنه كما هو الشأن بالنسبة إلى معظم المذاهب الأخرى البارزة في ذلك الحين وفي عصرنا هذا- كان يحقق غرضاً هاماً حينذاك لأولئك الذين عملوا على ترويج الفكرة''.
    لقد شعرت الكنيسة وحلفاؤها الإقطاعيون في العصور الوسطى -وبحق- أن ثمة خطراً يهدد سلامتهم وسلطانهم نتيجة نمو الرأسمالية، وإن لم يطلق عليها أحد هذه التسمية، إن استنكار الربا كان من الأغراض الدالة على أن وسائل جديدة في الإنتاج والتبادل بدأت تعمل على تقويض دعائم النظام الإقطاعي.
    وعلى أية حال فإن اقتصاد القرون الوسطى لم يكن يستطيع التملص من اتباع التعاليم الكنسية التي كانت جزءاً من النظام الأخلاقي المسيحي، كما أنه كان -في الوقت نفسه - خاضعاً ومقيداً بالأعراف الإقطاعية السائدة، ولذلك كان حتماً أن ينهار بانهيار الكنيسة والإقطاع.
    ولا شك أن الكنيسة ارتكبت خطأ فادحاً بإقرارها للواقع السيئ، وعدم وضع سياسة اقتصادية عامة وعادلة تستمد أصولها من الدين، كما أن سلوكها الذاتي وطغيانها المالي الفظيع قد جعلاها قدوة للظالمين، ومحط أنظار المقت والحقد من المظلومين.
    وإذا حاولنا تحديد النظرية العامة للكنيسة إجمالاً - مع استثناء مسألة الربا وملحقاتها - فإن أقرب وصف يفي بالمراد هو أنها نظرية طبيعية إقطاعية، ومن اليسير إدراك أن هذه النظرية لم يكن لها منهج مستقل، بل كانت تستمد من الأسس الأخلاقية العامة.
    صورة مجملة لنظام الإقطاع:
    إن النظام الذي هيمن على الحياة الأوروبية طوال القرون الوسطى، وعاصر شباب المسيحية، وشكَّل بالاندماج معها ملامح القارة الأوروبية آنذاك هو نظام الإقطاع، ونظام الإقطاع الأوروبي يأتي في طليعة الأنظمة الجاهلية التي لا ينفك عنها الظلم، ولا ينفصم عنها الطغيان، والإنسان في ظله مسلوب الإرادة مهدر الكرامة ضائع الحقوق.
    والواقع أن الدول التي تتكون منها القارة الأوروبية لم تكن في الحقيقة إلا مجموعة من الإقطاعيات تخضع لملك أو إمبراطور مركزي، جل همه أن يحصل على الضرائب والجنود من السيد مالك الإقطاعية، أما داخل الإقطاعية فكانت تبرز الصورة البشعة للنظام الإقطاعي.
    ومع ملاحظة أن هذا النظام تختلف صوره باختلاف العصور والأقاليم، فإن ملامحه العامة وجوهره الموحد يمكن أن يحصرا في تقسيم المجتمع طبقتين: إحداهما في قمة الترف، والأخرى في حضيض العوز، وكل طبقة تتألف من طائفتين، فالطبقة العليا هي طائفتا السادة الملاك ورجال الكنيسة، والطبقة الدنيا: هي طائفتا العبيد ورقيق المجتمع، ومن هذه الأخيرة صغار القساوسة والزهاد من رجال الكنيسة.
    أما حقوق وواجبات كل فرد من هذه الطبقات فكما يلي:
    1-السيد المالك: هو المسيطر الفعلي وصاحب النفوذ القوي في هذا النظام، وقد كان يملك حقوقاً لا حصر لها في حين ليس عليه أي واجبات: ''كان من حقه أن يضرب رقيق أرضه أو يقتله في بعض الأماكن أو الأحوال دون أن يخشى عقاباً، وكانت له في أملاكه كل السلطات القضائية والعسكرية، وكان يستفيد فوق ما يجب من الغرامات التي تفرضها محاكم الضيعة... وكان في وسع السيد الإقطاعي أن يمتلك أكثر من ضيعة واحدة... وقد يكون له قصر حصين في كل واحدة منها، وكان قصره يهدف إلى حماية سكانه أكثر مما يهدف إلى راحتهم... يحيط به خندق عميق عريض وسور متصل عال وأبواب حديدية؛ وفي وسطه برج حجري دائري يسكن فيه السيد وأسرته، وكانت جدرانه الحجرية المنيعة عماد قوة الملاك ضد مستأجريهم وضد الملك.
    وكان الرجل الذي يمنعه كبرياؤه من أن يكون رقيق أرض، ولكنه أضعف من أن يعد لنفسه وسائل الدفاع العسكرية، يؤدي مراسم الولاء لشريف إقطاعي، يركع أمامه وهو أعزل عاري الرأس، ويضع يديه في يدي الشريف، ويعلن أنه رجل ذلك الشريف، ثم يقسم على بعض المخلفات المقدسة... أن يظل وفياً للسيد إلى آخر أيام حياته، ثم يرفعه السيد ويقبله'' .
    وكون الإنسان مالكاً نبيلاً لا يعتمد على جهوده الذاتية، ولا هو مما يمكن اكتسابه، فالنبيل يولد نبيلاً ويظل كذلك إلى الموت، والعبد يولد عبداً ويعيش حياته كلها في أغلال العبودية، أي أن المجتمع الإقطاعي يقوم بتوزيع أعضائه على العامل الوراثي وحده، إلا إذا طرأ تبدل فجائي كامل على الحياة فينقطع، لكنه يعود إلى التحكم فور استقرار الأوضاع.
    2- رجل الدين: كان رجل الدين بسلطته الروحية سيداً إقطاعياً إلى حد ما، وكان يملك الإقطاعيات، ويتحلى بالألقاب الإقطاعية، ويورث مرتبته لذريته، وقد سبق الحديث عن ذلك.
    3- العبد: أباحت الكنيسة استرقاق المسلمين والأوروبيين الذين لم يعتنقوا الدين المسيحي، وكان آلاف من الأسرى الصقالبة أو المسلمين يوزعون عبيداً على الأديرة... وكان القانون الكنسي يقدر ثروة أراضي الكنيسة في بعض الأحيان بعدد من فيها من العبيد لا بقدر ما تساوي من المال، فقد كان العبد يعد سلعة من السلع كما يعده القانون الزمني سواء بسواء، وحرم على عبيد الكنائس أن يوصوا لأحد بأملاكهم... وحرم البابا جريجوري الأول على العبيد أن يكونوا قساوسة، أو أن يتزوجوا من المسيحيات الحرائر... وكان القديس توماس أكويناس يفسر الاسترقاق بأنه نتيجة لخطيئة آدم، وإذا كان هذا هو نظر الكنيسة التي تنادي بالمحبة والرحمة فما بالك بمعاملة السيد رجل الدنيا لعبيد إقطاعيته...؟
    4- رقيق الأرض: لم يكن رقيق الأرض عبداً بمعنى الكلمة، لكن حاله لا يختلف عن العبد في شيء، والفارق بينهما أن العبد - في الأصل - إما أسير مغلوب وإما مخالف للسيد في الدين أو الجنس أو المذهب، بعكس الرقيق الذي هو أصيل في الإقطاعية، وينتمي إلى الدين والجنس اللذين ينتمي إليهما سيده.
    والأصل في رقيق الأرض أنه رجل يفلح مساحة من الأرض يمتلكها سيد أو بارون، وكان في وسع المالك أن يطرده متى شاء، وكان من حقه في فرنسا أن يبيع الرقيق مستقلاً عن الأرض... أما في إنجلترا فقد حرم من مغادرة الأرض، وكان الذين يفرون من أرقاء الأرض يعاد القبض عليهم بنفس الصرامة التي يعاد بها القبض على العبيد، وهذا الصنف هو الصنف الغالب في الإقطاعيات، بل هو في الحقيقة يمثل مجموع سكان أوروبا تقريباً باستثناء النبلاء ورجال الدين, والمدهش -حقاً- هو تلك القائمة الطويلة من الواجبات التي يؤديها الرقيق للمالك، عدا خضوعه المطلق لسلطته وارتباطه المحكم بإقطاعيته:
    1- ثلاث ضرائب نقدية في العام.
    2- جزء من محصوله وماشيته.
    3- العمل سخرة كثيراً من أيام السنة.
    4- أجر على استعمال أدوات المالك في طعامه وشرابه.
    5- أجر للسماح بصيد السمك أو الحيوان البري.
    6- رسم إذا رفع قضية أمام محاكم المالك.
    7- ينضم إلى فيلق المالك إذا نشبت حرب.
    8- يفتدي سيده إذا أسر.
    9- يقدم الهدايا لابن المالك إذا رقي لمرتبة الفرسان.
    10- ضريبة على كل سلعة يبيعها في السوق.
    11- لا يبيع سلعة إلا بعد بيع سلعة المالك نفسها بأسبوعين.
    12- يشتري بعض بضائع سيده وجوباً.
    13- غرامة إذا أرسل ابنه ليتعلم أو وهبه للكنيسة.
    14- ضريبة مع أذن المالك إذا تزوج هو أو أحد أبنائه من خارج الضيعة.
    15- حق الليلة الأولى! وهي أن يقضي السيد مع عروس رقيقه الليلة الأولى، وكان يسمح له أحياناً أن يفتديها بأجر، وقد بقي بصورته هذه في بافاريا إلى القرن الثامن عشر.
    16- وراثة تركته بعد موته.
    17- ضريبة سنوية للكنيسة، وضريبة تركات للقائد الذي يدافع عن المقاطعة.
    هذا هو نظام الإقطاع الذي قامت على أنقاضه الحياة اللادينية المعاصرة، ومهما عدد الباحثون من سيئاته ومظالمه فإن أعظمها أثراً في الحياة والفكر أمران:
    1- ارتباط النظام الإقطاعي بالدين:
    من الوجهة التاريخية كان النظام الإقطاعي في عنفوان شبابه، في الفترة نفسها التي كانت المسيحية فيها في أوج عظمتها، ثم كان انهيار النظام موازياً لانهيار الكنيسة، واستنتجت الجاهلية الحديثة من ذلك معادلة خاطئة هي:
    إن المجتمع الإقطاعي طبقي ظالم، لأنه متدين، وإذن فزوال الظلم من المجتمع يستلزم نبذ الدين كلية، أو على الأقل عزله عن التأثير في مجريات الأحداث؛ وتلك كانت نظرية الكتاب الطبيعيين الذين وضعوا نواة الفكر الرأسمالي الحديث.
    وتطرفت الشيوعية فنسبت للدين دوراً إيجابياً في إرساء قواعد الظلم الإقطاعي؛ بل حملت الدين كامل مسئولية تأخر الوعي الطبقي وعرقلة جهود الطبقة الكادحة، فلم تكتف بالقول بأن الدين يقر الظلم ويوادعه؛ بل جعلت الدين أفيون الشعوب الذي يشل حركتها النضالية، ويعوقها عن المطالبة بحقوقها!
    2- طابع الثبات المطلق:
    كان النظام الإقطاعي نظاماً ثابتاً إلى درجة الجمود: ثابت التوزيع الاجتماعي، ثابت الحقوق والواجبات، ثابت الأخلاق والتقاليد، ثابت الأفكار والمعارف، ثابت الأحوال المعيشية، وكان ذلك مدعاة لأن يصطدم هذا النظام بسنة الله في الكون وفي سير التاريخ، فقد تزعزع هذا الثبات بالنهضة العلمية وحركة الإصلاح الديني، ثم نسف من أساسه بانفجار قنبلة التطور سنة 1859 كما سبق، وقد شبه كتاب تاريخ البشرية انتقال أوروبا من الثبات إلى التطور بسفينة كانت راسية في ميناء وادع ثم ابحرت في خضم صاخب إلى غاية مجهولة بغير خريطة.
    وهذان الأثران سيظهران بجلاء من خلال عرضنا للنظريات الاقتصادية، وإن كانا في الواقع قد شملا جوانب الحياة الأخرى، ومنها ما سبق عنه الحديث، ومنها ما سيأتي بإذن الله.
  2. ثانياً: المذاهب الاقتصادية اللادينية

    -المذهب الطبيعي الفيزيوقراطي:
    كانت المسألة الاقتصادية من أبرز المشكلات التي تصدى لها فلاسفة ومفكرو عصر التنوير -كما يسمى- في القرن الثامن عشر، وهو العصر الذي بدأت فيه العلوم والآداب تستقل عن المؤثرات الدينية بدرجة ملحوظة.
    في ذلك العصر أخذت أوروبا الهاربة من نير الإقطاع وأغلال الكنيسة تبحث عن أنظمة ومناهج جديدة متحررة من التلازم التقليدي بين الشئون الحيوية وبين القواعد الأخلاقية الذي كان منهج القرون الوسطى.
    وكانت الجفوة العميقة بين العلم والدين- التي مر الحديث عنها سلفاً - أبرز العوامل في انفصال النظريات الاقتصادية وغيرها عن المثل والقيم الدينية، وولادة الإله الذي عبده عصر التنوير بسذاجة متناهية: (الطبيعة).
    كان لكل زاوية من زوايا الحياة مذهبها الطبيعي وكتابها الطبيعيون:
    ففي السياسة عرفنا كيف قامت الديمقراطية على أسس المذهب الطبيعي، وفي العلم والفلسفة حلت كلمة (الطبيعة) محل لفظ الجلالة، وهو إجراء ليس المقصود به التغيير اللفظي فحسب، وفي الشئون الاجتماعية ظهر كتَّاب يرون أن المجتمع الطبيعي هو المجتمع المثالي الذي يجب أن تعود إليه البشرية، وفي الأخلاق ظهرت فكرة الأخلاق الطبيعية؛ بل لقد كتب فلاسفة كبار عن موضوع الدين الطبيعي، ولعل أوضح تطبيقات المذهب الطبيعي يظهر في الموضوع الذي نحن بصدده وهو الاقتصاد.
    يستعرض مؤلف كتاب المذاهب الاقتصادية الكبرى تاريخ هذا المذهب عموماً فيقول:
    (اعتمد الناس خلال القرون التي خلت...على القدامى من أمثال أرسطو وآباء الكنيسة يلتمسون عندهم المعرفة بشأن العالم الخارج عن دائرة ما يعيشون فيه، وكفاهم أن يعودوا إلى أولئك الأئمة ليستخلصوا من كتاباتهم تفسيراً لأي ظاهرة، وحل المنطق الاستنباطي محل دقة الملاحظة وعمق النظرية والتجربة.
    غير أن نفراً من ذوي العقول أخذوا يكتسبون معرفة جديدة أكثر دقة، وذلك عن طريق دراسة الطبيعة ذاتها في تواضع وبالأسلوب الموضوعي، فالإدراك بأن الأرض ليست مركز العالم؛ بل تدور حول الشمس، والكشف الذي اهتدى إليه هارفي بشأن الدورة الدموية، والنظريات التي طلع بها نيوتن عن الجاذبية والحركة، كل هذه أعقبتها عشرات من الملاحظات لها مغزاها وأهميتها، وإن كانت أقل شأناً ودرجة.
    فإذا كانت المصادر القديمة قد أخطأت في نظراتها إلى العالم الطبيعي، أما كانت كذلك مخطئة في نظراتها إلى السلوك البشري؟!
    أصبح كل شيء موضع التساؤل والشك، وعلى ذلك سمي العلم فلسفة، ولم يعد هناك تمييز بين الميادين التي عني كل منهما بفحصه، وأخذ الكتَّاب والمتفلسفون يعيدون البحث في النظم البشرية تماماً كما كانوا يفعلون بالنسبة إلى الأشياء غير البشرية، وهم في تصرفهم هذا كانوا يسلمون بأن الإنسان جزء من الطبيعة، وليس كائناً منفصلاً عن بقية المخلوقات؛ أوجدته العناية الإلهية وتولت رعايته.
    وأصبح البحث ينصب على تفسير النتائج والأسباب بالنسبة إلى السلوك البشري -سواء أكان مرغوباً فيها أم غير مرغوب- عن طريق قوانين الطبيعة بدلاً من البحث عنها في إرادة الله، كما قالت الكتب المقدسة أو المذاهب الكنسية، ومعنى هذا - بتعبير آخر - أن علينا أن نسترشد في أعمالنا وتصرفاتنا بالعقل دون سلطة القدامى وآرائهم ''.
    إذن فقد كان عصر التنوير يرفض بصراحة الحكم بما أنزل الله، والرجوع إلى الله في تنظيم حياته العامة، أو على الأقل كان كما يقول بعض فلاسفته: يريد الرجوع تحت اسم مستعار هو الطبيعة، ومن طريق آخر غير طريق الوحي والكنيسة، وهو القانون الطبيعي.
    أما أثر هذا المذهب على الاقتصاد فيوضحه سول بقوله: ''سيطرت فكرة الآخرة على المذاهب السائدة خلال العصور الوسطى، وإن لم تسيطر على العادات والتقاليد، فالمجال الدنيوي بما فيه الحياة الإنسانية نفسها ليس سوى مكان يستعد فيه الناس للحياة بعد الموت بما تشتمل عليه من ثواب وعقاب، فكان على المرء أن يتحمل الألم، وهو عالم أنه ليس إلا مقدمة لما يتوقع في حياة مستقبله، أما الدافع الفكري على تقويم العادات الاجتماعية أو زيادة الرفاهية الدنيوية فكان ضئيلاً اللهم إلا من حيث الفائدة الروحية التي يمكن اجتناؤها.
    والآن تحول الاهتمام فأصبح محصوراً في تحسين الحياة على المجتمع، وكشفت العلوم والمخترعات عن إمكانيات المجتمع لذاتها، لقد كانت المكاسب المادية ظاهرة في كل شيء، وكان لا حد لها من حيث وجود أساليب أفضل وأيسر لإنتاج الأشياء، وسرت روح المغامرة.
    وهنا برز السؤال التالي: أليس في وسع الفلسفة أن تعالج النظم البشرية بنفس الطريقة التي تدرس بها الأشياء المادية؟.
    وكان الجواب: بالإمكان، ذلك أن المطلوب إنما هو تطبيق العقل على الأساليب التي يستخدمها الناس كيما يعيشون (كذا) معاً، وراح الكثيرون يصوغون الخطط والمشروعات التي تكفل قيام الحياة المثالية أو اليوتوبيا.
    وصار لزاماً على الذين نبذوا الإيمان بالله كلية أن يبحثوا عن بديل لذلك، ووجدوه في الطبيعة، أما الذين ظلوا على استمساكهم بالدين ولو باللسان - وإن لم يكن في الواقع كما هو أغلبهم - فقد اعتقدوا أن الله يعبر عن إرادته عن طريق الطبيعة وقوانينها، وليس بوسيلة مباشرة، وبذلك لم تعد الطبيعة مجرد شيء له وجود فحسب، وإنما هو شيء ينبغي أن يطاع، وصارت مخالفتها دليلاً على نقص في التقوى والأخلاق.
    وتعددت وجهات نظر الفلاسفة الطبيعيين بشأن تنظيم المجتمع، لا سيما من ناحية توزيع الثروة بطريقة عادلة، إلا أن الجامع المشترك بينهم في ذلك هو الفكرة التي سلفت في الفصل السابق، وهي حرية العمل التي يعبر عنها شعارهم المعروف: دعه يعمل، دعه يمر، أو دع الأمور وحدها تسير، فالطبيعة كفيلة بالتوازن.
    وكانت بقايا النظام الإقطاعي في الواقع، مع شبحه الماثل في نفوسهم سبب مناداتهم بهذه الشعارات، واعتقادهم أنها أنجع الحلول لمشكلة الظلم الاجتماعي الناجمة عن سوء توزيع الثروة.
    أما الأساس العلمي الذي توهموا أنهم أقاموا عليه صرح مذهبهم فهو نظرية نيوتن عن الأجرام السماوية وقوانين الحركة الطبيعية، فكما أن للنجوم والكواكب قانونها الطبيعي الذي يحدد لكل منها مساره الخاص دون أن يحدث بينهما أي اصطدام على الإطلاق، فكذلك - في نظرهم - لو ترك الناس إلى طبيعتهم، ولم يفرض عليهم قوانين خارجية، لانتظمت أحوالهم، وسارت وفق القانون الطبيعي الذي يكفل تطبيقه الحياة المثالية للمجتمع والأفراد دون تعارض واضطراب، وقد عرفنا في الفصل السابق كيف استغلت الطبقة المتوسطة المكونة من رجال المصارف وأصحاب المصانع المذهب الطبيعي، لكي تظفر باليد العاملة التي كانت حكراً على ملاك الإقطاعيات، ولتضمن حماية الدولة لممتلكاتها، لأن ذلك هو قانون الطبيعة.
    وقد عبر راندال عن ذلك بقوله: ''هكذا كان هذا العلم -أي: علم الاقتصاد السياسي- يبدو في الظاهر محاولة مجردة عن المصلحة، للوصول إلى فيزياء اجتماعية للثروة، لكنه كان في الحقيقية تبريراً منظماً للمطالب التي تهدف إلى زيادة حرية جمع المال، وتستعين بالعلوم الجديدة البشرية والطبيعية
    2- المذهب الرأسمالي الكلاسيكي:
    ليس هذا المذهب في الحقيقة إلا تطويراً للمذهب الطبيعي اقتضته الظروف الطارئة، والتغيرات الاقتصادية والاجتماعية.
    وكان الغرض المنطقي أن يكون هذا المذهب أكثر سماحة واعتدالاً في معاملة الطبقة الفقيرة، وأن يشتمل على خطط ومناهج إصلاحية تكفل إلى جانب امتيازات الأثرياء حقوقاً منصفة للفقراء.
    لكن الذي حصل فعلاً هو عكس ذلك تماماً، فقد دعا زعماء هذا المذهب بكل صراحة إلى الجشع والاستغلال، وبرروا الوسائل غير الإنسانية التي كانت الطبقة الغنية تمارسها على المعدمين، ولم يكن إلحاحهم الشديد على حرية الفرد وحقه في العمل لمصلحته الذاتية إلا تأكيداً لحرية المحتكرين من أرباب المصانع والتجار والصيارفة.
    كان المذهب الطبيعي ينسب للأرض القيمة الاقتصادية الكبرى، فأعطى المذهب الكلاسيكي هذه القيمة للعمل، وليس مرد ذلك إلى الانتقال من العصر الزراعي إلى العصر الصناعي فحسب، بل إنه ليعبر عن رغبات الطبقة الجديدة التي تريد أن تفرض نفوذها المالي على المجتمع، وتستأثر بالعمال الذين كانت غالبيتهم تعمل في الزراعة.
    وتحت ستار التظاهر بالبحث عن أفضل السبل لتحقيق رفاهية المجتمع وتقدمه، وبناء قواعده على أسس علمية، كان دعاة المذهب يحملون نزعة لا أخلاقية لم يكن في وسعهم التكتم عليها، فقد ظهرت في مؤلفاتهم الشهيرة التي يعدها العالم الرأسمالي اليوم أعز تراثه عليه، وإن كان حور وطور كثيراً من نظرياتها واستبعد الباقي.
    وأشهر الرأسماليين الكلاسيكيين آدم سميث ومالتس وريكاردو إذ على أكتافهم نهض المذهب الفردي الرأسمالي وترعرع.
    وهذه خلاصة لمذهب كل منهم وآثاره العملية:
    أ- آدم سميث (1790) :
    أما آدم سميث فهو فيلسوف الاستعمار، وكاهن الرأسمالية الأكبر، وكتابه ثروة الأمم أهم المؤلفات الاقتصادية وأبعدها أثراً، يقول روبرت داونز في مؤلفه كتب غيرت وجه العالم : ''النظرية الأساسية في كتاب ثروة الأمم نظرية ذات نزعة مكيافيللية، وهي أن العامل الأول في نشاط الإنسان هو المصلحة الشخصية، وأن العمل على جمع الثروة ما هو إلا مظهر من مظاهرها، وبذلك قرر أن الأنانية والمصلحة الشخصية تكمن وراء كل نشاط للجنس البشري، وصارح الناس باعتقاده أنها ليست صفات ممقوتة يجب الابتعاد عنها، وإنما هي على العكس عوامل تحمل الخير إلى المجتمع برمته، وفي رأيه أنه إذا أريد توفير الرفاهية للأمة، فلا بد من ترك كل فرد يستغل أقصى إمكانياته لتحسين مركزه بشكل ثابت منظم دون تقييد بأي قيد، فللحصول على غذائنا لا نعتمد على كرم الخمار أو الخباز أو الجزار، وإنما هم يقدمونه لنا بدافع من مصلحتهم الشخصية، وإنا عندما نخاطبهم لا نتجه إلى ما فيهم من دوافع إنسانية، وإنما نتجه إلى مصلحتهم المادية، ولا نكلمهم عن احتياجاتنا، بل عما يعود عليهم من نفع وفائدة'' .
    آثار مذهبه:
    على الرغم من هذه الروح غير الأخلاقية، حظي سميث وكتابه بشهرة واسعة لا يضاهيها أي من المعاصرين له، ومنحه المفكرون والكتاب لقب (أبو الاقتصاد العصري) وليس ذلك إلا للخدمة التي أسداها سميث لرجال الأعمال الرأسماليين، والوسائل التي نبههم لاستعمالها في الوقت الذي أسقط فيه حساب الجموع الغفيرة من الزراعيين والعمال الذين يكابدون البؤس والشقاء. ولم يقتصر سميث على إنجلترا ولا على أوروبا وحدها، بل كان كتابه المذكور إنجيلاً للمستعمرين الذين تدفقوا على قارات العالم الأخرى، ينهبون خيراتها ويستعيدون شعوبها، حتى لقد عد الفصل الذي يتحدث عن المستعمرات أشهر فصول الكتاب.
    يقول ماركس لرز : ''كان أغلب الذين عنوا بقراءة ذلك الكتاب هم أولئك الذين أفادوا فائدة شخصية من الآراء التي وردت فيه، وهؤلاء هم التجار المحدثون وحلفاؤهم من الأعضاء في برلمانات العالم ولجانهم الثقافية التنفيذية في الجامعات، وعن طريق هؤلاء أثر الكتاب تأثيراً عظيماً في جميع من يليهم من شعوب العالم رغم أنها لا تعلم شيئاً عن الكتاب ذاته، كما أنه عن طريقهم أيضاً أحدث آثاره الهائلة في التفكير الاقتصادي والسياسة العالمية'' .
    على أن سميث لم يسلم من المعارضين من ذوي الميول الدينية مثل رسكن الذي قال عنه: ''إنه الاسكتلندي الغبي الهجين الذي يدعو الناس عامداً إلى ارتكاب التجديف في الدين بقوله: عليك أن تكره الرب إلهك، وتعصي وصاياه، وتشتهي مال قريبك... كما لم يسلم ممن عارضه لأسباب إنسانية، مثل كثير من أحرار المفكرين الذين لم يغفروا لـ سميث قط أنه أداة في ذلك الاستغلال الدنيء الذي انتهجه رجال الأعمال وأصحاب المصانع، إذ اتخذوا من مبدأ حرية التجارة وآرائه فيه منهجاً لهم في أعمالهم، فقد انتهز هؤلاء تلك الفرصة فشوهوا كل مبدأ دعا إليه لحماية العامل والزارع والمستهلك والمجتمع عامة، وفسروها على أنها إباحة مطلقة لمصلحتهم الشخصية، لا تتقيد بأي قيود أو تدخل من جانب الحكومة'' .
    (ب) مالتس (1834) :
    لئن كان سميث أب الرأسمالية فإن مالتس هو محاميها العظيم، وإذا كان سميث قد اتخذ موقفاً سلبياً أو شبه سلبي من المعوزين والمهضومين، فإن مالتس اتخذ حيالهم دوراً إيجابياً، لكنه - للأسف - ضدهم إلى أبعد الحدود.
    ظهر في القرن الثامن عشر عدد من الكتاب المغرقين في التفاؤل من أمثال كوندورسيه وجدوين وتوماس بين وشكلوا مدرسة اجتماعية طبيعية، تؤمن بأنه إذا تمتع كل فرد بما أسموه حقوق الإنسان، وأزيلت الحواجز الاصطناعية التي تعوق ذلك، فإن عصراً مزدهراً أو يوتوبيا حقيقية تنتظر البشرية، فالطبيعة حسب تعبيرهم وفرت لوازم السعادة وهيأتها لبني البشر، وما عليهم إلا أن يحسنوا اقتسامها وتوزيعها.
    لم ترق هذه النظرية لـمالتس ذي النزعة التشاؤمية، وكانت معاصرته لهؤلاء الكتاب من أسباب تحمسه للرد عليهم، فنشر سنة 1798 كتيباً بعنوان: مقال في قواعد ازدياد السكان أوضح فيه رأيه الصريح إزاء الموضوع.
    يقول سول: ''إن مذهب مالتس بسيط في جوهره، فالتكاثر إن لم يحده قيد فإنه يدعو إلى تزايد السكان وفقاً لمتوالية هندسية، في حين أن الزيادة في موارد الغذاء ليست بهذه السرعة أو أنها -بعبارة أخرى -تسير حسب متوالية عددية'' .
    ولم يخف مالتس اعتراضه على حقوق الإنسان التي أعلنها توماس بين فقد رد عليه قائلاً: ''إن رجلاً يولد في دنيا قد استولى عليها الناس من قبله، وتملكوا خيراتها، ولم يجد العون الطبيعي من والديه، وما دام المجتمع في غنى عن خدماته، فهذا الرجل لا يستطيع أن يدعي لنفسه حقاً في كسرة خبز، ولا حق له في الوجود في هذا العالم'' كما أنه انتقد البرنامج الذي وضعته الحكومة الإنجليزية لإعانة الفقراء بقوله: ''إن قوانين الفقراء في إنجلترا تؤدي إلى تفاقم حالة الفقراء عامة في ناحيتين:
    الأولى: هي أنها تعمل على زيادة عدد السكان دون زيادة غلة الأرض لإعالتهم.
    والثانية: أن كميات الحاجيات التي تستهلك في ملاجئ الفقراء -وهم طبقة غير منتجة- تقلل من الأنصبة التي كان يجب أن تعطي كاملة للطبقة العاملة'' .
    وهكذا حرم مالتس الإحسان تحريماً قاطعاً سواء أكان من الدولة أو من الأفراد، وذهب إلى أن كل مشروع لتحسين حالة المجتمع سينتهي إلى كارثة، وقال: إن على المجتمع أن يرفض تقديم الإحسان أو الإعانات إلى الأسر التي تعجز عن تدبير وسائل معيشتها.
    والمصيبة أن الذي يطرح هذه الأفكار، ويطالب المجتمع بتطبيقها ليس رجلاً علمانياً، ولكنه رجل دين بمرتبة قسيس! رجل دين يبرر سلوك طواغيت الرأسمالية، ويحرم البر والإحسان إلى المنكوبين، ويقول: إن ذلك هو قانون الطبيعة الذي يعبر عن إرادة الله، إن في وسعنا أن نتصور الأثر البالغ والانعكاس الذي تتركه المفارقة العجيبة في ذهن الفرد العادي عن الدين ورجال الدين.
    آثار مذهبه:
    يقول داونز: ''قوبلت آراء مالتس بترحاب وتحمس، إذ تلقفتها الطبقة المثرية وذوو السلطة في زمنه، فرددوا وراءه القول: بأن الفاقة الاجتماعية وغيرها من المساوئ الاجتماعية يصح إرجاعها الآن إلى أسباب الزواج المبكر وكثرة النسل، وليس لسوء توزيع الثروة في البلاد شأن في ذلك، وبالتالي لا يقع عليهم أي لوم'' .
    ويقول سول: كان مذهب مالتس هذا يخدم مصالح أولئك الذين بالرغم من الأرباح الطائلة التي جنوها بفضل نمو الرأسمالية تعرضوا لهجوم عليهم، بسبب سوء الحال التي كان عليها فريق كبير من العمال والأجراء.
    لقد قام مالتس بالدفاع اللازم حين أعلن أن شقاء الإنسان مرده إلى إغفال أحد القوانين الطبيعية (يعني: قانون زيادة السكان)، وإن تجاهل هذا القانون لن يؤدي إلى تحقيق أية منفعة اجتماعية في ظل أي نظام اقتصادي، وأن علاج الشقاء في يد هؤلاء التعساء أنفسهم، وأن الالتزام الوحيد على الطبقات العليا من المجتمع ينحصر في تعريف الناس بالموقف الحقيقي.
    إن آراء مالتس هذه هي التي جعلت علم الاقتصاد يعرف باسم العلم القاتم النظرة.
    والحق أن تَقَبُّل نظرية مالتس ومثلها نظرية سميث، وأضرابها ليس إلا جزءاً من ظاهرة فكرية أوروبية تستدعي الدهشة والعجب، وتستوجب التعليل والتفسير، وهي ميل الفكر الأوروبي دائماً إلى اعتناق الأفكار الشاذة والنظريات اللاأخلاقية المتطرفة، على الرغم من وفرة الأفكار والنظريات الأقرب إلى الاعتدال والموضوعية.
    وهذه الظاهرة رأيناها -في الفصل السابق- في المكيافيللية، ثم هنا، وسنراها في الماركسية، ثم في الفرويدية وكذلك بعض الاتجاهات الأدبية.
    وهذا- في نظرنا - يعود إلى مرض متأصل في النفسية الجاهلية أكثر من كونه نتيجة طبيعية للأوضاع الفكرية والاجتماعية غير الطبيعية .
    وعلى أية حال فقد كان لـمالتس آثاره في العلوم الاقتصادية والاجتماعية لا يزال بعضها مثار نزاع الباحثين، على أن أقوى أثر لمذهبه - جاء بطريقة عفوية - هو إيحاؤه بقانون الانتقاء الطبيعي الذي بنى عليه داروين مذهبه في تطور الكائنات الحية، وقد طغى هذا الأثر على غيره نظراً للانقلاب الفكري الذي أحدثته نظرية التطور.
    ومن ناحية أخرى يجزم برتراند رسل بأن ماركس سرق من مالتس نظريته في السكان ويبدو أنه يعني بذلك الشعار الشيوعي المعروف (من لا يعمل لا يأكل) في الوقت الذي تلعن الماركسية فيه مالتس عدو الطبقة الكادحة.
    (ج) ريكاردو:
    يعد دافيد ريكاردو القطب الثالث من أقطاب الفكر الاقتصادي الكلاسيكي، وكان يهودياً يملك شركة تحمل اسمه جعلته من كبار الأثرياء ولمَّا يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره، .
    وهنا ينبغي أن نقف قليلاً.
    إن الربا الذي هو عماد الرأسمالية ولب نظامها ليلازم اليهودي ملازمة الظل لأصله، وقد تكون الكنيسة على حق حينما اعتقدت أن كل المرابين يهود كما سلف قريباً واليهود لا يأكلون الربا ويحتكرون ضروريات الناس بدافع شهوة الذهب - التي يشترك معهم فيها سائر البشر - فحسب، لكنهم يفعلون ذلك باعتباره واجباً دينياً يفرضه عليهم كتابهم المقدس التلمود! ضمن تعاليمه الصارمة تجاه الأميين.
    من هذا المنطلق كانوا يتعاطون الربا الفاحش المشروط بأقسى الرهون كما في تاجر البندقية إلا أن دورهم ظل محدوداً حتى قامت الثورتان العلمية والفرنسية مع حركة الإصلاح الديني، وابتدأ العصر الصناعي يمد ظله على القارة الأوروبية، عندئذٍ انتهز اليهود مرحلة التحول الاجتماعي والاقتصادي ليخرجوا من "الجيتو" ويحطموا الكنيسة والإقطاع:
    الكنيسة لأنها عدوهم اللدود دينياً وكذلك اقتصادياً بسبب موقفها من الربا، والإقطاع لأن الملاك الإقطاعيين يستأثرون بحظ الأسد من الثروة، لذلك كانوا محط حقد ومقت النفسية اليهودية الشرهة.
    كما أن تحطيم المجتمع وتدمير بنيانه خطوة أولى نحو تحقيق هدفهم النهائي (استحمار البشرية) هذا التحول منحهم فرصة القيام بدور المنافس القوي للملاك الإقطاعيين، وذلك أن العهد الصناعي ابتدأ والمال محصور في يد طائفتين اثنتين هما:
    الأولى: الملاك الإقطاعيون سواء أكانوا من رجال الكنيسة أم من غيرهم.
    والأخرى: المرابون اليهود.
    والصناعة تحتاج - بالدرجة الأولى - إلى الثروة لإدارة المشروعات الصناعية وتنميتها ثم يد عاملة لتنفيذها، فأما اليد العاملة فقد كان للمذهب الطبيعي -السابق الذكر- الفضل في توفيرها بتركيزه على حرية العمل بحسبانها حقاً من حقوق الإنسان الطبيعية، وأما المال فكان على رواد الصناعة أن يستقرضوه من إحدى الطائفتين، وفعلاً مد هؤلاء أيديهم إليها يلتمسون ذلك.
    وكانت النتيجة أن أحجم الملاك الإقطاعيون عن إقراض وتمويل المشروعات الصناعية بسبب ظاهر، وهو أنهم بمد يد العون لها إنما يسهمون في هدم مركزهم المالي والمجتمع بإيجاد منافس قوي لهم، إذ أن نمو المصنع سيكون على حساب الأرض، ومن ناحية أخرى كانت الصناعة لا تزال في مهدها، وليس من المؤكد أن يتحقق ما يتوخى منها، وهم ليسوا مستعدين للمغامرة في أمر مشكوك في عواقبه.
    أما الفئة الأخرى اليهود فقد اندفعت لتمويل الصناعة، ولم تر في ذلك شيئاً من المخاوف، وليس ذلك تكرماً من عبيد الذهب ولا هو قصر نظر منهم، بل لأنهم كانوا واثقين من النتيجة، فهم - أولاً - يريدون أن ينفثوا حقدهم على المجتمع الإقطاعي الزراعي - الذي يذلهم ويحتقرهم - بتهيئة المناخ لطبقة جديدة تتولى قيادته، وتكون تحت رحمتهم وإشرافهم.
    وهم -ثانياً- مطمئنون إلى نتيجة قروضهم، فهي مكفولة بالرهون الثقيلة إلى جانب الأرباح الفاحشة.
    هذا مع العلم أن بعض أرباب المصانع كانوا يهوداً بأنفسهم، ومنهم ريكاردو، وهكذا سقطت الصناعة تلقائياً في قبضة الذهب اليهودي، وظل الزمن يزيدها استحكاماً حتى وصلت سيطرتهم الاقتصادية على العالم الصناعي إلى الحال التي لا يجهلها أحد اليوم).
    والآن لنعد إلى ريكاردو:
    لقد خدم سميث اليهود بنزعه القيمة الاقتصادية الكبرى من الأرض إلى العمل؛ لكن ذلك لم يقض على نفوذ الملاك الزراعيين، فكان الأمر يستدعي نظرية علمية تدفع العجلة إلى الأمام بسرعة أكبر، وكان الناس آنذاك مستعدين لتصديق كل ما هو علمي مبهورين به إلى أبعد حد.
    وجاءت هذه النظرية على يد اليهودي ريكاردو:
    يرى ريكاردو أن مسئولية التفاوت المجتمع والأزمات الاقتصادية تنصب على ما أسماه الريع، وليس على الربح.
    والريع هو المكسب الذي يحصل عليه مالك الأرض، أما الربح فهو مكسب الصناعي الرأسمالي، ويعلل ذلك معتمداً على نظرية سميث في إعطاء القيمة للعمل، بأن الريع ليس ثمناً للعمل ولكنه ناتج عن امتلاك مورد طبيعي للثروة.
    وتمشياً مع قانون الأجور الحديدي الذي اقتبسه عن مالتس يرى ريكاردو أنه: حين يتقاضى الملاك أثمامناً أعلى لوسائل العيش فهم لا يستغلون العامل ولكنهم يستغلون صاحب العمل الذي يضطر إلى أداء أجور عالية لعماله، بينما هو لا يستطيع أن يرفع من أثمان منتجاته، لأنها تتحدد في سوق قوامها التنافس.
    ويذهب ريكاردو إلى أنه نتيجة لذلك فإن الريع في جوهره عدوان على الربح، وتميل الأرباح في الأجل الطويل إلى الهبوط حتى تصل درجة الصفر، بينما يستولى ملاك الأراضي على الفائض الاقتصادي.
    وكانت أولى نظريته أن أقنع الرأسماليون الحكومة الإنجليزية بإلغاء القوانين التي سنتها للغلال، وأفسحت المجال لاستيراد الغلال من الخارج، فهبطت أرباح الملاك الزراعيين وكسدت سوقهم، وفي الوقت نفسه انخفضت تكاليف الصناعة كثيراً، واتخذ الرأسماليون من انخفاض سعر الغلال ذريعة لتخفيض أجور العمال، وبذلك ضربوا عصفورين بحجر واحد، ووطدوا مركزهم على حساب المجتمع، فنتج عن ذلك أزمات خانقة ذهب ضحيتها جموع غفيرة من العاطلين والمعدمين.
    ومن ناحية أخرى تمادى ريكاردو فطالب بتأميم الأراضي أو فرض الضرائب الباهظة عليها، ومن هنا سقط في خطأ غير مقصود، إذ أنه نبه الاشتراكيين الأوائل إلى هذه الفكرة مما جعل نتيجتها تكون على عكس رغبة الرأسماليين ورغبة ريكاردو.
    الأثر العام للمذهب الكلاسيكي:
    هرب الطبيعيون من إله الكنيسة والتجئوا إلى (الطبيعة) يلتمسون الحق والعدل في قوانينها الأبدية، وأخيراً اكتشفوا أنهم كانوا يتعلقون بالوهم، إذ أن هذا الإله الأخرس الأعمى يستطيع كلٌ أن يقول باسمه ما يشاء ولا حرج.
    وبدأ الكلاسيكيون من حيث انتهى أولئك، وأخذوا ينقبون عن معايير ذاتية مصلحية قالوا أول الأمر: إنها تساير قانون الطبيعة، ثم تنوسيت هذه العبارة، وأصبحت المنفعة المادية ذاتها هي القانون والهدف، وإذا كان لابد من وضع شعار للسياسة الاقتصادية لديهم فهو تحقيق أكبر ربح بأية وسيلة، أي: أنها كانت مكيافيللية اقتصادية بالفعل.
    ومنذ ذلك الحين جرد الاقتصاد تجريداً كاملاً واعياً من أي مؤثر أو صبغة دينية بل أخلاقية، ورسمت له دائرة مستقلة تستقي أحكامها ومناهجها النظرية والعملية من مصادر ذاتية خاصة، واختفت من موازين الاقتصاد ومباحثه كل كلمة من كلمات الحق والعدل المجردين فضلاً عن الحلال والحرام، وأصبح الباحثون يختلفون حول قضية من قضايا الاقتصاد، وتتضاد آراؤهم نفياً وإثباتاً في حدود الدائرة الاقتصادية المحصورة، ولو فرض أن أحداً دعم رأيه بأن هذا التصرف أو ذاك يحرمه الدين، فإن موجة من السخرية والاستهجان ستغمره، وسيجد نفسه في موقف رجعي للغاية، ذلك أن الجاهلية الغربية قد اقتنعت تماماً بأن الدين -إن كان- شيء شخصي لا علاقة له بشئون الحياة إطلاقاً.
    وهنا نلتمس الحقيقة الواحدة المتكررة، وهي أن الجاهلية الأوروبية ترفض رفضاً باتاً أن تتلقى عن الله أي شرع، وتصر على عبادة طواغيتها المتألهين مهما أذاقوها من ألوان النكال.
    وتلك هي بداية الانحراف وأساسه، وما لم تقتنع أوروبا بتعديل موقفها هذا، فإن التباحث معها في الفرعيات والجزئيات عبث لا طائل تحته.
    وعلى أية حال فإن المذهب الكلاسيكي بتبنيه لشعار: تحقيق أكبر ربح بأية وسيلة قد أنتج مشكلتين خطرتين للغاية:
    1-قيام اقتصاد عالمي يجعل الربا والاحتكار اللذين حرمتهما الشرائع قاطبة عموده الفقري وموضوعه الرئيسي، مما ينذر بكارثة محققة على البشرية، وقد ظهرت -فعلاً- أعراض الكارثة وعواقبها الوخيمة جلية فيما بعد عندما قبض المرابون على ناصية الدول، وسخروا سياساتها وخططها لخدمة مآربهم الخاصة.
    2-وضع الشعوب التي طبق عليها المذهب على حافة هاوية من الجوع والبطالة والأزمات الخانقة في عصر لم يكن للفقراء فيه أي تنظيم أو مقدرة على الضغط للمطالبة بحقوقهم، وهذه في الواقع مشكلة نشأت نتيجة حتمية للمشكلة الأولى.
    ولنضرب مثالاً لذلك بالدولتين الغنيتين في القرن الماضي إنجلترا وأمريكا: ففي إنجلترا -أسبق الدول إلى الثورة الصناعية- وصل عامة الناس والعمال منهم خاصة إلى درجة من البؤس والفاقة والتسخير لا تكاد تصدق.
    كان النساء والأطفال يعملون في مناجم الفحم، ويجرون العربات في دهاليز ضيقة تحت الأرض مدة (16) ساعة يومياً نظير أجور زهيدة، وكذلك كانت معامل النسيج والمصانع الأخرى تسخرهم بالعمل المرهق في أماكن غير صحية ولا تعطيهم إلا الكفاف من الرزق. وكل البحوث التي تناولت موضوع الثورة الصناعية كشفت هذه الحقيقة، بل إن أثرها ليبدو في الأدب الإنجليزي، إذ نجد ديكنز كبير الروائيين الإنجليز يتعرض لحال الملاجئ والفقراء في رواية أوليفر تويست، ويجعل موضوع روايته الأخرى أوقات عصيبة هو مشكلة النزاع بين أصحاب المصانع والعمال والأضرار الاجتماعية الناجمة عن الثورة الصناعية.
    فإذا انتقلنا إلى أمريكا رأينا أيضاً حالة مزرية تحدث عنها أحد من يسمون المصلحين قائلاً : ''إننا جميعاً في الشمال والجنوب نعمل في تجارة الرقيق الأبيض، وبقدر نجاح الشخص فيها يزداد احترامه، وهذه التجارة أشد قسوة من تجارة الرقيق الأسود؛ لأنها تفرض مزيداً من العمل على عبيدها، في الوقت الذي لا تحميهم فيه ولا تسوسهم برفق تفاخر بأنها تفرض المزيد.
    نعم إنه (العامل) بعد انتهاء عمل اليوم يصبح حراً إلا أنه يظل يرزح تحت عبء العناية بعائلته وبيته مما يجعل حريته سخرية جوفاء باطلة، في حين يبقى رب العمل حراً -بالفعل- ويستطيع أن يتمتع بالأرباح التي جناها من عمل الآخرين دون اهتمام بمصلحتهم ورفاههم، ولا عجب من أن يفضل الناس العبودية البيضاء -أي عبودية رأس المال- على عبودية الزنوج، طالما أنها تدر ربحاً أكثر وتحررهم من جميع المسئوليات والأعمال التي يقوم بها مالكو العبيد الزنوج.
    وهكذا دفعت الجاهلية الغربية الثمن غالياً، وانتقلت إلى عبادة طاغوت جديد لا يقل بشاعة وإذلالاً عن طاغوت الإقطاع.
    واقتضت سنة الله ألا تدوم فرحة الرأسماليين طويلاً، فقد كانت تصرفاتهم الجشعة، واستغلالهم الشره تضرم الحقد في القلوب، وتؤجج نار العداوة ضدهم، وانبعثت الشرارة الأولى على يد المفكرين الجماعيين، وبلغت ذروتها في الضغينة الماركسية.
    3-المذهب الاقتصادي الشيوعي:
    مقدمة عن مصادر الفكر الشيوعي:
    في مقابل التطرف الذي اتخذه الطبيعيون والرأسماليون الكلاسيكيون نحو الفردية، تطرف طائفة أخرى، فاتجهت اتجاهاً جماعياً لا يقيم للفرد وزناً إلا من جهة كونه مسماراً في الآلة الاجتماعية.
    والتاريخ يروي أن الفكر الجماعي قديم في أصله، وأن عصر التنوير ينحصر جهده في بعثه من جديد، كما أن الشيوعية قد طبقت عملياً قبل ماركس وإنجلز بقرون طويلة، فنحن نجد أن جمهورية أفلاطون تشكل نظرية عن أمة تسودها روح جماعية خالصة، يذوب فيها الفرد داخل كيان المجموع، كما نرى في الحركة المزدكية نموذجاً لمجتمع شيوعي تطبيقي.
    والحق أن الجاهلية -كعادتها الدائمة في التذبذب والتطرف- قد عانت ولا تزال مشكلة العلاقة بين الفرد والمجتمع، ولم تهتد إلى حل وسط لها، وأنى لها ذلك؟! ففي أوروبا الحديثة كان الواقع الذي نجم عن تطبيق المذهب الفردي الحر دافعاً لبعض ذوي النوايا الحسنة إلى فكرة تنظيم المجتمع على أساس من عدالة التوزيع سميت لأول مرة: الاشتراكية.
    وترجع نسبة هذه الفكرة إلى عدد من الباحثين وأبرزهم روبرت أوين وسان سيمون وفورييه، وهم طليعة المفكرين الاشتراكيين في الغرب، والشيوعية تسمى اشتراكيتهم الاشتراكية الطوبوية لأنها تميل إلى الخيال، أما اشتراكية (ماركس) فهي الاشتراكية العلمية الوحيدة في التاريخ.
    ومع ذلك فـالشيوعية الماركسية تدين لهم بالفضل، وتقر بأثرهم عليها، يقول أنجلز: ''إن الاشتراكية النظرية لن تنسى قط أنها قامت على أكتاف سان سيمون وفورييه وأوين، ثلاثة رجال رغم كل مفاهيم الخيالية وكل طوبياتهم يقفون بين أعظم المفكرين في كل العصور، والذي تنبأت عبقريتهم بالكثير مما نثبت نحن صحته علمياً''. وذلك هو المصدر الأول من مصادر الفكر الشيوعي.
    والمصدر الثاني هو "الفلسفة المثالية الألمانية" التي أخذت عنها الشيوعية الكثير، لا سيما المبدأ الرئيسي الجدلية الذي ميز المادية الشيوعية عن الماديات الأخرى، يقول إنجلز:
    إن الاشتراكية العلمية الألمانية - وهي الاشتراكية العلمية الوحيدة - التي وجدت على الإطلاق، ما كان يمكن أن توجد دون الفلسفة الألمانية التي سبقتها، وخاصة فلسفة هيجل ''.
    أما المصدر الثالث - وهو المصدر الذي حول الشيوعية من فكرة فلسفية محضة إلى نظرية مصطبغة بالصبغة العلمية - فهو نظرية داروين.
    فعندما قال ماركس: إن الظواهر الاقتصادية يمكن ملاحظتها، وتسجيلها بنفس الدقة التي تسجل بها العلوم الطبيعية فإنما كان يشير إلى هذه الحقيقة.
    وذلك ما أوضحه إنجلز بقوله: كما إن داروين اكتشف قانون التطور في تاريخ الإنسان الطبيعي، فكذلك اكتشف ماركس قانون التطور في تاريخ البشرية.
    ويعلق داونز على ذلك قائلاً: ''كانت الطريقة العلمية التي أشار إليها ماركس في أبحاثه عاملاً في تقبل الجمهور لآرائه، إذ كانت تسيطر على أذهان الناس نظرية التطور في القرن التاسع عشر بدرجة اعتقدوا معها إمكان تطبيقها على كل مظاهر الحياة، فلما ربط ماركس نظريته التاريخية في تنازع البقاء بين الطبقات وبين نظريات داروين في التطور، ضمن لها الاحترام العلمي الذي أبعدها عن الطعن والتشكك'' .
    وهكذا يظهر أن المذهب الشيوعي تصور شامل للوجود وحركة التاريخ، ملفق من أشتات فكرية منوعة:
    فالإطار الفلسفي مأخوذ عن الهيجلية بعد قلبها رأساً على عقب.
    والمنهج التطبيقي منقول عن الداروينية مع إضافة إيحاءات فلسفية خاصة، ونظرية القيمة وفكرة التأميم منقولتان عن ريكاردو، كما أنها استوحت من سان سيمون ومالتس بعض النظريات المتعلقة بالملكية والعمل، أما الإلحاد فمأخوذ من فيورباخ ودولباخ والماديين الميكانيكيين عموماً.
    والغريب حقاً هو أن الشيوعية تلعن هؤلاء جميعاً - كما قال رسل - وتتبرأ من أفكارهم الرجعية البورجوازية.
    والحق أن هناك مصدراً مهماً للشيوعية قل من يشير إليه، وهو التراث اليهودي والنفسية اليهودية ذاتها، وهو ما يتجلى في العبودية الخانعة للمال والتأليه الأحمق للمادة، وكذلك في الحقد المضطرم على البشرية وكل قيمها وتراثها ومقدساتها.
    ومما يجدر التنبيه إليه أن الشيوعية - فكرة وحركة - لم تكن لتحظى بالقبول مع تطرفها إزاء الأديان والخلق ومصادمتها للفطرة، لولا الجو الأوروبي المشحون بالضيق والتبرم من الكنيسة والطائفة الكهنوتية العليا، تلك التي أضافت إلى الطغيان والتحكم وقوفاً مستمراً مع الاستغلاليين والمحتكرين ضد البائسين، ومع الخرافات والأساطير ضد العلم والرقي المادي، واستطاعت الشيوعية استغلال الغضبة الهائجة والنفاذ إلى عقول السذج، فوجهت العداوة العارمة على الكنيسة إلى ثورة هوجاء على الدين ذاته.
    إن دراسة الاقتصاد الشيوعي بمعزل عن الفلسفة الشيوعية في إطارها العام ليس إخلالاً بالموضوعية العملية فحسب، بل هو ضرب من إضاعة الجهد فيما لا طائل تحته، لا سيما إذا كان الهدف من الدراسة إيضاح نوع علاقة هذا الاقتصاد بالدين.
    والواقع أن مؤلفات الإلحاد الشيوعي هي كتب اقتصادية شيوعية، كما أن الكتب الاقتصادية الشيوعية هي كتب إلحاد بالدرجة الأولى، بحيث لا يمكن الفصل بينهما، ولذلك كان لابد من عرض المذهب الاقتصادي للشيوعية ممزوجاً بفلسفتها العامة.
    وتبدأ نظرة الشيوعية إلى الدين في التميز عن سواها من أول نقطة على الطريق من الإلحاد ذاته، فـالشيوعية تصر على أن لها إلحادها الخاص، وهو في نظرها إلحاد إيجابي يقول غارودي : ''أما الإلحاد الماركسي فهو في جوهره إنسي (أي إنساني النزعة)، منطلقه ليس رفضاً، بل هو تأكيد استقلال الإنسان، أما نتيجته فهي رفض كل محاولة لحرمان الإنسان من قدرته المبدعة والمبدعة لذاتهاً'' .
    ثم يقول في تفصيل ذلك: ''إن ما يميز الإلحاد الماركسي البحت هو أنه على خلاف سابقيه، لم يكتف باعتبار الدين خديعة فحسب اصطنعها المستبدون، أو مجرد وهم ولده الجهل، بل إن ماركس وإنجلز قد بحثا عن الحاجات الإنسانية التي تلبيها الأديان بهذه الصورة المخادعة، فوصلا -كما يقول ماركس- إلى أن الأديان هي في وقت واحد: انعكاس لشقاء فعلي واحتجاج على هذا الشقاء.
    هذه الحقيقة التاريخية (أن الدين انعكاس لشقاء فعلي) هي التي يلخصها ماركس في تعبير مقتضب "الدين أفيون الشعوب"
    وجرياً مع المادية الجدلية وتطبيقاً للتفسير الاقتصادي للتاريخ حول علاقة الفكر بالوجود ترى الشيوعية أن الفكر البشري انعكاس للواقع المادي، فالمادة هي الأساس الوحيد وعنها ينبثق الفكر وتنبثق المشاعر والأحاسيس، ومن هذه المشاعر الدين نفسه.
    أي أن وجود الناس هو الذي يحدد مشاعرهم وليس العكس.
    وعند تفسير الدين على هذا الأساس يقول إنجلز: ''من الأزمنة الموغلة في القدم إذ وصل الفكر بالناس وهم بعد في جهل تام ببنياتهم الجسدية الخاصة وتحت تأثير أحلامهم - إلى القول بأن أفكارهم وأحاسيسهم ليست من فعل أجسادهم ذاتها، بل من فعل روح خاصة تسكن هذا الجسد وتفارقه لحظة الموت، منذ ذلك الحين اضطروا لأن يصطنعوا لأنفسهم أفكاراً عن علاقات هذه الروح مع العالم الخارجي.
    وعلى هذا النحو تماماً - عن طريق تشخيص القوى الطبيعية - ولدت الآلهة الأولى التي اتخذت خلال التطور اللاحق شكلاً غير أرضي أكثر فأكثر، إلى أن حدث أخيراً عملية تجريد... فنشأ على نحو طبيعي خلال التطور العقلي، أن تولدت في عقل الناس -من الآلهة المتعددين ذوي السلطة الضعيفة والمقيدة بعضهم حيال بعض- فكرة الإله الواحد المنفرد في الديانات التوحيدية'' .
    ومع ذلك يستنتج إنجلز أن المطالب الجسدية هي منشأ الاعتقادات الفكرية، وأن الدين ما هو إلا الانعكاس الخيالي للأشياء البشرية في دماغ الإنسان، وما دام أن الوضع الاقتصادي هو الذي يفسر ويحدد المطالب الجسدية فإن النتيجة هي أن الدين ناشئ عن الأوضاع الاقتصادية، ولا ينبغي أن يفسر إلا على ذلك: ''أما المجالات الأيدلوجية التي تحوم أعلى في الفضاء كالدين والفلسفة... إلخ فإنها مؤلفة من بقية تعود إلى ما قبل التاريخ وقد وجدها العهد التاريخي أمامه فالتقطها لما قد نسميه اليوم غباءً.
    إن هذه التصورات المختلفة الخاطئة عن الطبيعة وعن تكون الإنسان ذاته، وعن الأرواح وعن القوى السحرية وهلم جرا، ليس لها في الأغلب غير أساس اقتصادي سلبي، فالتطور الاقتصادي الضعيف لعهد ما قبل التاريخ تكون فيه... تصورات خاطئة عن الطبيعة'' .
    إذن فالاقتصاد - أو البحث عن الطعام والشراب - هو منبع كل عقيدة وتصور وأساس كل مبدأ وقيمة؛ بل إن الشيوعية لتطبق ذلك على كل معنى وسلوك إنساني: على العلم والحرب.. على المشاعر والفنون.. على العلاقات المجتمعة.. على كل شئ، فالعلم -مثلاً- ليس أصله الرغبة الفطرية في اكتشاف الحقيقة، فليس في قاموس الشيوعية شيء اسمه الفطرة، ولكنه كما قال إنجلز: ''إذا كانت العلوم قد نهضت فجأة بعد ليل القرون الوسطى المظلم بقوة لا ريب فيها، ونمت بسرعة المعجزة، فإننا مدينون بهذه المعجزة الجديدة للإنتاج'' .
    وعن الحروب تقول الشيوعية: ''إن ما يسمى بالحروب الدينية... كانت تتضمن مصالح طبقية مادية إيجابية، فقد كانت هذه الحروب حروباً طبقية تماماً.. ورغم أن الصراعات الطبقية كانت عندئذٍ مغلفة بشعارات دينية، ورغم أن مصالح وحاجات ومطالب مختلف الطبقات كانت مختفية خلف ستار ديني فلم يبدل هذا شيئاً من الأمر، ويمكن تفسيره ببساطة من واقع ظروف تلك الأيام''.
    وتقول عن الأخلاق: ''إن الناس عن وعي أو لا وعي يستمدون مفاهيمهم الأخلاقية - في التحليل الأخير - من العلاقات العملية التي يقوم عليها وضعهم الطبقي، أي من العلاقات الاقتصادية التي ينتجون بها ويتبادلون فيها'' .
    وليس أغرب من هذه الأفكار إلا قول إنجلز: إن العمل هو الذي خلق الإنسان، وليس الإله كما يقول الرجعيون من البورجوازيين والإقطاعيين، وحتى لا نحسن الظن فنحمل كلامه على المجاز، فقد شرح هذه العبارة شرحاً وافياً - نرى فيه إلى جانب الاستنباط العجيب الاستمداد الساذج من الداروينية - يقول: ''منذ مئات عدة من ألوف السنين... كان يعيش في مكان ما من الدائرة الاستوائية... عرق من القردة الشبيهة بالبشر بلغت تطوراً رفيعاً بوجه خاص، وقد أعطانا داروين وصفاً تقريباً لهذه القردة التي قد تكون أسلافنا.
    وقد أخذت هذه القردة متأثرة بالدرجة الأولى دون شك بنمط معيشتها الذي يتطلب أن تنجز الأيدي من أجل التسلق غير وظائف الأرجل- أخذت تفقد عادة الاستعانة بأيديها من أجل السير على الأرض، واتخذت أكثر فأكثر مشية عمودية، وهكذا تم اجتياز الخطوة الحاسمة لانتقال القرد إلى إنسان'' .
    وإذا كان الاقتصاد بهذه المثابة، فلماذا اعتقد الناس أن شيئاً آخر غيره هو الذي يسير التاريخ وينشئ الأفكار؟ وكيف غابت هذه الحقيقة عنهم حتى أظهرها فلاسفة الشيوعية؟ يجيب الشيوعيون عن ذلك بسهولة قائلين: لا غرابة في ذلك فإن الإنسان أصله قرد، وظل يجهل هذه الحقيقة ظاناً أن العناية الإلهية هي التي خلقته حتى عرف ذلك أخيراً.
    ويعبر إنجلز عن ذلك قائلاً: ''ينسى الناس أن الظروف الاقتصادية لحياتهم هي منشأ الحقوق التي لديهم، مثلما أنهم نسوا أنهم قد نسلوا من عالم الحيوان'' .
    وانطلاقاً من تأليه الاقتصاد على هذا النحو، وانطلاقاً من اعتبار تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام، ومن الانتكاس بالإنسان وجعل معدته هي العليا وروحه وعقله السفلي - جاء التفسير الاقتصادي للتاريخ، وهو تفسير يقوم على مبادئ نظرية أهمها:
    1- حتمية الصراع بين المتناقضات: وذلك يعني بالنسبة للمجتمع البشري الصراع بين الطبقات، وبين المصالح المادية المتعارضة، وهو صراع حامٍ لا يهدأ على الإطلاق، وسببه الوحيد البحث عن الطعام وامتلاك وسائل الإنتاج، وقد آمن فلاسفة الشيوعية بحتمية الصراع هذه تطبيقاً للفلسفة الجدلية المثالية لـهيجل على الواقع المادي.
    وملخص هذه الفلسفة أن كل شيء يحمل معه نقيضه المضاد له، وبالصراع بين النقيضين يتولد جامع بينهما أقوى منهما، ثم لا يلبث هذا الجامع أن يدخل -بعد أن يصبح قوة ثالثة- في صراع مع نقيضه الذي يحمله معه، وهكذا دواليك.
    2- في أثناء البحث عن الطعام: على مدار التاريخ، انقسم تاريخ البشرية خمس مراحل كبرى اقتبستها الشيوعية من موريس مورجان وهي:
    1- الشيوعية الأولى البدائية.
    2-الرق (العبودية).
    3-الإقطاع.
    4- الرأسمالية.
    5- الشيوعية الثانية والأخيرة.
    3- الانتقال من مرحلة إلى أخرى سببه الدائم اكتشاف مادي، نشأ عن تحول جديد في وسائل الإنتاج؛ فاكتشاف الزراعة -مثلاً- نقل البشرية من المرحلة الأولى إلى مرحلة الرق، واكتشاف المحراث نقل المجتمع البشري من الرق إلى الإقطاع، واكتشاف الآلة كان الناقل من الإقطاع إلى الرأسمالية.
    4-الانتقال من مرحلة إلى مرحلة حتمي لا إرادة لإنسان فيه: إن المبادئ الثلاثة السابقة نظرية بحتة، أما هذا المبدأ وما بعده فتطبيقية، ومن هنا كان اهتمام الشيوعية بهما ودفاعها عنهما.
    وهذا المبدأ (الحتمية) شرحه إنجلز في كتاب لودفيغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية، .
    وذكر كيف أن الشيوعية تعمدت معاكسة هيجل في دعوى أن أفكار الناس هي التي تنشئ واقعهم -أي: أن الإرادة البشرية هي التي تغير الواقع الحيوي- وأوضح إنجلز أن سبب القطيعة بينهم وبين هيجل والمثاليين هي ما أسماه الثلاثة الاكتشافات عن الطبيعة:
    1- اكتشاف الخلية كوحدة تتطور بدءاً منها العضوية النباتية والحيوانية كلها عن طريق التكاثر والتباين.
    2-اكتشاف تحول الطاقة، الذي بين لنا أن كل ما يسمى بالقوى الفاعلة بالدرجة الأولى في الطبيعة غير العضوية، إنما هي جميعاً تجليات مختلفة للحركة الشاملة المتنقلة من الواحدة إلى الأخرى وفق بعض النسب الكمية.
    3-البرهنة الإجمالية التي تحققت للمرة الأولى على يد داروين، والقائلة: إن جميع العضويات الطبيعية المحيطة بنا الآن -ومنها الناس- إنما هي نتاج عملية تطور طويلة.
    وواضح أن الجبرية الشيوعية منقولة بحذافيرها عن الداروينية كما أسلفنا فالإنسان -في الداروينية- خضع دون وعي منه ولا إرادة لعملية التطور البطيئة الطويلة التي قذفت به إلى وضعه الراهن دون أن يكون له يد في ذلك.
    5- الانتقال من مرحلة إلى مرحلة يصحبه تغير حتمي في الأفكار والمعتقدات والسلوك:
    هذا المبدأ من أخطر المبادئ الفلسفية الشيوعية، وهو مبني أساساً على فكرة التطور المطلق التي أوحت بها الداروينية كما سبق، وتطبيقاً لهذا المبدأ ترى الشيوعية أن لكل طور تاريخي دينه وأخلاقه وتقاليده وعلاقاته المنبثقة من وضعه الاقتصادي، فإذا ما انتقل إلى طور آخر تغير كل ذلك تغيراً حتمياً تبعاً لتغير الطور الاقتصادي.
    يقول إنجلز: ''منذ اللحظة التي تطورت فيها الملكية الخاصة للأشياء المنقولة كان لابد لجميع المجتمعات التي تسود فيها هذه الملكية الخاصة أن يكون فيها هذه الوصية الأخلاقية المشتركة: لا تسرق! فهل يعني أن تصبح هذه الوصية وصية أخلاقية سرمدية؟ كلا، أبداً، ففي مجتمع أزيلت منه دوافع السرقة حيث السرقات، وبالتالي لا يمكن أن يرتكبها مع مرور الزمن غير مجانين، كم سيضحك الناس من الواعظ الأخلاقي الذي يود أن يعلن على رءوس الأشهاد الحقيقة السرمدية: لا تسرق'' .
    ولهذا فإننا نرفض بكل اطمئنان بأن تفرض علينا أية عقائدية أخلاقية كقانون سرمدي نهائي لا يتزعزع بعد اليوم؛ بذريعة أن لعالم الأخلاق هو أيضاً مبادئه الدائمة التي هي فوق التاريخ والفوارق القومية.
    فنحن نؤكد -بالعكس- أن كل نظرية في الأخلاق حتى اليوم إنما كانت في التحليل الأخير نتاج الوضع الاقتصادي للمجتمع في أيامها، كما أن المجتمع قد تطور -حتى اليوم- ضمن تعارضات طبقية فقد كانت الأخلاق على الدوام أخلاقاً طبقية: إما أنها كانت تبرر سيطرة ومصالح الطبقة السائدة، وإما أنها كانت منذ أن تصبح الطبقة المضطهدة على جانب من القوة، تمثل الثورة على هذه السيطرة ومصالح المستقبل للمضطهدين.
    ويقول ماركس:
    ( ترتبط العلاقات الاجتماعية وتتعلق بالقوى الإنتاجية ولدى تحقيقنا لقوى إنتاجية جديدة يغير الناس نوع الإنتاج، وعند تغييرهم لنوع إنتاجهم، وعند تغيير طريقة كسبهم لمعيشتهم؛ فإنهم يغيرون كل العلاقات الاجتماعية.
    وبناء على ذلك يعتقد الشيوعيون أن هناك أخلاقاً وتقاليد زراعية إقطاعية، وأخرى برجوازية، وثالثة شيوعية، تختلف كل منها عن الأخرى، وأن الدين وليد البيئة الزراعية وجزء من غيبيتها، كما أن الإلحاد هو سمة البيئة الصناعية وعقيدتها، ومثل الدين الأسرة والعرض بصفة خاصة، وليس أكثر رجعية من إنسان يعيش في المجتمع الصناعي بدين وأخلاق المجتمع الزراعي، فمثل هذا الإنسان جدير بأن تلصق به الشيوعية أقذع النعوت وأمَر الهجاء، بل ستسحقه الحتمية القاهرة ).
    هذا على الصعيد الفلسفي، أما على الصعيد التطبيقي، فإن الشيوعية تحصر الشرور كلها - منذ بدء الخليقة إلى الآن - في علة واحدة هي الملكية الفردية، ولذلك فإنهم يؤمنون إيماناً أعمى بأن القضاء على الملكية الفردية، وقبض الدولة على وسائل الإنتاج كفيل بتحقيق الجنة الأرضية، وإزالة كل الشرور والمساوئ التي يعج بها التاريخ، ولا تستثني الشيوعية من ذلك شيئاً حتى المرأة فإن الشيوعية الجنسية والإباحية المطلقة هدف صريح من أهداف الثورات الشيوعية في كل مكان، فالزواج ينتج الأسرة، والأسرة في نظرهم أعدى أعداء المجتمع اللاطبقي، لأنها تحتم على المرء أن يتملك ويدخر، والملكية الفردية تقليد إقطاعي استغلالي، إن لم يتم القضاء عليه انتكس المجتمع إلى طور تاريخي أدنى!
    خاتمة حول وضع الدين في المجتمع الشيوعي:
    أصبح جلياً بعد العرض الموجز للمذهب الشيوعي أن نعرف موقف الشيوعية من الدين بوضوح:
    فهي مبدأ ينكر - دون تحفظ - أن يكون لهذا الكون إله، وعبارة (لا إله والحياة مادة) ليست شعاراً مجرداً، بل مادة دستورية في قانون الاتحاد السوفييتي.
    والدين في نظرها أوهام وخيالات انعكست عن الوضع الاقتصادي، أو وضعها المحتكرون من الطبقات العليا ليخدروا الكادحين المنكوبين، فيستأثروا بكل شئ في الدنيا، ويعدوهم بالعوض في الآخرة، ومن هنا وجبت عليهم محاربته والنضال في سبيل القضاء عليه لتحرير المجتمع من الاستغلال والتحكم الطبقي!
    ثم هو فوق ذلك ليس أمراً فطرياً في الإنسان منذ وجد وإلى أن تنتهي الدنيا، بل هو أمر عرضي في التاريخ جاء لتلبية رغبة فئة من الناس في مرحلة من مراحل التطور التاريخي للبشرية، وهي مرحلة جاوزتها البشرية ابتداءً من اكتشاف الآلة، فمحاولة التمسك به بعد ذلك انتكاس وعبث يثير الازدراء والاشمئزاز.
    أما الأسرة والزواج والأخلاق والفضيلة... فهي كلها هراء برجوازي! كما أن الحق والعدل الأبديين كلام فارغ، ولا وجود لشيء من ذلك إلا في مخيلة المثاليين وأوهامهم.
    والدول الشيوعية تتبنى رسمياً محاربة الدين، وتدرس الإلحاد والمادية كما يدرس المؤمنون دينهم، وتبذل كل وسائل التنفير الدعائي والاضطهاد المباشر لاستئصال جذور الدين من مجتمعاتها، واجتثاث ما بقى لديها من رواسب الخلق والفضيلة.
    ويرى الشيوعيون أن الإنسان الذي يسهم في هدم الأوهام الإقطاعية، ويبث الوعي الإلحادي في صفوف الطبقة الكادحة هو إنسان مناضل شريف، يعمل لتطوير بلاده وتنوير شعبها، وعلى العكس من ذلك أي داعية أخلاقي أو مصلح اجتماعي فهو حجر عثرة في سبيل الرقي وأداة للإمبريالية العالمية، وعميل للبرجوازيين والرجعيين، بل إن كل من يخالف سياسة الحزب الشيوعي ولو مخالفة سلبية بطريقة الصمت هو عدو للطبقة الكادحة وعميل للقوى الاستغلالية؛ فإذا شم من صمته رائحة الإيمان بدين ما فقد عرض نفسه لعقوبة أدناها العمل سخرة في المعسكرات التأديبية مدة كافية لإذابة كل الأفكار الرجعية من دماغه.
    والنظرية الشيوعية دين رسمي متعصب لا يقبل الجدل ولا يسمح بالمنافسة، وكل شئ في الدولة الشيوعية لابد أن ينبثق من العقيدة الماركسية ويتمشى معها، فالعلم يجب تسخيره لتثبيت الفكر المادي والمناداة بأزلية الكون ومادية الحياة، والأدب والفن لابد أن يلتزما بما سمي الواقعية الاشتراكية، ووسائل الإعلام شغلها الشاغل تمجيد النظرية وإطراء النظام والإطناب في شرح إنجازات الثورة والتشهير بمخالفيها.
    وهكذا في كل شئ تريد الشيوعية أن تفرض نفسها عقيدة ونظام حياة ومصدر تشريع وأساس علم وفكر وفن وأدب، فهي فكرة جاهلية متكاملة تقابل تماماً الدين بمفهومه الحقيقي الشامل، وتريد أن تحل محل العقيدة الدينية في مجالات الحياة ونشاطاتها.
  3. ثالثاً: الواقع المعاصر للجاهلية الحديثة

    كفرت أوروبا بالله وعبدت المادة، وألقت بالزهد المسيحي، وامنت بالشره اليهودي، ورفضت أن تخضع نظمها الاقتصادية لله في أية صورة من الصور، ورضيت بعبادة فلاسفة الاقتصاد، والحكم بماتمليه أهواؤهم، فكان لزاماً عليها أن تدفع ضريبة ذلك من أمنها وطمأنينتها، وأن تنتكس إلى مستوى الحياة البهيمية، وأن يذيقها جلادوها أقسى أنواع النكال وأفظع صنوف التعذيب.
    وما الأمراض المجتمعة المزمنة، والتهالك الأحمق على المادة، والضياع المرعب، والقلق الذي يخيم على الوجوه، إلا أعراض طبيعية لعبادة غير الله والحكم بغير ما أنزل الله؛ لا سيما عبادة المادة وطواغيتها، حيث نسي الإنسان وأظلم قلبه وتبلد إحساسه لحساب المعدة والجسد، وغرق في المتاع الحسي حتى غفل عن حكمة خلقه وسر وجوده ومصيره المحتوم في الدار الآخرة.
    يقول الأستاذ محمد أسد : ''إن الأوروبي العادي سواء عليه أكان ديمقراطياً أم فاشياً رأسمالياً أم بلشفياً صانعاً أم مفكراً يعرف ديناً إيجابياً واحداً هو التعبد للرقي المادي، أي الاعتقاد بأن ليس في الحياة هدف آخر سوى جعل هذه الحياة نفسها أيسر فأيسر أو كما يقول التعبير الدارج: طليقة من ظلم الطبيعة، إن هياكل هذه الديانة إنما هي المصانع العظيمة ودور السينما والمختبرات الكيماوية وباحات الرقص وأماكن توليد الكهرباء، وأمَّا كهنة هذه الديانة فهم الصيارفة والمهندسون وكواكب السينما وقادة الصناعات وأبطال الطيران، وإن النتيجة التي لا مفر منها في هذه الحال هي الكدح لبلوغ القوة والمسرة، وذلك بخلق جماعات متخاصمة مدججة بالسلاح ومصممة على أن يفني بعضها بعضاً حينما تتصادم مصالحها المتقابلة'' .
    أما على الجانب الثقافي، فنتيجة ذلك خلق نوع بشري تنحصر فلسسفته الأخلاقية في مسائل الفائدة العملية، ويكون أسمى فارق لديه بين الخير والشر إنما هو التقدم المادي.
    1-في الغرب الرأسمالي:
    إن كثيراً من المفكرين في الغرب قد راعهم التناحر المادي وسيطرة الآلة على الإنسان، وكان ذلك موضوع جزع شديد عند بعض الأكابر من رجال الفكر، فـجورج برنانوس مثلاً يرى في طغيان ذلك العملاق الميكانيكي الرهيب مؤامرة كونية كبرى على كل حياة داخلية، ثم هذا جول رومان يهوله التباين الشاسع بين ارتفاع منحنى التكنيك، وانخفاض منحنى المؤسسات الاجتماعية مع بقاء الطبيعة البشرية دون هذا وذاك ثابتة على خط بياني واحد، فيبقى واجماً مكفهر الوجه، منقبض النفس أمام معضلة المنحنيات الثلاثة، وآلبر كامو يتحيف به اليأس عندما يدرك ما استولى علينا من كابوس الخوف والهلع، مرده أننا نعيش في عالم لا ينفع فيه الإقناع تجاه أناس وثقوا وثوقاً أعمى بآلاتهم وبآرائهم.
    وعبر بعضهم على ذلك قائلاً: ''ألا ترون إلى النظام الصناعي الحاضر كيف جعل من سواد الكادحين سوائم تسير بفعل الغريزة العمياء بدلاً من أن تكون أناسي من آدم كرمها الله باستعمال الذكاء... ناس كأنعام أصبحوا عبيداً للآلات!؟'' .
    ويقول الفيلسوف جود : ''إذا لم نكن على يقين في شأن من الشئون؛ فإن مذهب الاستمتاع بالحاضر واليقين بزوال الحياة بعده مذهب تتمسك به الأجيال المعاصرة أي تمسك، وهو يرسم لها طريقاً عملياً محدداً في العيش والحياة، ومهما يعني هذا الاتجاه للحكيم المجرب، فإنه يستتبع بالنسبة لشباب هذا العصر الاستخفاف بالنواحي والقيود التي كانت محور الأخلاق ومدارها والخلاص منها في القرن التاسع عشر، وكذلك فقدت النواهي الأخلاقية التقليدية قوتها المألوفة بعد أن زال سندها من سلطان مافوق الطبيعة، وقد كنا نسمع أننا ينبغي لنا عمل الخير لأن الخير يرضى عنه الله، والله تعالى يحب أن يرى عبده صالحاً علىخط من القناعة والاعتدال في حياته، ومادامت ممارسة الفضيلة مقصوداً منها كسب رضى الله، فإن المرء يحار هل الدافع إليها الظفر بنعيم الجنة أو إنه الرغبة في الخلاص من الجحيم المقيم، ولم يعد للطمع بثواب النعيم في الآخرة أو الوعيد بعقابها تلك القوة التي كانت لها قبلاً، فكثير من الناس يستخفون بذلك، وما داموا لا يطمعون بنعيم الجنان وملذاتها فهم ينغمسون في نعيم هذه الدنيا وملذاتهاً'' .
    أما الباحث توني فإنه يتحدث عن التفكك الذي طرأ على الحياة الغربية نتيجة والإيمان بالمادة وإقصاء الدين عن شئون الحياة، ويبين بوضوح التمييز بين المجتمع الوظيفي الذي يعرف فيه كل فرد مكانه وقيمة عمله لصالح المجموعة، وبين المجتمع المتفكك الذي لا يجد فيه سعادة، لا في عمل مضمون ولا في قيمة شخصية ثابتة، ويوضح أن النجاح في المجتمع المتفكك يقاس بالحصول على الثروة أكثر من المسئولية الشخصية أو أي معيار آخر للقيمة الاجتماعية ويقول: ''كانت الثورة الصناعية -برغم أنها كارثة في تأثيراتها كانت القمة المنظورة فقط لأجيال في التغير الأخلاقي الخبيث. ويصف توني التغير الأخلاقي هذا على أنه يحدث خاصة في علاقة -الدين بالتنظيم الاجتماعي في القرن الثامن عشر، لقد تنازل كل من الكنيسة والدولة عن ذلك الجزء في محيطها الذي كان يعمل على إبقاء مجموعة عامة في الأخلاق الاجتماعية'' ويقول: ''كانت الكنيسة أكثر بعداً عن الحياة اليومية للبشر في الدولة، لقد تكاثر حب الإنسانية، ولكن الدين الذي كان قوة اجتماعية عظمى، صار شيئاً خاصاً فردياً، كضيعة صاحب الأرض أو ملابس الشغل للعامل'' .
    وكانت النتيجة التي لا مفر منها هي الشقاء والدمار للفرد والمجتمع، هي المعيشة الضنك التي يصلى سعيرها الغرب المادي.
    يقول أليكسيس دوتوكفيل عن المجتمع الأمريكي -وهو النموذج الرأسمالي البارز-: ''رغم ما شاهدت في أمريكا من حرية وثقافة يتمتع بها الكثيرون في ظروف هي خير ما يمكن أن تقدمه لهم الدنيا، فقد كنت ألمح سحابة من الحزن مخيمة فوق جباههم، حتى ظننت أن التزمت والقلق يلازمانهم في أفراحهم وأتراحهم.
    إن ابن الولايات المتحدة يتعلق بمتاع هذه الدنيا، وكأنه على ثقة من أنه لن يموت أبداً، فهو يتعجل اغتراف كلما يقع في متناول يده، حتى لتحسبنه خائفاً من أنه لن يمتد به العمر حتى يتمتع بها كلها، فهو يمسك كل شيء بقبضة متراخية، ثم لا يلبث أن يتخلى عنه ليلاحق غيره من الغنائم الجديدة.
    ... وثمة شيء قد تعجب منه للوهلة الأولى يبدو في هذا القلق الغريب المسيطر على عدد كبير من هؤلاء الذين يعيشون في سعادة وبحبوحة كبيرة من الثراء، إن هذا المشهد قديم قدم الدنيا، والجديد فيه هو رؤية شعب بأسره يضرب لنا مثلاً على ذلك.
    إن تذوقهم للمسرات الجسدية يجب أن يعتبر المصدر الرئيسي للقلق الخفي، وللتغلب البارزين في أفعال الأمريكيين الذين يقدمون يومياً أمثلة جديدة عنه، فالذي يكرس نفسه لمطاردة الرفاه الدنيوي -عساه يلحق به- يسرع دائماً لضيق الوقت المحدد لبلوغه واكتناهه والتمتع به، إذ أن تذكره الدائم لقصر الحياة وزوالها شوكة ثابتة تخزه دوماً'' .
    وهنا هذا الدكتور ألكسيس كاريل ينحي باللائمة على الذين يظنون أن الاقتصاد هو كل شيء في الحياة، وأن الرخاء والطمأنينة يمكن أن يحصل عليهما المجتمع والفرد بطريق الخطط الاقتصادية وتنمية الموارد والثروات، يقول: ''من حسن الحظ أن حادثاً لم يخطر على بال المهندسين والاقتصاديين والسياسيين قد حدث؛ ذلك أن صرح المالية الأمريكية قد انهار فجأة، وفي بادئ الأمر لم يصدق الجمهور وقوع الكارثة فعلاً ولكن أصغى إلى شروح الاقتصاديين في استسلام مؤملاً في عودة الرخاء إلا أن الرخاء لم يعد، ولهذا بدا أكثر رؤساء القطيع ذكاء يرتابون ويتساءلون هل أسباب الأزمة الاقتصادية مالية فقط؟
    ألا يجب أن نتهم أيضاً فساد وغباء الساسة ورجال المال وجهل وأوهام الاقتصاديين؟! ألم تهبط الحياة العصرية بمستوى ذكاء الشعب كله وأخلاقه؟!
    لماذا يجب أن ندفع ملايين الملايين من الدولارات كل عام لنطارد المجرمين؟!
    لماذا يستمر رجال العصابات في مهاجمة المصارف بنجاح وقتل رجال البوليس واختطاف الناس وارتهانهم أو قتل الأطفال بالرغم من المبالغ الضخمة التي تنفق في مقاومتهم؟!
    لماذا يوجد مثل هذا العدد الكبير من المجانين وضعاف العقول بين القوم المتحضرين؟!
    ألا تتوقف الأزمات العالمية على الفرد والعوامل الاجتماعية الأكثر أهمية من العوامل الاقتصادية؟.''
    لقد فطن الدكتور كاريل إلى أن الأمر أعمق من أن يكون مشكلة اقتصادية؛ ولكنه لم يستطع أن يقع على السر الحقيقي لأزمة الإنسان المعاصر، وهو أنه يعبد غير الله ويحتكم إلى غير شرعه!
    إن الإنسان في الغرب يفاخر بأنه يعيش فيما يسمى العالم الحر؛ وذلك لأنه يرى نفسه أفضل حالاً من زميله الواقع في براثن الشيوعية، لكنه ينسى أنه هو الآخر خاضع لتسخير واستغلال الطبقة الرأسمالية التي تستعبده دون وعي منه، فهو يتخبط في شباكها دوماً، ومع ذلك يحسب أنه حر طليق، وهذه الحقيقة مضى في الفصل السابق ما يؤيدها، وسنورد هنا ما يدعم ذلك مع ملاحظة التلازم الذي سبق أن أشرنا إليه بين السياسة والاقتصاد خاصة.
    يقول ر. م. ماكيفر وزميله: ''إن المجتمع الحديث يتميز بالعديد من المنظمات والمؤسسات الكبيرة والروابط الاقتصادية والسياسية المنشأة على نطاق واسع، التي تقوم جميعاً على تقسيم الوظائف والتخصص، حتى يصبح الفرد وكأنه أحد أسنان عجلة في آلة اجتماعية ضخمة، وتنحصر مهمته في أداء عمله بشكل آلي داخل دائرة تخصصه، فلا تتهيأ له إلا أقل الفرص لإظهار فرديته.
    كذلك ينزعج كثير من الناس لمدى ما تتعرض له مواقف الرجل المتحضر وآراؤه من تشكيل بفعل النمط العام للمجتمع الذي يعيش فيه، وربما كان هناك ما يسوغ هذا الانزعاج عندما نرى في الولايات المتحدة الأمريكية مظاهر تحديد مستويات الحياة الاجتماعية، بتأثير الإعلان والدعاية العريضة والغذاء الرتيب الذي تقدمه برامج محطات الإذاعة، وإنتاج السينما في هوليود، وقد أدت السيطرة على عقول الناس بهذه الكيفية إلى تضييق الحدود التي يعمل في نظامها كل من المنتج والكاتب والعامل والممثل، كما حَدَّت من مال الجماهير وأذواقها بحيث لا تتعدى الحواجز التي أقيمت حولها.
    ويتحدث الدكتور كاريل عن الاستعمار الذي يمارسه الرأسماليون بطريق الدعاية فيقول: ''تتأثر حياتنا بالإعلانات التجارية إلى حد كبير، وهذا اللون من الدعاية يهدف إلى تحقيق مصلحة المعلنين أكثر من مصلحة المستهلكين، مثال ذلك لقد أوهمت الدعاية الجمهور أن الخبز الأبيض أفضل من الخبز الأسمر، وهكذا ينخل الدقيق مرة بعد أخرى ليجرد من عناصره الغذائية النافعة، ومعالجة الدقيق على هذا النحو يجعل في الإمكان الاحتفاظ به فترات أطول، كما يسهل صناعة الخبز، وبذلك يستطيع أصحاب المطاحن والمخابز أن يحصلوا على نقود أكثر بينما يطعم المستهلكون بخبز أردأ، وهم يعتقدون أنه خبز ممتاز، ومن ثم فإن سكان البلاد الذين يتخذون من الخبز غذاءً أساسيا آخذون في الانحطاط والتدهور.
    إن مبالغ ضخمة تنفق في الدعاية، ونتيجة لذلك أصبحت كميات كبيرة من المنتجات الغذائية والطبية لا فائدة منها على الأقل، وغالباً ما تكون ضارة أصبحت هذه المنتجات ضرورية لبني الإنسان المتحضرين، وعلى هذا المنوال فإن شراهة الأفراد الذين وهبوا ذكاء كافياً يمكنهم من خلق تهافت الجمهور على طلب السلع التي لديهم تلعب دوراً رئيسياً في الدنيا العصرية'' .
    وفى العالم الغربي الرأسمالي كُتَّاب تخصصوا في الكتابة عن المستقبل المشئوم الذي ينتظر البشرية على يد الطبقة الطاغوتية المسيطرة من أصحاب رءوس الأموال الضخمة والمستبدين، وتنبأوا بالقبضة الحديدية التي سيمسك بها هؤلاء القطيع البشري عن طريق استخدام التكنولوجيا وأحدث الدراسات النفسية والمجتمعة، حيث يأتي اليوم الذي يرى الإنسان فيه أن أيامه السالفة في ظل نظام الإقطاع أفضل ألف مرة منها في هذا العصر الذي يتعرض فيه لمسخ حقيقي وتطويع رهيب.
    ولسنا نعني بذلك أولئك الذين كتبوا عن اليهود، فمؤلفاتهم رغم ما تحويه من حقائق صارخة لا تزال مثاراً للشك عند البعض لسبب ما، غير أن هناك كُتَّاباً استخدموا لغة العامة منتهجين أسلوب العرض العلمي أو الأدبي لإثبات توقعاتهم المفزعة، من ذلك أن كاتباً غربياً مرموقاً هو: جوروج أوريل ألف كتاباً عنوانه: 1984، صور فيه الوضع البشري المنتظر في تلك السنة تصويراً مرعباً يجعل قراءه يرتجفون على حد تعبير رسل، ورغم المعارضة التي قوبلت بها نظريته فقد أيدها الواقع كما ناصرها كثير من المفكرين ومنهم رسل الذي علق عليه قائلاً: ظل العالم يسير شيئاً فشيئاً وخطوة خطوة نحو تحقيق كابوس أورويل، ولكن التدرج على هذا الطريق قد جعل الناس لا يتبينون المدى الذي قطعوه في هذا الطريق المحتوم.
    إن الموقف الآن شبيه بذلك الموقف الذي نشأ من ازدياد قوة الملوك في القرن السادس عشر، فقد كان طغيانهم المسرف هو السبب في كل الصراع الذي قامت به الحركات التقليدية وكسبته، ولكن ما إن تضاءلت قوة الملوك حتى نشأت محلها قوة لا تقل عنها خطورة.
    وظهر في أمريكا أستاذ جامعي استطاع بعد جهود مضنية، وباستعماله الأساليب الإحصائية والشواهد الواقعية أن يقرب إلى الأذهان تشاؤمات أورويل، وأثبت بقوة أن امبراطوريات المال في الولايات المتحدة قد وصلت في سيطرتها على الإنسان إلى درجة ربما لم يحلم بها أورويل، ولكن أساليبها الخفية وتخطيطها العميق وهيمنتهاعلى وسائل الإعلام تلقي ظلالاً كثيفه على غولها البشع، فلا يستطيع أن يلمع مخالبه إلا القلة النادرة، يقول هذا الأستاذ وهو فينس باكارد : ''إننا نجد تناقضاً في مجتمع يحاول أن يضع أناساً على القمر في حين أن ملايين من سكانه في المدن لا يجرءون على السير وحدهم ليلاً في الشوارع أو الحدائق المجاورة لبيوتهم'' .
    ويستعرض في كتابه المسمى المجتمع العاري الوسائل الخفية التي تستخدمها امبراطوريات الذهب لتنغيص حرية الإنسان والسيطرة على سلوكه وشعوره ويذكر منها:
    1- أجهزة استراق السمع الإليكترونية: وهي أجهزة منها ما يستخدم في التنصت على المكالمات الهاتفية، ومنها أجهزة للتصوير والتسجيل في غاية الصغر والدقة، ومنها عيون وآذان وعقول إليكترونية ترصد أنفاس فريستها بدقة مذهلة.
    2-أجهزة خاصة لكشف الكذب، تستعملها الشركات العملاقة في إجراء المقابلات الشخصية مع طالبي وظائفها.
    3-التجسس الخفي بواسطة العيون البشرية أو العيون التليفزيونية.
    4-الإحصائيات والاختبارات النفسية، التي يتهافت عليها الجمهور المخدوع، بينما تجني الشركات الاحتكارية من ورائها فوائد ومعلومات مهمة، وتضع خطوطها المستقبلية على ضوئها.
    5-البنوك وشركات التأمين ومؤسسات البريد التي تجبر الفرد على الإدلاء بمعلومات وافرة عن حياته وثروته وعلاقاته، لتستخدم في أغراض لا يعلمها.
    6-شركات متنوعة متخصصة في استقاء المعلومات والتجسس على الأفراد والهيئات، تضع حصيلتها في قوائم تباع أو تعار بمبالغ باهظة للشركات والمؤسسات التجارية.
    وقد أدرك حقيقة هذا الكابوس كثير ممن يسمون مصلحين اجتماعيين في أمريكا، حتى آل الأمر بأحدهم وهو: هـ.ل. منكن المتوفى سنة 1956 إلى أن يقول:
    يبدو أن بعض الناس لم يعودوا يجدون العيش في البلاد مستساغاً بل إنهم يرونه مستحيلاً، وقد ملأ ضيقهم هذا الصحف الأسبوعية، والسفن المقلعة من نيويورك حاملة شحنة ثائرة منهم تقصد باريس ولندن وميونخ وروما وغيرها من المدن التي تقع في طريقها، حيث يحط بعضهم في أي مكان ليهربوا من اللعنات الكبرى والآثام الفظيعة التي جعلت حياتهم لا تطاق في الوطن.
    ثم يعلل منكن ذلك قائلاً : ''إن حكومة الولايات المتحدة بسلاحيها التشريعي والتنفيذي جاهلة غير كفء، وفاسدة تثير الاشمئزاز في النفس'' .
    "فوزارة العدل في الجمهورية مغفلة فاشلة، تعمل ضد كل ما هو معقول وعدل".
    "السياسة الخارجية للولايات المتحدةفي أسلوبها العادي في التداول مع الأمم الأخرى سواء أكانت صديقة أو عدوة، هي سياسة رياء ونفاق ومراوغة ماكرة مخجلة".
    إن الشعب الأمريكي بقبوله كل هذه الشئون يؤلف أعظم مجموعة من الرعاع الجبناء الحقيرين المستعبدين... وإن هذا الشعب ليزداد جبناً ونذالة وحقارة كل يوم.
    وإني لأجد في بلدي هنا أكثر مما أرى أو أسمع به في أي بلد آخر من جنون خاص وعام، أرى موكباً لا نهاية له من أعمال السلب والاحتيال الحكومية، واللصوصية التجارية وشنق الأعناق، والمجون اللاهوتي وقلة الذوق والاختلاس والزنا الشرعي، وأعمال الاحتيال المتنوعة والدناءة والبلاهة والسخرية والإسراف، إنه موكب ضخم غير معقول يجري بأعظم قوة يمكن إدراكها، وتغذيها أعظم جرأة وشذوذ بعيدين عن التصديق. ذلك هو ما يقوله الكُتَّاب الرأسماليون في مصادر رأسمالية (100%)، وهي اعترافات يخالها المرء للوهلة الأولى من صنع الدعاية البلشفية.
    وكل ما ذكره أولئك ليس إلا أعراضاً لابد أن يكابدها كل مجتمع أعرض من ذكر الله وتكالب علىالمادة، إنه الشقاء الذي لا يخفف حدته ترف مادي ولا نعيم دنيوي، ولا تستطيع قشور الحضارة والرقي الصناعي أن تستره، لأنه أعمق من أن ينال وأدق من أن يستأصل.
    وغاية ما يستطيع عقلاء الغرب إدراكه وتنبيه أقوامهم له هو انهيار صرح حضارتهم وطغيان المادة على الروح لديهم، ثم يقفون عند ذلك، أو يصفون العلاج الذي لا يزيد عن مسكنات ضعيفة التأثير، هي غاية ما يمكن للعقل البشري المحدود أن يقدمه إذا انقطع عن الله ولم يرتض الاستضاءة بنوره.
    ولو كتب للذين يطلقون بين الحين والحين صرخات الويل والثبور على الحضارة الغربية أن يدركوا سنة الله في خلقه وأن يضعوا أيديهم على مكمن الداء لتغيرت الصورة بكاملها، ولكن أنى لهم التناوش من مكان بعيد!!
    2-في الشرق الشيوعي:
    كل ما يردده المستغيثون في الغرب ويستفظعونه من المظالم، فإن المجتمعات الواقعة داخل الستار الحديدي تعج به بل بأضعافه، ففي هذه المجتمعات يتناسب الشقاء والتعاسة مع التطرف المغالي في محادة الله، والحرب الصريحة على الإيمان وعلى كل ما كرم الله به الإنسان من خلق وسلوك.
    إن الحط من كرامة الإنسان والنزول به ليس إلى مرتبة الحيوان بل إلى منزلة المادة الصماء، هو جزء من جوهر النظام الجاهلي الشيوعي، وهدف مقصود من أهداف برامجه ومخططاته، وما كان لها وهي على ما هي عليه من الكفر والعتو إلا أن تكون كذلك.
    وبغض النظر عن المساوئ العامة للشيوعية، والشرور التي لم تدع منحى من مناحي الحياة إلا تغلغلت في أعماقه، فإن الناحية الاقتصادية خاصة كان ينبغي لها أن تكون أليق وأنسب في الدول الشيوعية منها في الغرب، وذلك لأن المبرر التاريخي لوجود الشيوعية فكراً وتطبيقاً هو المظالم والشرور الرأسمالية، فإذا جاءت الشيوعية بما يجعل الناس يترحمون على أسياد الإقطاع وطواغيت رأس المال فذلك هو المحير حقاً.
    كان المفروض في مذهب ينادي بمساواة خيالية بين الناس، ويندد بالطبقة والطبقات والامتيازات والاحتكارات أن يكون -على الأقل- أقرب النظم العالمية إلى المساواة وأقلها فوارق بين الطبقات، هذا إن لم يحقق أحلامه الموعودة بالفردوس الأرضي، ولكن واقع الدول الشيوعية يصادم هذا الفرض كل المصادمة، وها هو ميليوفان دجيلاس نائب الرئيس تيتو يقول في كتابه الذي أسماه (الطبقة الجديدة ) : ''إن الطبقة البيروقراطية الشيوعية الجديدة صاحبة الامتيازات الضخمة، تستخدم جهاز الدولة كستار وأداة لتحقيق مآربها وأغراضها الخاصة، وإذا ما عدنا لدراسة الملكية فإننا سنجدها ليست أكثر من حقوق الربح وحرية السيطرة، وإذا ما اتجه المرء إلى تحديد ربح الطبقة من خلال هذه الحقوق، وفي إطار تلك الحرية، فإن الدول الشيوعية تتجه في النهاية إلى خلق شكل جديد من أشكال الملكية، وخلق طبقة حاكمة مستثمرة جديدة.
    إن الطغيان الشيوعي والإرهاب في أساليب الحكم هما الضمانة لامتيازات طبقة جديدة تبرز على المسرح السياسي.
    لقد سبق أن أعلن إستالين عام 1936 مع صدور الدستور الجديد في الاتحاد السوفييتي أن الطبقة المستثمرة قد تم القضاء عليها نهائياً، وفي الحقيقة لقد تم في المعسكر الشيوعي القضاء التام على قوى الرأسمالية الوطنية التي استؤصلت تماماً من الجذور، ولكن مع زوالها بدأت تبرز في صلب المجتمع الشيوعي طبقة جديدة لم يسبق للتاريخ أن رأى لها مثيلاً.
    ولقد أكدت هذه الطبقة أنها أكثر تسلطاً في الحكم من أية طبقة أخرى ظهرت على مسرح التاريخ، كما أثبتت في الوقت نفسه بأنها تحمل أعظم الأوهام، وأنها تكرس أعتى أساليب الظلم في مجتمع طبقي جديد.
    لقد تم تأميم المقدرات المادية إلا أنه لم يجر توزيعها على أبناء الشعب، بل أصبحت ملكاً مكتسباً للطبقة الحاكمة وللأعضاء القياديين للحزب والبيروقراطيين السياسيين.
    لقد حاز الأعضاء الكبار من أفراد النخبة الممتازة على أفضل المساكن والبيوت، كما شيدت لهم الأحياء الخاصة ومنازل الاصطياف، وحصل أمناء سر الحزب وروساء البوليس السري ليس على السلطة العليا وحسب، إنما على أجمل المساكن وأفخم السيارات وسواها من مظاهر الأبهة والعظمة والامتيازات، أما بقية الأعضاء من دونهم مَرْتبة فقد حازوا على امتيازات متناسبة مع مراكزهم الحزبية.
    وليس هناك أية طبقة أخرى في التاريخ تشابه الطبقة الجديدة في وحدة تماسكها، ووحدة الفكر والعمل في دفاعها عن نفسها، وفي قدرتها على إحكام القبضة على كل ما هو واقع تحت سيطرتها من الملكية الجماعية حتى السلطة الاستبدادية المطلقة.
    هذه الطبقة الجديدة تتمتع بشراهة وجشع البرجوازية، إلا أنها لا تحتوي أية فضيلة من فضائلها، ومن جهة أخرى فإن هذه الطبقة تشابه الطبقة الارستقراطية في بعض أمورها الخاصة، وبطابعها الانفرادي والانعزالي، ولكنها تظل بعيدة عنها في مجال رقتها ونبلها وفروسيتها.''
    أما الكاتب الفرنسي أندريه جيد، الذي أصيب بخيبة أمل عظمى في الشيوعية بعد زيارته للاتحاد السوفيتي؛ فيتحدث في كتابه: العودة من الاتحاد السوفييتي عن هذا الواقع بأسلوبه الأدبي قائلاً: ''.. ماذا أقول عن فندق سينوب الذي كنت أقطن فيه بجوار سوكوم، لقد كان أرقى وأسمى من كل شيء آخر، بحيث لا يقارن إلا بأفخر فنادق أوروبا وأعظمها... وكان بجوار الفندق مزرعة نموذجية تمده بثمرها، وكانت المزرعة تشتمل على زرائب نموذجية للخيل والبقر والخنازير وبيوت للدجاج، وكلها مهيأة بالوسائل الحديثة؛ إلا أنك إذا عبرت النهر الذي يحد هذه المزرعة رأيت صفاً من الأعشاش الحقيرة يعيش في كل حجرة من حجره الصغيرة -ستة أقدام مربعة- أربعة أفراد ويدفع كل منهم روبلين إيجاراً شهرياً'' .
    إن اختفاء الرأسمالية لم يجلب الحرية للعامل السوفيتي، ومن الضروري للطبقة العاملة في كل مكان أن تعلم هذا، إن العمال -طبعاً- لم يعد يستغلهم حملة الأسهم الرأسماليون، إلا أنهم مع ذلك يستغلون أبشع الاستغلال وبطرق خفية منحرفة ملتوية، بحيث لم يعد العمال يعلمون على من يلقون اللوم.
    إن غالبيتهم العظمى يعيشون تحت مستوى الفقر، وإن أجورهم الهزيلة هذه هي التي تعين على ملء جيوب العمال المميزين الذين يمتازون بانعدام الشخصية وبالتزلف والخضوع، إن الإنسان ليروعه ما يلحظه على ذوي الشأن من عدم مبالاة بمن هم أقل منهم شأناً كما يروعه ما يظهره الأخيرون من تذلل وعبودية.
    آمنّا بأنه لم تعد هناك طبقات أو امتيازات طبقية في الاتحاد السوفييتي؛ إلا أن الفقراء ما زالوا هم الفقراء؛ بل إن عددهم جد كبير... إنني أخشى أن يكون معنى هذا كله العودة إلى نوع من برجوازية الطبقة العاملة تشبه البرجوازية الحقيرة التي تركتها في بلدي، ولقد بدأت -فعلاً- أرى أعراضها، ولا شك أن كل رواسب البرجوازية موجودة - رغم الثورة - لدى الكثيرين وإن كانت هاجعة راقدة.
    إن الإنسان لا يمكن إصلاحه من الظاهر، فإن تغيير القلب وإصلاحه أمر جوهري، ولذلك يراودني القلق عندما أرى كل الغرائز البرجوازية تلقى الإطراء والتشجيع في الاتحاد السوفييتي.
    رغم أن ديكتاتورية الطبقة العاملة التي طالما نادوا بها لم تتحقق بعد، إلا أنه توجد مع ذلك دكتاتورية من نوع آخر، دكتاتورية الحكومة الاستبدادية البيروقراطية السوفييتية، إن العامل السوفييتي البائس مربوط بمصنعه والعامل الزراعي مربوط بمزرعته الجماعية كارتباط أكسيون بعجلته، إن العامل إذا فكر في ترك عمله الحالي لأي سبب شخصي كان يتصور أو يأمل أن يكون في غير هذا المكان أحسن حالاً أو أقل سوءاً، أو لمجرد أنه يرحب بالتغيير، فإنه وهو المصنف المسجل المنظم يصبح على خطر من ألا يجد عملاً في أي مكان، بل إنه إن ترك مصنعه ولو ظل باقياً في نفس المدينة يحرم من مسكنه الذي كان من حقه طالما هو في العمل، والذي يصعب أن يجد غيره في أي مكان آخر، رغم أنه مع ذلك كان يدفع إيجار هذا المسكن... أما إذا قامت السلطات نفسها بنقل العامل لسبب من الأسباب، فإنه لا يستطيع أن يرفض الانتقال، فلا هو حر في الذهاب إلى حيث يريد ولا في البقاء حيث تجمعت عواطفه الخاصة ومصالحة الشخصية.
    وإذا كان هناك الكثير من الشواهد القاطعة تثبت الواقع البشع الذي يعيشه الإنسان في ظل الجاهلية الشيوعية، والمآسي الشنيعة التي يتعرض لها ليس في فكره وروحه فحسب، بل وفي قوته اليومي -أيضاً-، فإن بعض المخدوعين بـالشيوعية يروعهم التقدم الملموس في المستوى الصناعي، فيغشي أبصارهم عن الحقائق المرة المصاحبة لهذا التقدم، فينسون -أولاً- أن سعادة الإنسان وطمأنينته هي المقياس الحقيقي لنجاح أي عقيدة أو مذهب، وليس الإنتاج المادي بالغاً ما بلغ، وهذه الحقيقة يعترف بها أحد المرتدين عن الشيوعية، وهو الكاتب القصصي لويس فيشر، الذي يسخر من نفسه حينما كان يفضل الكيلوات على الإنسان، مخدوعاً بإنجازات الثورة الشيوعية في بعض مجالات الإنشاء والتعمير.
    والحقيقة الثانية هي أن التفوق الشيوعي في المجالات المدنية ضئيل إذا قورن بالمستويات التي وصل إليها الغرب، وأن المجال الذي برز فيه الشيوعيون هو ميدان الإنتاج الحربي بصفة خاصة، وما ذلك إلا لإحكام القبضة الحديدية على الشعب وإرهابه بدرجة تجعله يطرد من ذهنه كل أمل في الخلاص وكل طمع في عون خارجي.
    والحقيقة الثالثة: أن مكاسب هذا التقدم تؤول إلى الطبقة الحاكمة المستبدة وحدها، وأن الشعب هو الضحية والثمن، فلولا معسكرات العمل الإجباري لما تحقق كل ذلك.
    يقول دجيلاس : ''إذا كان من الأمور الممكنة إحصاء الخسائر الناجمة عن نظام الملكية الجديد في المحاصيل الزراعية وفي المواشي؛ فإنه من الصعب جداً إحصاء الخسائر في اليد العاملة، وفي ملايين الفلاحين الذين زجوا في المعتقلات، وأجبروا على العمل في معسكرات العمل الإجباري'' .
    غير أن مؤلف كتاب نظاما البشرية الديمقراطية والشيوعية يعطي أرقاماً قد تقرب هذه الحقيقة فيقول: ''في عام 1928 كان في روسيا 30 ألف عامل سخرة، وعندما قرر إستالين في مشروع الخمس سنوات أنه سينشئ صناعات جديدة في روسيا، بدأت معسكرات السخرة تمتلئ بسرعة، وما إن حل عام 1933 حتى كان فيها خمسة ملايين من عمال السخرة، وبمرور الزمن ارتفع هذا الرقم إلى ما يتراوح بين عشرة ملايين وخمسة عشرة مليوناً... ولم يكن يرسل إلى معسكرات السخرة في بداية الأمر غير الأعداء الحقيقيين للحكومة السوفيتية، ولكن لم تكد تمضي فترة طويلة حتى تم تحويل عدد كبير من الناس إلى عمال سخرة لمجرد الشعور بأنهم قد يصبحون في يوم من الأيام خطراً على الحكومة، وهذا فضلاً عن أن الحكومة احتاجت إلى عمال لتنفيذ مشروعات في مناطق نائية لا يمكن أن تجتذب عمالاً يذهبون باختيارهم'' .
    وفي الصين -أيضاً- أنشئت معسكرات السخرة بسرعة عقب انتصار الشيوعية في الحرب الأهلية عام 1949، وقد قدر عدد عمال السخرة في الصين الحمراء بأكثر من عشرين مليوناً. هذا بالإضافة إلى أن التقدم الصناعي ليس معياراً كافياً؛ وذلك لسبب كامن في طبيعة العمل الصناعي ذاته، وهو إمكان خضوعه للمراقبة من قبل البوليس السري الذي يعرف مهمة كل عامل ويستطيع بسهولة أن يكتشف تقصيره؛ إذ أن العمل موزع توزيعاً دقيقاً، أما العمل الزراعي الذي يصعب خضوعه لمثل هذه المراقبة الآلية ففيه تظهر الحقيقة بجلاء، لقد كانت روسيا القيصرية أكثر دول العالم إنتاجا للقمح، بل إن جزءاً منها مثل أوكرانيا يكفي لأمداد أوروبا كلها بالغذاء، ولكن الواقع الحالي يشهد أن الاتحاد السوفييتي يستجدي القمح من أعداء العقيدة الرأسماليين الأمريكان، ويدفع ثمناً له العملة الصعبة، وهذا هو المحك الحقيقي لمقدار نجاح النظام الشيوعي أو فشله في جانبه الاقتصادي الذي يعده أهم وأرقى جوانبه.
    ويقدم لنا لويس فيشر بعض الحقائق عن المزارع الجماعية في روسيا فيقول: ''إن هذه المزارع الجماعية ليست إلا نوعاً جديداً بارعاً من العبودية الجماعية يناسب القرن العشرين، ويجبر الفلاح على العمل تحت رقابة بعض شيوعيي القرية المختارين ووخزاتهم، ويجعله عالة على الدولة ومحتاجاً إليها دائماً في بذوره وآلاته وحيواناته ومعظم دخله.
    وكان من الطبيعي أن يلقى هذا التأميم للزراعة مقاومة عنيفة بعيدة المدى، وقد شاهدنا كيف كان رد الحكومة على هذه المقاومة، لقد أرسلت بمئات الآلاف من الكولاك أو أغنياء الفلاحين إلى معسكرات العمل الجماعية، ولم يكف هذا النفي الجماعي لتحطيم القرية... واستعمل المسئولون القوة لإجبار الفلاحين على الدخول في هذه المزارع الجماعية، وكثيراً ما كانت وحدات الجيش الأحمر تظهر في القرية، وتنتقل من كوخ إلى كوخ، مصدرة أمرها إلى السكان بتشكيل مزرعة جماعية.
    وكان الفلاحون يهددون بالنفي إلى سيبريا والتركستان، كما حدث في الكولاك إذا تشبثوا بالزراعة الفردية.
    بهذه الوسائل وغيرها أمكن أن تحشر الغالبية العظمى من الفلاحين الروس في المزارع الجماعية، ولكنهم مع ذلك ظلوا يعارضون أو يهدمون المجهود التعاوني، فقد كانوا يأملون -حتى الآن- أن تعتبر الحكومة هذه المزارع الجماعية فكرة فاشلة، ثم تتنازل عنها، وقد أدت هذه الأمور في أوكرانيا إلى مجاعة 1931-1932، التي مات فيها الملايين من الناس، فكانت القرية تموت بجميع من فيها، لقد كان ثمن تسرع البلاشفة وتعصبهم غالياً'' .
    ويقول أندريه جيد: ''لقد حدث أن زرت إحدى المزارع الجماعية النموذجية، وهي من أبدع مزارع الاتحاد السوفييتي وأغناها، ودخلت بيوتاً متعددة وليتني أستطيع أن أنقل إليكم ذلك الانطباع المطرد الكئيب الذي يحس به من يدخل هذه البيوت من أثر انعدام الفردية انعداماً كاملاً، لقد كان في كل منها نفس قطع الأثاث القبيحة، ونفس الصورة للزعيم استالين، ولا شيء غير هذا، فلم يكن هناك أدنى أثر لأي تحف أو ممتلكات شخصية، ولو دخل أحد السكان بيتاً غير بيته ناسياً لما أحس بأي تغيير أو اختلاف'' .
    هذه هي الأمثلة الواضحة لتطبيق الشيوعية والمعيار السليم للحكم عليها، وتلك هي نتائجها الاقتصادية المزرية، فضلاً عن نتائجها السياسية الفضيعة، التي تتمثل في وقوع الكثرة الكاثرة من الشعب عبيداً في قبضة الحكومة الإستبدادية، مرهونين بقوتهم الضروري وأمنهم المحفوف بالمخاطر، كما سبق في فصل علمانية السياسة.
    ومع أن في وسعنا أن نفصل القول فيما سبق إلا أننا سنكتفي بهذا الإجمال، إذ أن الواقع المعاصر ملء سمع وبصر كل إنسان أوتي حظاً من المعرفة والنظر، وليس إدراك هذه الحقائق مما يخفى على الكثير، ولكن الذي يخفى -فعلاً- ويغيب عن أذهان الناس في الشرق والغرب سواء، هو سر هذه الأدواء الوبيلة الحقيقي، ومصدر هذا الشقاء المستديم الذي يطبق فكيه على العالم الغربي الجاهلي ولا يستطيع منه خلاصاً.