المادة    
"سئل رحمه الله عن رجلين تنازعا في كيفية السماء والأرض: هل هما جسمان كريان، فقال أحدهما: كريان، وأنكر الآخر هذه المقالة، وقال: ليس لها أصل، وردها، فما الصواب؟
فأجاب: السماوات مستديرة عند علماء المسلمين، وقد حكى إجماع المسلمين على ذلك غير واحد من العلماء أئمة الإسلام مثل أبي الحسين أحمد بن جعفر بن المنادي، أحد الأعيان الكبار، من الطبقة الثانية من أصحاب الإمام أحمد، وله نحو أربعمائة مصنف، وحكى الإجماع على ذلك الإمام أبو محمد بن حزم وأبو الفرج بن الجوزي، وروى العلماء ذلك بالأسانيد المعروفة عن الصحابة والتابعين، وذكروا ذلك من كتاب الله وسنة رسوله، وبسطوا القول في ذلك بالدلائل السمعية، وإن كان قد أقيم على ذلك أيضاً دلائل حسابية، ولا أعلم في علماء المسلمين المعروفين من أنكر ذلك، إلا فرقة يسيرة من أهل الجدل لما ناظروا المنجمين" والمنجمون إنما هم طواغيت أفسدوا أديان الناس ومعاشهم، فقد جعلوا كل الحوادث الأرضية إنما تنشأ بتأثيرات فلكية، وأوهموا الناس أن كل ما هو واقع، فهو بتأثير من النجوم، وهذا افتراء على الله، وقول عليه بغير علم.
يقول: "فأفسدوا عليهم فاسد مذهبهم في الأحوال والتأثير؛ خلطوا الكلام معهم بالمناظرة في الحساب، وقالوا على سبيل التجويز: يجوز أن تكون مربعة أو مسدسة أو غير ذلك" يعني أنهم قالوا: يجوز أن يكون شكل السماء مربعاً (أربعة أضلاع) أو مسدساً (ستة أضلاع) أو غير ذلك، "ولم ينفوا أن تكون مستديرة، لكن جوزوا ضد ذلك".
وهذه افتراضات ليس لها أساس؛ لا من عقل ولا من نقل.
يقول: "وما علمت من قال: إنها غير مستديرة وجزم بذلك، إلا من لا يؤبه له من الجهال" ولقد كانت الكنيسة الأوروبية في العصور الوسطى، تتصور أن الأرض قطعة منبسطة، وأن السماء فوقها منبسطة أيضاً، والأطراف بعد ذلك تلتقي، ولهذا أحرقوا وعذبوا من عذبوا من علماء الفلك، الذين هم في الحقيقة إنما تأثروا بعلم الفلك الإسلامي، أو بما صححه المسلمون من نظريات يونانية.
وقد تكلم في إثبات كروية الأرض الغزالي وابن حزم وغيرهم من قبل شيخ الإسلام رحمة الله عليه.
  1. الأدلة السمعية على كروية السماء

    يقول: "ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ))[الأنبياء:33]، وقال تعالى: ((لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ))[يس:40] قال ابن عباس وغيره من السلف : [[ فلكة مثل فلكة المغزل]] وهذا صريح بالاستدارة والدوران".
    وهنا أمران عجيبان كما ذكر الشيخ رحمة الله عليه:
    الأمر الأول: أنها مستديرة وليست على شكل دائري، بل شكلها بيضاوي تقريباً.
    الأمر الثاني: أنها تدور، وهذا هو التصور الذي يقوله الناس اليوم بعدما رصدوه وقاسوه، فهي تجمع بين الاستدارة وبين الحركة والدوران، وكلام شيخ الإسلام رحمه الله هذا دليل على تبحره رضي الله تعالى عنه في المنقول والمعقول معاً.
    يقول: "وأصل ذلك: أن الفلك في اللغة هو الشيء المستدير، يقال: تفلك ثدي الجارية؛ إذا استدار، ويقال لفلكة المغزل المستديرة: فلكة؛ لاستدارتها، فقد اتفق أهل التفسير واللغة على أن الفلك هو المستدير، والمعرفة لمعاني كتاب الله إنما تؤخذ من هذين الطريقين: من أهل التفسير الموثوق بهم من السلف "، وهو الذي يسمى: التفسير بالمأثور، ومثاله الدر المنثور للسيوطي ثم بين رحمه الله الطريق الثاني فقال: "ومن اللغة التي نزل القرآن بها، وهي لغة العرب".
    ثم ذكر شيخ الإسلام دليلاً آخر، لا يمكن أن ينتبه لمثله إلا من تبحر في العلم ورزق منه حظاً وافراً؛ ثم بين رحمه الله فقال: "وقال تعالى: ((يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ))[الزمر:5]، والتكوير التدوير، يقال: كُوِّرَت العمامة، وكورتها: إذا دورتها، ويقال: للمستدير كارة، وأصله: (كورة) تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً، ويقال أيضاً: (كرة) وأصله كورة، وإنما حذفت عين الكلمة، كما قيل في ثبة وقلة.
    والليل والنهار وسائر أحوال الزمان تابعة للحركة"، وهذا الكلام لا يمكن أن يُقال في أوروبا في تلك القرون؛ لأن أوروبا كانت تعيش ظلاماً دامساً.
    يقول: "والليل والنهار وسائر أحوال الزمان تابعة للحركة، فإن الزمان مقدار الحركة، والحركة قائمة بالجسم المتحرك" يعني أن: الحركة ليست ذاتاً قائمة بنفسها، وإنما هي صفة أو حالة للجسم المتحرك، فيكون عندنا جسم مادي فيه حركة، وينتج عن حركة التكوير هذه: الليل والنهار.
    يقول: "فإذا كان الزمان التابع للحركة التابعة للجسم موصوفاً بالاستدارة، كان الجسم أولى بالاستدارة"، فإذا كان الله سبحانه وتعالى وصف هذا الناتج -وهو الليل والنهار- بالتكور، فالجسم الذي نشأت منه الحركة فنشأ عنها الزمان أولى بذلك الوصف.
    ويتابع شيخ الإسلام سرد الأدلة، فيقول: "وقال تعالى: ((مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ))[الملك:3] وليس في السماء إلا أجسام ما هو متشابه -فأما التثليث، والتربيع، والتخميس، والتسديس، وغير ذلك؛ ففيها تفاوت واختلاف بالزوايا والأضلاع- لا خلاف فيه ولا تفاوت" وهذا تفسير آخر، فإذا تصورنا أن للسماء أضلاعاً مربعة ومسدسة، فإنه يكون هناك تفاوت في الأضلاع، لكن مع الاستدارة لا يكون هناك أي تفاوت.
    وهنا حقيقة ينبغي للإنسان أن يعرفها، وهي أن الأصل في الموجودات التي حولنا أنها ليست أشكالاً هندسية (مثلث -مربع -مستطيل- مكعب) فلو جمعت ما في الدنيا من حجارة، فإنك تجد أن هذه الحجارة لا يشبه بعضها بعضاً؛ لأن أشكالها غير هندسية.
    العقل الإنساني يحب التبسيط ويميل إليه دائماً، وهذه الأشكال الهندسية تبسط المحسوسات ليتصورها ذهن الإنسان، لكن خلق الله سبحانه فيه من العجائب والغرائب ما تعجز العقول عن تصوره قبل أن تراه، وكون مخلوقات الله تعالى ليست محصورة على الأشكال الهندسية يدل على سعة قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه يخلق ما يشاء عز وجل.
    والقصد: أن كون السماء بهذا الشكل (الاستدارة) يمنع أن يكون فيها تفاوت، ولو كان لها أضلاع لكان فيها تفاوت، وهذا من حكمة الله سبحانه وتعالى.
    ثم يذكر رحمه الله تعالى الحديث المشهور الذي سبق الكلام عليه وهو حديث القبة.
    ثم يقول: "وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قـال: {إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، وسقفه عرش الرحمن} والأوسط لا يكون أوسط إلا في المستدير" أي: لو كان الشكل مربعاً أو مسدساً، فإنه لا يمكن أن يكون أوسطه هو في نفس الوقت أعلاه؛ أما إذا كان الشكل مستديراً فإنه يمكن أن يُقال: أوسطه هو أعلاه في نفس الوقت، وهذا من دقائق الاستنباط.
    يقول: "وقد قال إياس بن معاوية : [[السماء على الأرض مثل القبة]]، والآثار في ذلك لا تحتملها الفتوى، وإنما كتبت هذا على عجل".
  2. الأدلة الحسية والعقلية على أن السماء مستديرة

    ثم قال رحمه الله: "والحس مع العقل يدل على ذلك؛ فإنه من تأمل دوران الكواكب القريبة من القطب في مدار ضيق حول القطب الشمالي، ثم دوران الكواكب المتوسطة في السماء في مدار واسع، وكيف يكون في أول الليل وفي آخره، يعلم ذلك" ومعنى هذا أن القطب الشمالي يختلف عن خط الاستواء، ففي القطب الشمالي يسود الليل ستة أشهر، ويسود النهار ستة أشهر بحسب ظهور الشمس، لكن في خط الاستواء وما حوله نجد أن الليل يقصر أو يطول ساعات معينة، فالتفاوت هو نتيجة لذلك، فالكواكب القريبة من القطب يكون مدارها ضيقاً، بينما عند خط الاستواء يكون المدار أكبر وأوسع.
    يقول: "وكذلك من رأى حال الشمس وقت طلوعها واستوائها وغروبها في الأوقات الثلاثة على بعد واحد وشكل واحد ممن يكون على ظهر الأرض؛ علم أنها تجري في فلك مستدير، وأنه لو كان مربعاً لكانت وقت الاستواء أقرب إلى من تحاذيه منها وقت الطلوع أو الغروب، ودلائل هذا متعددة".
    يقول: "وأما من ادعى ما يخالف الكتاب والسنة فهو مبطل في ذلك"، يقول شيخ الإسلام : يخالف الكتاب والسنة، ولم يقل: يخالف العقل أو الفلك أو الجغرافيا، ومعنى هذا أن هذا الأمر نجزم به يقيناً.
    وهنا عبرة وفائدة ينبغي أن ننتبه لها وهي: أن الإنسان إذا تفقه في الدين، ورسخ في العلم، وتبحر في المعقول والمنقول؛ يتسع أفقه ونظره، ويستطيع بإذن الله سبحانه وتعالى أن يفقه في دين الله، وأن يرد كل شبهة، وأن يستيقن ويطمئن أن هذا الدين من عند الله سبحانه وتعالى: ((أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا))[النساء:82]. ولا يمكن أن يصل البشر إلى حقيقة تخالف ما جاء في الكتاب والسنة.
    ثم إذا كان هذا التفكير هو فيما نراه في المحسوسات والمشاهدات والكونيات، وهي التي تقبل النظر، فقد أمرنا الله تعالى أن ننظر ونتدبر فيها في آيات كثيرة، فمهما نظرنا وتدبرنا فلن يصل فكرنا إلى ما يخالف الكتاب والسنة، فكيف بالذي لا نستطيع أن نفكر فيه ولا نستطيع أن نأتي بشيء منه؟! وذلك مثل ما يتعلق بتشريعات الحياة الاجتماعية المتعلقة بأحوال الناس، فهذه أعظم وأعقد من الأفلاك، فالعالم الطبيعي له نواميس وسنن متناسقة، إذا عرفتها فقد عرفت منه أحوالاً كثيرة، لكن العالم البشري الإنساني عالم عجيب جداً.
    يجب على البشر أن يعرفوا قدرهم ولا يجاوزوه، ويجب عليهم أن يكلوا أمر التشريع وتنظيم شئون حياتهم في كل شيء إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى ما شرع عز وجل، ويكلوا ما هو أعظم من ذلك، مثل الحياة البرزخية والبعث والحشر والنشور والصراط والميزان إليه سبحانه تعالى؛ لأن هذه أخفى وأخفى، وهي أوجب أن يرجع الأمر فيها كله إلى الله سبحانه وتعالى.
    فلا نتحاكم إلى عقول وأهواء، ولا إلى نظريات وآراء، ولا إلى استبيان واستفتاء واستطلاع، فكل ما يخالف شيئاً من دين الله فهو باطل وافتراء، لا يجوز أن نرجع إليه بأي حال من الأحوال؛ فهذه عبرة عظمى نأخذها ونحن نتأمل ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في هذا المقام.