يقول
شيخ الإسلام رحمه الله: "وإنما تنشأ الشبهة في اعتقادين فاسدين:
أحدهما: أن يظن أن العرش إذا كان كرياً والله فوقه، وجب أن يكون الله كرياً، ثم يعتقد أنه إذا كان كرياً، فيصح التوجه إلى ما هو كري -كالفلك التاسع- من جميع الجهات، وكل من هذين الاعتقادين خطأ أو ضلال، فإن الله مع كونه فوق العرش، ومع القول بأن العرش كري -سواء كان هو التاسع أو غيره- لا يجوز أن يظن أنه -سبحانه- مشابه للأفلاك في أشكالها" كما قال جل وعلا: ((
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ))[الشورى:11] فهذا من أوهامهم وتخيلاتهم الباطلة الفاسدة، وإلا فالله تبارك وتعالى أعلى وأعظم وأجل من أن يحيط به وهم أو فكر أو خيال؛ إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يدرك حقيقة المخلوقات الغيبية، فلا يستطيع أن يدرك حقيقة العرش أو الكرسي، ولا عذاب القبر، ولا نعيمه، ولا الجنة، ولا النار؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول عن الجنة: {
فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر} ويقول النبي صلى الله عليه وسلم هذا الكلام في مخلوق من مخلوقات الله؛ فمهما تخيلت فلا يمكن أن تتخيل حقيقة نعيم الجنة، فكيف بصفات الله سبحانه وتعالى؟! فلا يمكن أبداً أن يدرك الإنسان حقيقتها.
يقول: "كما لا يجوز أن يظن أنه مشابه لها في أقدارها" أي: لا يشبهها في أشكالها كما لا يشبهها في أقدارها "ولا في صفاتها، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً؛ بل قد تبين أنه أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده بمنزلة داخل الفلك في الفلك" وينبغي أن يعلم أن كلمة الفلك تختلف في عرف الجغرافيا القديمة عما هي عليه اليوم، ففي العرف القديم يعنون بها نفس الأجرام، فمثلاً: السماء الدنيا يعتبرونها الفلك الأول، والسماء الثانية الفلك الثاني، وهكذا؛ فيعدون سبعة أفلاك، والكرسي الثامن، والعرش التاسع -كما يزعمون- فيكون الفلك عندهم جرماً محسوساً.
أما الفلك في العرف الجغرافي المعاصر: فهو عبارة عن المدار الذي يدور فقط، فليس جرماً حقيقياً، وإنما هو خط وهمي تدور فيه الكواكب أو النجوم؛ ففلكها هو مدارها.
يقول: بل قد تبين أنه أعظم وأكبر من أن تكون المخلوقات عنده بمنزلة داخل الفلك في الفلك، وأنها عنده أصغر من الحمصة والفلفلة ونحو ذلك في يد أحدنا؛ فإذا كانت الحمصة أو الفلفلة -بل الدرهم والدينار أو الكرة التي يلعب بها الصبيان، ونحو ذلك- في يد الإنسان أو تحته أو نحو ذلك؛ هل يتصور عاقل -إذا استشعر علو الإنسان على ذلك وإحاطته به- أن يكون الإنسان كالفلك ؟!" أي: هل يلزم من ذلك أن يكون الإنسان كالفلك؟ الجواب: لا يلزم.
فيبين شيخ الإسلام أن الله سبحانه كذلك لا يلزم أن يكون بهذا الشكل الذي تخيله أولئك، فيقول: "والله -ولله المثل الأعلى- أعظم من أن يظن ذلك به، وإنما يظنه الذين: ((مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ))[الزمر:67].
وكذلك اعتقادهم الثاني -وهو أن ما كان فلكاً فإنه يصح التوجه إليه من الجهات الست -وهذا خطأ باتفاق أهل العقل الذين يعلمون الهيئة، وأهل العقل الذين يعلمون أن القصد الجازم يوجب فعل المقصود بحسب الإمكان.
كما قد اتضح بالأدلة الهندسية البرهانية أنه لا يمكن أن يقصد إلا من جهة واحدة؛ لأن السطح هو جهة العلو، والسفل هو المركز، فليس هناك جهات ست.
يقول: "فقد تبين أن كل واحد من المقدمتين خطأ في العقل والشرع، وأنه لا يجوز أن تتوجه القلوب إليه إلا إلى العلو، لا إلى غيره من الجهات على كل تقدير يفرض من التقديرات" فأي تقدير قدر، فهو سبحانه وتعالى لا يجوز أن تتوجه إليه القلوب إلا إلى جهة العلو "سواء كان العرش هو الفلك التاسع أو غيره؛ سواء كان محيطاً بالفلك كري الشكل، أو كان فوقه من غير أن يكون كرياً؛ سواء كان الخالق سبحانه محيطاً بالمخلوقات كما يحيط بها في قبضته، أو كان فوقها من جهة العلو منا، التي تلي رءوسنا دون الجهة الأخرى" فعلى أي افتراض فالله سبحانه وتعالى فوق المخلوقات، والتوجه إليه يكون إلى جهة العلو.
يقول: "فعلى أي تقدير فرض، كان كل من مقدمتي السؤال باطلة، وكان الله تعالى إذا دعوناه إنما ندعوه بقصد العلو دون غيره، كما فطرنا على ذلك"، بل وفطر جميع الخلائق على ذلك، وكل الرسل قالوا ذلك وأخبروا به، فهو ثابت بالعقل وبالفطرة وبالوحي، حتى إن الطاغوت الكبير فرعون لما أراد أن يبين كذب دعوى موسى عليه السلام قال: ((يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا))[غافر:36-37] يعني: إن كان الله موجوداً فسيكون سبحانه وتعالى في الأعلى.
بل إن رائد الفضاء السوفييتي جاجارين -وهو أول إنسان صعد إلى الفضاء- ذهل ودهش لما رأى الأرض بهذا الشكل، ورأى شيئاً لم يكن يتخيله ولا يتوقعه، فقال: (لا بد لهذا الكون من خالق)، وبثت وكالات الأنباء هذا الكلام، فأمرت السلطة السوفييتية بتغيير العبارة، فقامت وكالات الأنباء ببث صوته في اليوم الثاني وهو يقول: (إنني صعدت إلى فوق فلم أجد الله) تعالى الله عما يصفون! فاستدلوا على الإلحاد والكفر بأن رائد الفضاء صعد فلم يجد الله؛ أي: لو كان موجوداً لكان في الأعلى.
يقول: "وبهذا يظهر الجواب عن السؤال من وجوه متعددة والله أعلم".
وبهذا تكون الرسالة العرشية قد تمت.