المادة    
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة العرشية:
"فهذا كله بتقدير أن يكون العرش كري الشكل، سواء كان هو الفلك التاسع أو غير الفلك التاسع" فكلامه إنما كان من باب التنزل مع من يرون ذلك.
ثم يقول: "قد تبين أن سطحه هو سقف المخلوقات، وهو العالي عليها من جميع الجوانب، وأنه لا يجوز أن يكون شيء مما في السماء والأرض فوقه، وأن القاصد إلى ما فوق العرش -بهذا التقدير- إنما يقصد إلى العلو؛ لا يجوز في الفطرة ولا في الشرعة -يعني الشريعة- مع تمام قصده أن يقصد جهة أخرى من جهاته الست؛ بل هو أيضاً يستقبله بوجهه مع كونه أعلى منه، كما ضربه النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً من المثل بالقمر -ولله المثل الأعلى- وبين أن مثل هذا إذا جاز في القمر -وهو آية من آيات الله تعالى- فالخالق أعلى وأعظم" هذا الكلام تلخيص لما سبق.
وعلماء الهيئة -علماء الفلك- مجمعون على أن القمر من أصغر الأجرام السماوية؛ فهو تابع للأرض التي هي تتبع الشمس، وهناك ما هو أكبر منه من توابع الكواكب الأخرى؛ فهو شيء ضئيل جداً من خلق الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك فإنه أعلى من الإنسان، ويستقبله الناس في كل أنحاء الأرض حينما يرونه بوجوههم، ومع ذلك فهو أيضاً فوقهم، والله تعالى أعلى وأعظم وأجل.
يقول: "وأما إذا قدر أن العرش ليس كري الشكل، بل هو فوق العالم من الجهة التي هي وجه الأرض".
قوله: الجهة التي هي وجه الأرض: المقصود بذلك الجهة التي هم عليها في ذلك الزمن؛ لأنهم كانوا يتصورون أن الأرض لها جهتان، فالجهة التي هم فيها هي الجهة المسكونة، وأما الجهة الأخرى، فكان تصورهم لها على أنها بحر خال من البشر، وهذا كان قبل أن تكتشف الأمريكتان، وقد أشار إلى ذلك في كلامه الأول عندما قال: "فأما الناحية الأخرى من الأرض فالبحر محيط بها، وليس هناك شيء من الآدميين وما يتبعهم" ثم قال: "ولو قدر أن هناك أحد لكان على ظهر الأرض".
والقصد: أنه إذا كان التوجه إلى العرش في حال افتراض كونه كرياً محيطاً بالمخلوقات إحاطة الأفلاك، فإنه يتبين لنا بالبرهان العقلي والهندسي والجغرافي، أن جهة العلو هي الأقرب، وهي الأنسب فطرة وشرعاً، وكذلك إذا تصورنا الاحتمال الآخر، وهو: أن يكون العرش سقف جميع المخلوقات من غير أن يحيط بها، بل تكون كلها تحته وهو فوقها جميعاً؛ فهذا واضح في أن التوجه إلى ما فوق العرش -أي: إلى الله سبحانه وتعالى- لا يكون إلا إلى جهة العلو.
يقول: "فقد ظهر أنه -على كل تقدير- لا يجوز أن يكون التوجه إلى الله إلا إلى العلو، مع كونه على عرشه مبايناً لخلقه، وسواء قدر مع ذلك أنه محيط بالمخلوقات -كما يحيط بها إذا كانت في قبضته- أو قدر مع ذلك أنه فوقها من غير أن يقبضها ويحيط بها، فهو على التقديرين يكون فوقها مبايناً لها".
وشيخ الإسلام يذكر هذا الكلام؛ حتى لا يقول أهل البدع أن القبضة والإحاطة تقتضي أن يكون الله سبحانه وتعالى على شكل كذا مما تتخيله عقولهم؛ فلكيلا يَرِدَ هذا الإشكال يقول لهم: إن الله -على هذا الافتراض أو ذاك- فوق المخلوقات مباين لها، وقبضه سبحانه وتعالى للمخلوقات هو من صفاته الفعلية سبحانه وتعالى، فهو يقبض متى شاء، والذي ورد في القرآن أنه يقبضها يوم القيامة، في الحالين الله عز وجل هو أعظم منها وأكبر، وهو فوقها، وهي تحته بكل حال وبكل تقدير.
يقول: "فقد تبين أنه على هذا التقدير في الخالق، وعلى هذا التقدير في العرش" أي: على اعتبار العرش بالاعتبارين الماضيين، وعلى اعتبار أنه سبحانه وتعالى قابض أو غير قابض "لا يلزم شيء من المحذور والتناقض"، فلا يمكن أن يحصل أي محذور أو تناقض أبداً "وهذا يزيل كل شبهة" فلا تبقى شبهة لمنكر ولا لمبطل ولا لمعطل ولا لجاحد لصفات الله سبحانه وتعالى.