المادة    
قد استوفى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الرسالة العرشية الأوجه الشرعية والعقلية في مسألة العرش، وبين بياناً شافياً كافياً كل شبهة داحضاً إياها وكاشفاً عنها، وقد ذكر في الوجه الثاني أن الإنسان إذا قصد السفل كان قصده ينتهي إلى المركز، وإن قصد اليمين أو الشمال أو أي جهة أخرى، فإن منتهى قصده هو أجزاء الهواء المتناثر، وقد أوضحنا أن الإنسان لو طلب دعاء الله تبارك وتعالى من غير جهة العلو -وهو سبحانه فوق المخلوقات عالٍ عليها من كل جهة- لكان كمن هو في المغرب ويسلك طريق الحج غرباً حتى يصل خراسان، ثم يتجه منها إلى مكة !
وذلك ممكن عقلاً؛ لكنه منتف طبعاً وفطرة؛ فالإنسان بفطرته يميل إلى الاختصار، وهذا كله من باب التقريب والتبسيط العقلي، ليعلم أولئك المجادلون وأصحاب الشبهات أن طلب العلو عند الدعاء هو الأصل شرعاً، وأنه هو المركوز في الفطرة، وأن الشبهات التي تثار حول ذلك لا قيمة لها.
ويستطرد شيخ الإسلام بعد ذلك مبيناً أن التوجه إلى الله تعالى من غير طريق العلو -وإن كان في النهاية يصل إلى العرش باعتبار أن العرش محيط بالمخلوقات- توجه من غير الطريق المستقيم.
يقول ابن تيمية رحمه الله: "وإذا توجه إليه على غير الصراط المستقيم كان سيره منكوساً معكوساً، وأيضاً فإن هذا يجمع في سيره وقصده بين النفي والإثبات، بين أن يتقرب إلى المقصود ويتباعد عنه، ويريده وينفر عنه، فإنه إذا توجه إليه من الوجه الذي هو عنه أبعد وأقصى، وعدل عن الوجه الأقرب الأدنى، كان جامعاً بين قصدين متناقضين": القصد الأول: هو الوصول إليه من أقرب طريق، والقصد الثاني: هو سلوك الطريق الأطول؛ فهذان قصدان متناقضان.
قال رحمه الله: "فلا يكون قصده له تاماً؛ إذ القصد التام ينفي نقيضه وضده، وهذا معلوم بالفطرة".
ثم يستطرد رحمه الله كعادته مبيناً أموراً أهم في هذا الباب، فيقول: "فإن الشخص إذا كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم محبةً تامةً ويقصده، أو يحب غيره ممن يحب -سواء كانت محبته محمودة أو مذمومة- متى كانت المحبة تامة، وطلب المحبوب، طلبه من أقرب طريق يوصل إليه" فانظر فقه هذا الرجل ووعظه رحمة الله عليه، فقد ضرب المثال بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها أعظم وأشرف أنواع المحبة بعد محبة الله تعالى، ثم قال: "أو يحب غيره ممن يحب" أي: يمكن أن يكون محبوباً يحبه من يعرفه؛ سواء كان هذا المحبوب إنساناً أو شيئاً؛ وسواء كانت تلك المحبة مذمومة أو محمودة شرعاً؛ فإنه إذا طلب محبوبه، فإنه يطلبه دائماً من أقصر وأقرب طريق يقول: "بخلاف ما إذا كانت المحبة مترددة؛ مثل أن يحب ما تكره محبته في الدين؛ فتبقى شهوته تدعوه إلى قصده، وعقله ينهاه عن ذلك، فتراه يقصده من طريق بعيد؛ كما تقول العامة: (رِجْل إلى قدام ورِجْل إلى خلف" وهذا مثل عامي ينطبق على واقع الإنسان الذي يتجاذبه دافعان؛ فدافع الشهوة يدعوه إلى فعل ما حرم الله، ودافع العقل -أو الواعظ الذي في قلب كل مؤمن- ينهاه عن ذلك.
يقول: "وكذلك إذا كان في دينه نقص، وعقله يأمره بقصد المسجد أو الجهاد، أو غير ذلك من القصودات التي تحب في الدين -يعني: المقصودات التي تكون محبوبة شرعاً- وتكرهها النفس، فإنه يبقى قاصداً لذلك من طريق بعيد متباطئاً في السير.
وهذا كله معلوم بالفطرة.
وكذلك إذا لم يكن القاصد يريد الذهاب بنفسه، بل يريد خطاب المقصود ودعاءه ونحو ذلك، فإنه يخاطبه من أقرب جهة يسمع دعاءه منها، وينال به مقصوده، إذا كان القصد تاماً".
فالله تبارك وتعالى أحاط سمعه بالأصوات جميعاً، وهو يسمع كل من دعاه ومن ناداه، وهو مع كل إنسان أينما كان بعلمه سبحانه وتعالى، فلا تخفى عليه خافية، أما بالنسبة للعبد نفسه، فإنه يتحرى أن يدعو الله سبحانه وتعالى من أقرب طريق يوصل إليه.
ثم يضرب رحمه الله مثالاً من الواقع فيقول: "ولو كان رجل في مكان عالٍ" على ظهر جبل مثلاً "وآخر يناديه، لتوجه إليه وناداه" يناديه وهو متوجه إليه بوجهه "ولو حط رأسه في بئر، وناداه بحيث يسمع صوته" بحيث يسمع الذي في رأس الجبل صوته "لكان هذا ممكناً" يعني أن هذا الشيء يمكن وقوعه عقلاً "ولكن ليس في الفطرة أن يفعل ذلك من يكون قصده إسماعه من غير مصلحة راجحة، ولا يفعل نحو ذلك إلا عند ضعف القصد ونحوه".