العبرة من حياة نور الدين
لا أحب أن أطيل عليكم في سيرة هذا الرجل، فهي سيرة عجيبة، وجدير بنا أن نقرأها ونتأملها، وما ذكرت منها إلا موجزاً، وإنما نريد أن نصل إلى العبرة النهائية، أن هذا الرجل هو الذي افتتح إمارات الصليبيين، ثم رزقه الله سبحانه وتعالى بقائده صلاح الدين، فأكمل فتحها بعد حطين، وقضى جيوش على أوروبا التي اجتمعت عليه.
وهكذا جمع الله تبارك وتعالى بمثل هذا الرجل الأمة بعد الفرقة والشحناء، جمعها على السنة بعد البدعة، فقمع دولة الرافضة وقهرها كما رأيتم من كلام العلماء رحمهم الله، وأزال البدعة من الأذان ومن غيره، وأعاد تدريس الحديث والسنة في المساجد، وقرب العلماء والفقهاء، ومكن للشرع والقضاة، وقطع دابر الدعارة والفساد، ومنع بيع الخمور والزنا وكل ما يتعلق بهما، وكان شديداً في الإنكار على أهلها، قوياً عليهم، فلما كان كذلك، طهر البلاد من الفساد ومن أكل الحرام، ومن المكوس والربا، وأمرها عظيم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم حين تكلم عن المرأة التي زنت ورجمها الصحابة الكرام قال: {لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبل منه أو لغفر له}.
فهذا دليل على أن المكس أعظم من الزنا، وكذلك الربا، كما روى الإمام أحمد رحمه الله في الحديث الصحيح: {درهم ربا أشد من ست وثلاثين زنية} والعياذ بالله، فالربا والمكوس والضرائب وأكل الحرام عموماً سواء للأمم أو للأفراد يباعد النصر، ويدمر الأمة، ويحول بينها وبين وعد الله تبارك وتعالى لها بأن تغلب أعداءها وأن تهزمهم.
وقد قضى نور الدين على ذلك كله، فنصره الله سبحانه وتعالى نصراً مؤزراً، وأبقى ذكره، وإن كنا نحن المسلمين -مع الأسف- في غفلة عن ذكره، لكن أبقى الله تبارك وتعالى ذكره عند المطلعين، وهو عند الغربيين أذكر وأشهر.
والمؤرخون الصليبيون كانوا يعجبون من سيرته؛ حتى إن أحد ملوك الصليبيين قال: ما غلبنا من ملوك المسلمين إلا نور الدين، وما غلبنا بكثرة جيوشه، ولكنه كان يعبد الله ويقوم في الليل يدعو علينا.
فكان نور الدين يدعو الله، ويجاهد في سبيل الله، ويطهر البلاد من الفساد، ويجمع الأمة على الحق، وعلى الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، ولم يكن وحده؛ بل كان معه العلماء الذين كانوا ينصحونه، والقضاة الذين أجلسوه وحاكموه مع الرجل كما يحاكم أي إنسان، وكان معه أيضاً القواد الذين كانوا يضحون ويجاهدون كما جاهد، ومنهم: صلاح الدين رحمه الله، فهو ليس رجلاً وحده، وإنما هي -كما قلت- أمة متجسدة في سيرة هذا الرجل، فهزم الله تبارك وتعالى الصليبيين على يديه.
ولا نستطيع أن نستعرض سيرة صلاح الدين ولعل الله سبحانه وتعالى أن يتيح ذلك عاجلاً إن شاء الله، ولكن نقول: حسبنا هذا الذي بدأ هذه البداية، وأن الله تبارك وتعالى قد هزم الغرب مجتمعين، فأظهر دينه، وهزم الأحزاب وحده على يد هذا الرجل.
فالعبرة قائمة، وتاريخه موجود، وجدير بنا أن ندرسه بعناية، لا كما هو موجود في مناهجنا: نور الدين ولد عام كذا، وتوفي عام كذا، وفتح بعلبك، وحارب الصليبيين، ووصل إلى دمشق، فهذه السيرة يمكن لأي امرئ أن يسردها، إنما الذي نريده أن نعرف لماذا كان المسلمون قرابة قرن من الزمان في ذل وانحطاط، ولماذا انتصر هذا الرجل، وكيف كانت الأمة علمياً ودعوياً وجهادياً، وقبل ذلك كيف كانت عقائدياً، وكيف تحولت من البدعة إلى السنة، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الشهوات والملذات والجواري والترف والقصور والحشم إلى الجهاد.
يذكر المؤرخون أن أكثر حياة صلاح الدين ونور الدين كانت في الخيام، كانوا يجاهدون في سبيل الله عز وجل، لما فعلوا ذلك نصرهم الله سبحانه وتعالى، وإن وعد الله سبحانه وتعالى لا يتخلف: ((وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ قِيلاً))[النساء:122].
فكل من استحق نصر الله، وهيأ نفسه له؛ فإن الله تعالى ينصره، بل ويمده بجند من عنده، نسأل الله تبارك وتعالى أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وترفع فيه راية الجهاد في سبيل الله.