كان
نور الدين عند ملوك الترك، وتربى على أيديهم، والذي رباه
مودود رحمه الله الذي قتل في المسجد، ثم كان ابنه
نور الدين، فهم تربوا على نفس التربية، وكان عند ملوك الترك شيء يسمى الياسا أو الياسق، وهو عبارة عن قوانين وضعية -وأكثرها قوانين عسكرية- تطبق على الرعية دون الرجوع إلى الشرع وإلى حكم الله، فهو عرف اتخذ وأصبح شرعاً.
وفي أيام التتار ظهر ذلك وطغى، حتى إن
شيخ الإسلام رحمه الله أفتى بوجوب قتال التتار؛ لأنهم لا يتحاكمون إلى دين الله، وإنما يتحاكمون إلى الياسق .
يقول المؤرخون: انتشر الفساد، وقطع الطريق؛ فجاء قواد الجيش وقالوا لـ
نور الدين : لابد أن تطبق الياسق أو تأخذهم بنوع من السياسة -كما تسمى أحياناً- فقد كثر الدعَّار وأصحاب الفساد، ولا يجيء من هذا شيء إلا بالقتل والصلب، ثم قالوا لرجل يسمى الشيخ
عمر الزاهد وكان من العباد، وكان يحبه -وهذه من المظاهر العجيبة في سيرة
نور الدين أنه كان يحب العلماء والزهاد والعباد جداً- فقالوا له: اكتب لـ
نور الدين في ذلك، فكتب الشيخ
عمر قائلاً: إن الدعار والمفسدين وقطاع الطريق قد كثروا، ويحتاج -أي: من يريد قمعهم- إلى سياسة، ومثل هذا لا يجيء إلا بقتل وصلب وضرب، وإذا أخذ مال إنسان في البرية من يشهد له؟!
أحياناً قد يجامل العلماء أصحاب السلطة، لكن السلطان العادل لا يقبل هذه المجاملة.
فهذا الزاهد كتب إلى السلطان يقول: إذا أخذ مال إنسان في البر، وذهبنا به إلى المحكمة، فإن القاضي يريد شهوداً، ومن أين له بشهود على ما يقول؟! فتضيع الحقوق، فلابد أن يؤخذ الناس بالظنة وبالتهمة، ويطبق عليهم قانون الياسق، فلما قرأ
نور الدين الكتاب قلبه، وكتب على ظهره: "إن الله تعالى خلق الخلق، وشرع لهم شريعة وهو أعلم بما يصلحهم، وإن مصلحتهم تحصل فيما شرعه على وجه الكمال فيها, ولو علم أن على الشريعة زيادة في المصلحة لشرعها، فلا حاجة بنا إلى الزيادة على ما شرعه الله تعالى، فمن زاد فقد زعم أن الشريعة ناقصة، فهو يكملها بزيادته! وهذا من الجرأة على الله وعلى شرعه، والعقول المظلمة لا تهتدي، والله سبحانه يهدينا وإياك إلى صراط مستقيم".
فلما وصل الكتاب إليه في
الموصل جمع الشيخ
عمر أهل
الموصل، فقرأ الكتاب عليهم، وقال لهم: انظروا في كتاب الزاهد إلى الملك، وكتاب الملك إلى الزاهد..! وهو أمر في غاية العجب؛ أن الزاهد يكتب للملك يأمره بغير الحق، والملك يكتب للزاهد فيذكره بضرورة اتباع الحق!
وكان
نور الدين يقرب الفقهاء والقضاة والعلماء، وأخباره بذلك مشهورة، ولم يكن لأهل اللهو واللعب واللغط في مجلسه أي مكان، وكان كلما دعي إلى قضية يتمثل قول الله تبارك وتعالى: ((
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا))[النور:51].
ومرة جاء رجل وشكاه إلى القاضي؛ فأمر القاضي أن يعامله كما يعامل آحاد الناس، وذهب إلى القاضي متمثلاً بهذه الآيات، وجلس حتى أصدر القاضي حكمه، وحكم له، فقال: أما وقد ظهر أن الحق لي، وقد حكمت وفق الشرع، فأنا قد وهبته لذلك الخصم!