المادة    
  1. إضافة العرش إلى الله في الآيات والأحاديث

    يقول ابن تيمية : "وهو سبحانه وتعالى ممتدح بأنه ذو العرش، كقوله سبحانه: ((قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا))[الإسراء:42]"، فذو العرش إذن هو الإله الحق، "وقوله تعالى: ((رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ))[غافر:15-16] وقال تعالى: ((وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ))[البروج:14-15]، وقد قرئ (المجيدُ) بالرفع صفة لله، وقرئ بالخفض صفةً للعرش".
    ومن الغرائب أن الإمام ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله ذكر في مقدمة الرسالة المعروفة في المذهب المالكي -وهو الذي كان يسمى: (مالك الصغير) لسعة علمه وفقهه- ذكر صفات الله سبحانه وتعالى في أولها وقال: (استوى على عرشه المجيد بذاته)؛ فأتى بكلمة (بذاته) حتى يقطع الطريق على المؤولين، فقرأها الشراح من المالكية بعد أن أصبحوا أشاعرةً هكذا: (وأنه تعالى على عرشه). فقالوا: نقف هنا ثم نقرأ: (المجيدُ بذاته)، فقالوا: إن ابن أبي زيد يصف الله سبحانه بأنه المجيد بذاته..! والله تعالى هو القادر بذاته، والعليم بذاته، والحكيم بذاته؛ فلم يكتفوا بتأويل كلام الله، بل أولوا حتى كلام العلماء الذي لا يحتمل التأويل، وهو رحمه الله حين جاء بكلمة (بذاته)، جاء بها عامداً ليقطع طريق التأويل، وحتى لا يقول أحد: إنه في كل مكان! أو يزعم أنه لا داخل العالم ولا خارجه كما يقولون، ومع ذلك حرفوا كلامه كما حرفوا كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
    ثم ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أحاديث تدل على مقصوده كحديث: { سبحان الله عدد خلقه، وزنة عرشه، ورضاء نفسه، ومداد كلمات} وحديث الصعق، وفيه: {وأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذاً بقائمة من قوائم العرش} وحديث: {اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ }.
    ثم ذكر رحمه الله الأحاديث الدالة على أن العرش هو سقف جنة الفردوس جعلنا الله من أهلها؛ كحديث: {إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تتفجر أنهار الجنة} يقول رحمه الله: "ولفظ الفلك يدل على الاستدارة مطلقاً؛ كقوله تعالى: ((وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ))[الأنبياء:33]. وقوله تعالى: ((لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ))[يس:40] يقتضي أنها في فلك مستدير مطلقاً كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[في فلكة مثل فلكة المغزل]]" فلْكة بسكون اللام، أو فلَكة بفتح اللام ولعلها بالفتح أصح؛ هي التي يدور المغزل حولها، وهي معروفة عند أهل البادية.
    ثم قال: "وأما لفظ (القبة) فإنه لا يتعرض لهذا المعنى؛ لا بنفي ولا إثبات؛ لكن يدل على الاستدارة من العلو؛ كالقبة الموضوعة على الأرض" ذكر شيخ الإسلام هذا التوجيه منه للفظ (القبة)؛ لأنه قد أورد حديث الأعرابي، وفيه: { وإن عرشه على سمواته وأرضه هكذا، وقال بأصابعه مثل القبة }؛ لكن الحديث ضعيف غير ثابت.
  2. عقيدة الفلاسفة في الغيبيات وبيان جهلهم

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما المتفلسفة وأتباعهم فغايتهم أن يستدلوا بما شاهدوه من الحسيات، ولا يعلمون ما وراء ذلك؛ مثل أن يعلموا أن البخار المتصاعد ينعقد سحاباً" أي: المتصاعد من البحار "وأن السحاب إذا اصطك حدث عنه صوت" وهو الرعد "ونحو ذلك، لكن علمهم بهذا كعلمهم بأن المني يصير في الرحم"، يعني: أنه شيء معروف، مرئي بالعين، ولم يقل أن هذا يخالف الدين، بل قال: هذا علم بسيط جداً؛ لا مشكلة فيه؛ كالعلم بأن المني يقع في الرحم، "لكن ما الموجب لأن يكون المني المتشابه الأجزاء تخلق منه هذه الأعضاء المختلفة والمنافع المختلفة على هذا الترتيب المحكم المتقن، الذي فيه من الحكمة والرحمة ما بهر الألباب؟! وكذلك ما الموجب لأن يكون هذا الهواء أو البخار منعقداً سحاباً مقدراً بقدر مخصوص في وقت مخصوص على مكان مختص به، وينزل على قوم عند حاجتهم إليه، فيسقيهم بقدر الحاجة؛ لا يزيد فيهلكوا، ولا ينقص فيعوزوا؟".
    يعني: أن هذا المطر -في الأعم الغالب- رحمة من الله تعالى؛ يسوقه الله إلى حيث يشاء.
    وأعجب من ذلك -وقد كشف عنه أخيراً- أن السحب في سيرها وحركتها تسير وفق أنظمة معينة، وأن لها سرعات مختلفة؛ بحسب ارتفاعها عن سطح الأرض، وكذلك بحسب أنواعها، وكل ذلك بموازين دقيقة؛ لم يتوصل إلى كثير منها بعد.
    وكأن شيخ الإسلام رحمه الله يقول لهم: ينبغي أن تعلموا ضعفكم وجهلكم وعجزكم، وأن تنسبوا علم ذلك إلى رب العالمين سبحانه وتعالى.
    ثم يقول: "وما الموجب لأن يساق إلى الأرض الجرز التي لا تمطر، أو تمطر مطراً لا يغنيها؛ كأرض مصر؛ إذ كان المطر القليل لا يكفيها، والكثير يهدم أبنيتها"، أي: فما هو السبب في أن يساق لها الماء بالنهر الذي يجري في أرضها؟ "قال تعالى: ((أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ))[السجدة:27] وكذلك السحاب المتحرك، وقد علم أن كل حركة، فإما أن تكون قسرية" يعني لا إرادية ولا اختيارية "وهي تابعة للقاسر" يعني هذه الحركة تنسب إلى المحرك "أو طبيعية" يعني من ذاتها، "وإنما تكون إذا خرج المطبوع عن مركزه، فيطلب عوده إليه، أو إرادية وهي الأصل" وهي الحركات الإرادية الاختيارية كحركات البشر.. يقول: "فجميع الحركات تابعة للحركة الإرادية" يعني حركة المطر وحركة السحاب وحركة الأفلاك، وحركة كل شيء؛ كل ذلك تابع للحركة الإرادية، "التي تصدر عن ملائكة الله تعالى، التي هي المدبرات أمراً، والمقسمات أمراً"، فليست حركة السحب من ذاتها؛ تذهب لتمطر كما تشاء في أي مكان تشاء؛ بل وراء ذلك حكمة وإرادة، ووراء هذه الحركة العابرة الظاهرة حركة إرادية، وهي الملائكة التي لا نراها، والتي أوكل الله سبحانه وتعالى إليها تدبير ذلك وتقسيم الأرزاق، يقول: "والكلام في هذا وأمثاله له موضع غير هذا".
  3. عظمة الله جل جلاله وقهره لخلقه

    قال ابن تيمية رحمه الله: "المقام الثاني: أن يقال: العرش -سواءٌ كان هو الفلك التاسع أو جسماً محيطاً بالفلك التاسع، أو كان فوقه من جهة وجه الأرض، غير محيط به، أو قيل فيه غير ذلك- فيجب أن يعلم أن العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخالق تعالى في غاية الصغر، كما قال تعالى: ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ))[الزمر:67] وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟}.
    وفي الصحيحين -واللفظ لـمسلم - عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك؛ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك؛ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟} وفي لفظ في الصحيح عن عبد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يأخذ الله سماواته وأرضه بيده، ويقول: أنا الملك، ويقبض أصابعه ويبسطها، أنا الملك، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني أقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟!}.
    وفي لفظ: قال: {رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وهو يقول: يأخذ الجبار سماواته وأرضه، وقبض بيده، وجعل يقبضها ويبسطها، ويقول: أنا الرحمن؛ أنا الملك؛ أنا القدوس؛ أنا السلام؛ أنا المهيمن؛ أنا المهمين؛ أنا العزيز؛ أنا الجبار؛ أنا المتكبر؛ أنا الذي بدأت الدنيا ولم تكن شيئاً؛ أنا الذي أعدتها؛ أين المتكبرون؟ أين الجبارون؟ -وفي لفظ: أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟- ويميل رسول الله صلى الله عليه وسلم على يمينه وعلى شماله، حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه، حتى إني لأقول: أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم؟! }.
    والحديث مروي في الصحيح والمسانيد وغيرها بألفاظ يصدق بعضها بعضاً؛ وفي بعض ألفاظه قال: {قرأ على المنبر: (( وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))[الزمر:67] الآية.. قال: مطوية في كفه يرمي بها كما يرمي الغلام بالكرة}، وفي لفظ: {يأخذ الجبار سماواته وأرضه بيده، فيجعلها في كفه، ثم يقول بهما هكذا كما تقول الصبيان بالكرة.. أنا الله الواحد!} وقال ابن عباس : [[يقبض الله عليهما فما ترى طرفاهما بيده]]، وفي لفظ عنه: [[ما السماوات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم]]، وهذه الآثار معروفة في كتب الحديث".
    فهذه بعض الآثار، والمقصود بها الاستدلال على أن العالم العلوي والسفلي؛ بما في ذلك العرش والكرسي -على عظم خلقهما- والسماوات والأرض؛ كل ذلك بالنسبة لله سبحانه وتعالى في غاية الصغر والضآلة، وهو كالخردلة أو كالحمصة في يد أحدنا، ولذلك فالله سبحانه وتعالى إذا وصف بالعلو على المخلوقات، فعلوه عليها حقيقي، فهو فوقها، وهو ملكها، وهو المتصرف فيها كما يشاء، وهي بالنسبة له في غاية الصغر والضآلة والحقارة، تعالى الله سبحانه وتعالى وتقدست صفاته.