التوبة الفردية والتوبة الجماعية
المذيع: لكن نحن أيضاً عندما ندعو إلى التوبة الفردية؛ فإننا لا نغفل جانب التوبة الجماعية بالنسبة للأمم، يعني: الأمم الإسلامية التي سقطت في مستنقعات الآثام، الأمة التي أذنت بحرب الله جل وعلا ورسوله في كل مجالات الحياة، في تحكيم شرع غير شرع الله، في قيام اقتصاد على غير ما أمر الله، أيضاً نقول: إننا عندما ندعو الفرد ندعو الجماعات والمجتمعات والحكومات إلى العودة إلى الله عز وجل من خلال هذا النداء.
الشيخ: نعم. كل مخلوق مطلوب منه ذلك، وقلنا: إن هذه حالة تشترك فيها الأمة مع الفرد، ولذلك خذ مثلاً: لو أن زعيماً من زعماء الكفر، في أقوى دولة كافرة في العالم؛ تجد أن هذه الحالة تأتيه كفرد ويلجأ إلى الدعاء، وإلى الأسباب التي فوق الأسباب المادية لكي ينال -فيما يظن وكما يزعم أيضاً- هذه المنحة الربانية والنعمة الربانية، ولن ينالها مع كفره إلا استدراجاً من الله تعالى.
فالمقصود: لا شك أن الأمة وبالذات هذه الأمة العظيمة، التي كتابها واحد، ورسولها واحد، وقبلتها واحدة، وهدفها ينبغي أن يكون واحداً، وعدوها واحد، يجب أن توحد كل شيء، فهي أمة التوحيد، كما وحدت هذه الأمور توحد الله تبارك وتعالى ولا تتلقى من شرع غير شرع الله، ولا تحكم بشراً غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، منه تتلقى وعنه تأخذ، وتجتهد فيما أباح الله تبارك وتعالى لها الاجتهاد فيه، بقدر إيمانها؛ لأن هذا الدين هو الحق، وأن الله تبارك وتعالى حق، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم حق، فبقدر إيمانها بذلك لا تحتاج أبداً إلى أن تقع في هذه المهاوي، ولا أن تضل ذات اليمين ولا ذات الشمال.
كيف تحتاج أن تحكم شرعاً غير شرع الحكيم العليم الذي قال: ((أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ))[المائدة:50] هذا حكم لا نتكلم عنه ظاهرياً فقط، بل هو حكم جربته البشرية، لم تعرف البشرية في تاريخها الطويل، وهو مكشوف من قبل الميلاد بثلاثة آلاف سنة أو أكثر إلى الآن، لم تعرف أبداً حضارة كهذه الحضارة، في عظمتها وقيمها وسموها، الحضارة التي كانت تحتكم إلى كتاب الله، الحضارة التي لم يكن يظلم فيها أحد إلا من عصى، إن كان مؤمناً أو غير مؤمن، فأي ظلم لأي بشر فهو مخالفة، الحضارة التي قامت على العدل والحق، والحضارة التي أعطت الفرد حقه دون أن تهضم الجماعة حقها، وأعطت الجماعة حقها دون أن تهضم الفرد حقه، وأعطت الحاكم حقه دون أن تهضم المحكوم حقه، وأعطت المحكوم حقه دون أن تهضم الحاكم حقه، التوازنات الدقيقة التي لا يمكن على الإطلاق أن يضعها أو يرسمها أو يشرعها بهذه الدقة إلا الحكيم العليم.
ما عدا ذلك فلا بد أن تميل طبقة على طبقة، أو حكومة على شعب، أو شعب على حكومة، أو الأغنياء على الفقراء، أو أي نوع من الأشكال كما نرى في القارة أو الأمة التي تمثل آخر حضارة، وتريد أن تحكم العالم كله، وهي الحضارة الغربية.
إذا نظرنا إلى الجزء الشرقي من الحضارة الغربية أين هو من الجزء الغربي، ثم تنظر أين الأغنياء من الفقراء، ثم أين الرجل من المرأة، ثم أين العامل ومرد العمل، لا يمكن أبداً أن يحكم هذا الكون إلا الله، وأنا أتذكر كلمة عجيبة جداً لمن يسمونه العميد دوجي وهو قانوني شهير، من أشهر القانونيين في القانون الفرنسي، ويعتبر هو أبو القوانين الوضعية في العالم، يقول هذا القانوني بعد جهد وتجربة طويلة: {{ إن لدي اليقين بأنه لا يمكن أن يُشرع للبشر إلا قوة فوق البشر }} وهذه الحقيقة عاشها وعاناها؛ لأنه وجد أنه عندما يُشرَّع أي قانون فإنه يوضع من وجهة نظر معينة، من خلفية ثقافية وتاريخية وبيئة محدودة، فإذا نزل في الساحة العامة لا يصلح، وكل الدول وكل العالم يضطر لتغيير اللوائح والقوانين ويغير ويعدل، ولكن الشرع المحكم والكتاب الحكيم، وما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم آية باهرة عجيبة.
رجل أمي في هذه البلاد القاحلة المقفرة، لا صلة له بحضارات على الإطلاق، ولم يتعلم على يد معلم على الإطلاق، ثم يأتي بالشرع المحكم الذي تعجز أمامه أكابر العقول، وليس فقط في جانب الشرع والدين، بل جاء -كما يقول الطبيب الفرنسي المشهور داكاي -: {{ من العجب أن مثل هذا الرجل الأمي يأتي بهذا الدين، ويتقدم العلم ويتطور قروناً وأجيالاً ولا يجد كلمة واحدة من كلامه تخالف الحقيقة }} شيء لا يمكن أن يتخيله بشر!
ولذلك آمن كثير من الناس بناء على هذا، آمن علماء بني إسرائيل لما رأوا الآيات والدلالات البينات الباهرات، آمنت كثير من الأمم لما قرءوا عن هذا الدين، بل الفلاسفة الملاحدة الذين هم أبعد ما يكونون عن الدين؛ اضطروا إلى أن يقولوا: إنه لم يطرق العالم شريعة مثل هذه الشريعة.
المقصود: أن أمة هذا شرعها وهذا دينها وهذا كتابها، يجمع الله لها بين خيري الدنيا والآخرة، يجمع الله لها بين سعادة الدارين، بينما نجد أنه كما قال تبارك وتعالى: ((وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى))[طه:124] نجد أن الكافرين في العذاب والضلال البعيد، عذاب في الدنيا وضلال عن منهج الله تبارك وتعالى، نجد أن الله تبارك وتعالى يحذرنا من أن نعجب بهم: ((فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ))[التوبة:55].
أمة عندها هذا الدين، كيف تغفل عن الله تبارك وتعالى؟ ومن هنا تأتي قضية -ما تفضلت به وأشرت إليه- تأتي مشكلة العدو، إن هذا العدو هو تأديب، هو عقوبة، هو تنفيس أيضاً، هو أن يتخذ الله منها شهداء، هي أمة كريمة على الله، أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويعز عليها أن تعصيه وتخرج عن منهجه، وإذا سلط عليها فهو ليؤدبها وليردها إلى الجادة، ولتنال عذابها وعقوبتها في هذه الدنيا، وهذه نعمة لها، فمهما يكن العذاب في هذه الدنيا فهو بلا شك أخف من أي نوع من أنواع العذاب في الآخرة، عافانا الله وإياكم.
إذاً.. الرحمة شاملة، والتكريم في محله، والوعد الصادق في محله، وبشارة النبي صلى الله عليه وسلم لها بالسمو والرفعة والتمكين في محلها، لكن هذه العوارض التي تعرض لها كما تعرض للفرد إذا فرط أو قصر فإنه يعاقب، ويعرض البلاء أيضاً في حالة الاستقامة، فقد ابتلي الأنبياء والصالحون على قدر دينهم، فهذه قواعد وسنن ربانية جاءت مبسوطة منثورة في كتاب الله تبارك وتعالى بأكثر من الآيات التي تدعو مثلاً إلى أداء أعظم شعيرة في كتاب الله وهي الصلاة، الشعيرة اليومية، فالسنن الكونية في هلاك وبقاء الأمم وفي تعامل الأمة والفرد هذه أكثر وأعمق.
يجب على الأمة الإسلامية أن تعيد النظر في توازنها أولاً قبل كل شيء، أن تعيد النظر في تعاملها مع القرآن، أن تعيد النظر في قراءتها لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، أن تعيد النظر في موقفها مع الله قبل أي موقف آخر؛ لأنها لو نظرت إلى هذه الحال واستقامت وصلح أمرها فسيظهرها الله تبارك وتعالى على العالمين، لا تغلبها قوة على ظهر الأرض أبداً، وهي في الحقيقة تحقق الشيء، أو الأعجوبة التي تجعل كل من يراها أو كل من يرى الواحد منها يقول كما قال النصارى في دمشق لما دخلوا وفتح المسجد، ووضع هكذا شطرين، من جانب دُخل عنوة ومن جانب دُخل سلماً، فكانت الكنيسة الكبرى هكذا، فالشطر الذي كان يصلي فيه الصحابة هنا، والشطر الآخر كان بقية رهبان وعباد أهل الكتاب هنا، فلما رأوا عبادتهم من غير كلام -والنصارى بقوا على دينهم وصالحوهم- والله ما نرى للحواريين فضل على هؤلاء، هكذا بالرؤية!
كما قال عبد الله بن سلام من قبل وغيره، كان يرى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: والله ما هذا بوجه كذاب، فهناك أمور غيبية قلبية تظهر على الجوارح وفي الأعمال والكلمات، وربما تقرأها القلوب ولا تترجم بأي لغة، لكن لغة القلوب لغة مشتركة بين العالم كله، وجعلها الله تبارك وتعالى كذلك إذا نظرت إلى موكب جنازة أو قبر، فالوجوه والملامح واحدة، هناك لغة مشتركة، هذه الملامح أو هذه اللغة المشتركة هي التي يخاطبها القرآن مباشرة، فمن كتب الله له الحياة أحيا الله قلبه بهذا القرآن، وبهذا النور، وبهذا الإيمان، فترجع الهزيمة نصراً، والضعف قوة، ويرجع الشك يقيناً.
هناك مقدرة هائلة جداً تكسبها الأمة، ونأخذ مثالاً بالفرد عندما يؤمن بالله تبارك وتعالى حق الإيمان، ويتجرد عن الذنوب والخطايا، ويتعلق قلبه بالله تبارك وتعالى، هذه المقدرة هي مقدرة تحمل الشدائد مهما كانت، هي التي يُعبر عنها في القرآن بالصبر، وإذا اجتمع الصبر واليقين نيلت الإمامة في الدين.
الصبر لا يمكن أن يهدى أو يقدم، لا يأتي إلا بالتمحيص، وهو ناتج من نتائج الإيمان؛ لأن هناك أمل، الله تبارك وتعالى جعل لنا أملاً، فكلما ضاقت عليك الدنيا تعلم أن لك في الآخرة سعة والحمد لله، كلما وقع بك شيء تقول: الحمد لله، كلما حلت بالأمة كارثة أو بالفرد كارثة نستطيع أن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، فتنال الطمأنينة في الدنيا، وتنتظر الأجر في الآخرة.
أما الأمم الأخرى فكما لاحظنا: إن قويت طغت وبغت واستكبرت وتجبرت، وإن ضعفت أو غُلِبت ينتحرون، أو يضيعون أو يدمرون، أو يحاولون أن ينتقموا فيما بعد بما يتجاوز حدود العدل والمنطق، بشكل يدل على أنهم لم يفقهوا سنة عظيمة من سنن الله تبارك وتعالى في هذا الكون.