الشيخ: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
عندما نريد أن نتكلم عن الآخر، والآخر هنا هو عدو؛ فلا بد أن نقدم بمقدمات من العدل؛ لكي يعلم الجميع أننا لا نخرج عن العدل أبداً حتى مع أعدائنا؛ مهما خرجوا عن حدود العدل والمنطق والأخلاق.
المقدمة التي ينبغي أن تعلن: أن العنف هو مرض ومشكلة وانحراف في داخل النفس البشرية، بمعنى: أن كل إنسان معرض له في كل أمة وفي كل بلد، وفي أي مكان وفي أي زمان، ولدينا في كتاب الله تبارك وتعالى ما يدلُ على ضرورة استئصال أسباب الانحراف الأخلاقي، أي: السلوكي الذي ينتهج منهج العدوان على الآخرين.
وعلماؤنا قبل أن يكتب علماء النفس في الغرب أو في غيره قرروا هذه الحقائق، أي: أن هناك ثلاث قوى -كما يقول علماؤنا كـابن القيم رحمه الله- أو ثلاثة دوافع لأي مشكلة أو جريمة تقع في هذه الدنيا.
المشكلة الأولى: قضية الشرك واجتيال الشياطين لعباد الله المؤمنين وحرفهم عن التوحيد إلى التثليث أو الشرك بالله تبارك وتعالى، وهذا ليس الآن مقامه.
القضية الأخرى أو قضيتان وهما: القوتان التي أودعتا في داخل النفس الإنسانية، وهما: القوة الغضبية والقوة الشهوانية.
القوة الغضبية: هي التي تدفع إلى هذه الأعمال ومنها العنف والاعتداء والقتل، كما حصل من ابن آدم الأول.
والقوة الشهوانية وهي التي تأتي نتائجها فواحش، وكبائر، وموبقات من نوع آخر، وهذه الثلاث جمعها الله تبارك وتعالى في قوله: ((وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ))[الفرقان:68] فهذه هي الأشياء ..
فالأول الشرك، والثاني هو القوة الغضبية التي تؤدي إلى القتل، والثالث هو القوة الشهوانية التي تؤدي إلى الزنا.
وبعد ذلك تتفرع الفروع، هذه كقضية نفسية عامة لجميع البشر، لا مكان للتفصيل في هذا.
وننتقل إلى قاعدة أخرى تكمل وتوضح هذا، وهي: بما أننا بشر فنحن لا يمكن أن نزكي ونبرئ أنفسنا، ونقول: نحن المسلمين ليس فينا عنف ولا خطأ ولا انحراف ولا عدوان، لا يمكن هذا أبداً، وإنما الشيء الذي نقوله ونبرهن عليه ونثبته ونستطيع أن نتحدى به العالم كله أمر واحد وهو:
أن كل شر في هذه الأمة الطيبة المباركة المختارة المصطفاه ففي غيرها من الأمم مثله وأكثر، وأن كل خير أو عدل أو فضيلة أو بر فهو فيها أكثر من نسبة العنف، ولكن هذا العنف لماذا تلصقه القوى الكافرة دائماً بالمستضعفين المغلوبين، ولا سيما بهذه الأمة؟
الحقيقة أن هذه القضية قضية تاريخية يطول شرحها، هناك مشكلة موجودة في أغوار وأعماق النفسية الغربية، وظهر أثرها في الحضارة الغربية في كل عصورها التاريخية، منذ عهود الإغريق إلى الرومان إلى أيام الكنيسة وجبروتها، ثم إلى القوة الحديثة التي ابتدأت بثورة الإصلاح أو التجديد الديني عندهم، ثم بالثورة الفرنسية، ثم بالواقع المشاهد الذي يراه العالم جميعاً.
يلاحظ في هذا التاريخ من أوله إلى آخره نزعة العنصرية الجاهلية، والاستعلاء، ورمي وقذف كل الأخطاء على الآخرين، فمنذ القديم يتعاملون على أن العالم نوعان: إما رومان أو برابرة، وهكذا كانت الفتوحات أو كانت الحروب الغربية، جاءت المرحلة الأخرى وهي التي تهمنا كثيراً عندما كانت الكنيسة هي التي تحكم أوروبا في ظل البابا، والإمبراطورية الرومانية التي تحكم هذه القارة، فحدث من الفظائع ومن ارتكاب العنف ما لا يمكن أن يُتخيل؛ إلى أن ضج العالم كله، إلى حد أن الذي دفع الأوروبيين إلى التخلي كلية عن رجال الدين وعن الكنيسة والخروج إلى العلمانية، وترك الدين هو ما حدث من ظلم وجبروت وطغيان، لم يشهد تاريخ الأديان له نظيراً.
في الحضارة الإسلامية مثلاً تكون هناك عداوات وحروب بين الفرق والطوائف، ولكن لم يحدث في تاريخنا الإسلامي -على سبيل المثال- أن أحرقت الأديرة بالراهبات والرهبان الذين فيها إلا في أوروبا الدينية، حيث كان الرهبان يحرقون تماماً.
هذه العملية طويلة جداً، ومعروفة في التاريخ الأوروبي، وكان لها أثر كبير جداً في تأجيج العداوة بين الكاثوليك والبروتستانت، فقد ظهر البروتستانت فكادوا يتفوقون على ما كان عند الكاثوليك من محاكم تفتيش وغيرها، وهم الذين جاءوا للتجديد أصلاً.
ثم قام بعد ذلك أو ظهر بعد ذلك -حتى لا نطيل في التاريخ- الثورة الفرنسية، وكثير من الباحثين في تاريخ العنف أو الإرهاب عندما يتكلمون سواء كانوا يتكلمون في القانون الدولي، أو في القانون الجنائي؛ يبدءون ويقولون: الإرهاب بمفهومه الحديث وبشكله الحاد بدأ به اليعاقبة بعد الثورة الفرنسية، فالثورة الفرنسية شهدت عنفاً مضاداً لظلم الملكية؛ لكنه تجاوز وخرج عن حدود المعقول إلى أن أصبح مضرب مثل في تاريخ العالم كله في الإرهاب.
ومن هنا بدأت ملامح أو بداية الكتابة عما يسمى بالإرهاب، وعلاقة ذلك بالجريمة وبالإجرام في علم السياسة أو في علم الإجرام والعقوبة.
فلنتجاوز هذا إلى المرحلة الأخطر، عندما قامت الفتوحات أو الكشوفات الجغرافية الأوروبية، وساحت أوروبا في الأرض، ونحن نعلم أننا لو جمعنا أوروبا الغربية التي استعمرت أكثر العالم -مثلاً- ووضعته في داخل المملكة لكانت أكبر منها، فهي دويلات صغيرة، لكنها مع ذلك استعمرت ما يزيد عن أربعين إلى خمسين مليون كيلو متر مربع في العالم، منها: الأمريكتان وأستراليا، ومنها مناطق في أوروبا وفي آسيا بل أكثر من ذلك.
هذا الاجتياح كتب عنه بعض المؤرخين الغربيين ومنهم مؤرخ فرنسي مشهور.