المادة كاملة    
اشتمل هذا الدرس على ترجمة ابن أبي الحديد، مع ذكر تشيعه وعلاقته بالمستعصم، ثم ترجمة الخونجي وعلاقته بالفلسفة، وبعد ذلك ذكر كلام أبي يوسف والشافعي في ذم علم الكلام، ونقل ابن عساكر لكلام الشافعي، ثم الرد على شبهة أهل الكلام، وفي الأخير ورد ذكر طعن الرازي في البخاري ومسلم والرد على هذا الطعن.
  1. ترجمة ابن أبي الحديد وعلاقته بالتشيع

     المرفق    
    ابن أبي الحديد مشهور ومعروف فينبغي لنا أن نعرف عن حياته وعن وفاته وهو صاحب هذه الأبيات المشهورة:
    فيك يا أغلـوطة الفكر            حار أمري وانقضى عمري
    سافرت فيك العقول فما            ربحت إلا أذى السـفـــر
    فلحـى الله الألى زعمــوا            أنك المعــروف بالنظـر
    كـذبوا إن الذي ذكــروا            خـارج عن قــوة البشر
    كان ابن أبي الحديد وزير المستعصم بالله آخر خلفاء بني العباس الذين هجم عليهم التتار وقضوا عَلَى دولتهم وقتلوا هذا الخليفة المستعصم بالله، وكان وزيره قبل ذلك الرافضي ابن العلقمي، وكان قد قرب الروافض جميعاًًًً وأقصى ونحى أهل السنة، وكان ممن قربه ابن أبي الحديد وهو الذي شرح نهج البلاغة يقول الحافظ ابن كثير رَحِمَهُ اللهُ عنه: "إنه كَانَ حظياً عند ابن العلقمي لما بينهما من المناسبة والمقاربة والمشابهة في التشيع والأدب فهم عَلَى دين واحد، وفن واحد، هذا كَانَ حال ابن أبي الحديد وقد أورد له ابن الساعي أشياء كثيرة من مدائحه وأشعاره الفائقة الرائقة وكان أكثر فضيلة وأدباً من أخيه أبي المعالي موفق الدين بن هبة الله وإن كَانَ الآخر -يعني: موفق بن هبة- فاضلاً بارعاً أيضاً" وشرحه نهج البلاغة كَانَ سبباً لشهرته. أما شعره فلا يوجد الآن منه شيء.
    ثُمَّ يقول ابن كثير -رَحِمَهُ اللهُ- في ترجمة الناصر داود من ملوك الدولة الأيوبية: "واشتغل في علم الكلام عَلَى الشمس الخسرو شاهي تلميذ الفخر الرازي، وكان يعرف علوم الأوائل جداً وحكوا عنه أشياء تدل -إن صحت- عَلَى سوء عقيدته، عَلَى ذلك، وكان من جلساء الملك الناصر داود ملك الدولة الأيوبية.
    روى عن الناصر داود أشياء تدل عَلَى سوء عقيدته لأن من جالس أناساً تأثر بهم فتأثر بمنطقهم وفلسفتهم وعلومهم الباطلة، ففسدت عقيدة هذا الملك.
  2. ترجمة محمد الخونجي وعلاقته بالفلسفة

     المرفق    
    أما الخونجي فهو مُحَمَّد بن ناماور بن عبدالملك الخونجي أبو عبد الله فضل الدين توفي (646) أو (649) كَانَ من أعلم أهل زمانه بالفلسفة أو ما يسمى بالحكمة؛ وكان قد ولي قضاء مصر وكان ينشر هنالك فلسفته وعلم الأوائل -أي: علم اليونان- وأشهر كتاب كتبه الخونجي كشف الأسرار عن غوامض الأفكار كتبه في الفلسفة ويظن أنه كشف الأستار عن الأفكار الغامضة ووضحها وجلاها للناس، وعند الموت قَالَ: "ما عرفت مما حصلته شيئاً سوى أن الممكن يفتقر إِلَى المرجح" ثُمَّ استدرك عَلَى نفسه فقَالَ: "الافتقار وصف سلبي، أموت وما عرفت شيئاً " نعوذ بالله من علم لا ينفع.
    والخسرو شاهي وابن أبي الحديد والخونجي كلهم متعاصرون في زمن واحد.
    والخسرو شاهي كان من أجل تلامذة الفخر الرازي، والرازي له كتاب الآيات البينات وشمس الدين الخسرو شاهي له تلخيص الآيات البينات وهو أشعري شافعي.
    وابن أبي الحديد شيعي رافضي ومع ذلك فإن له كتاب اسمه شرح الآيات البينات، فتستنتج أنه يشترك في الاقتباس من علوم الفخر الرازي فقد جمع الرازي في كتبه بين مذاهب الرافضة والأشعرية والفلسفة والجامع المشترك لهذه المذاهب الفلسفة.
    ومما يذكر أن رجلاً يهودياً يسمى يوسف بن ميمون كان من كبار الفلاسفة في الأندلس، ألف كتاباً في صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ينفى صفات الله ويقرر الإيمان بالله عَلَى طريقة الفلاسفة، واسم كتابه المقدمات الخمس والعشرون ذكر خمساً وعشرين مقدمة في ذلك الشأن.
    واهتم تلاميذ الرازي والذين كَانَ منهم شمس الدين بهذا الكتاب، وأخذوا يشرحونه ويستدلون به، حتى جَاءَ الكوثري الذي كَانَ من آخر كبار علماء الضلال والمحرفين والمؤولين فاهتم أيضاً بنشر هذا الكتاب
    هو ومؤلف مستشرق يهودي كَانَ يعيش في مصر قبل قيام دولة إسرائيل اسمه إسرائيل ويلفنسون، فاشتغل الكوثري بهذا الكتاب وقدم له وأثنى عليه، وهكذا تجد ميل أهل البدع من الأشعرية والرافضة إِلَى الفلسفة والفلاسفة ويجمعهم عَلَى ذلك التعلق بعلوم اليونان وإنكار صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وعداوة مذهب السلف الصالح.

    قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-:
    [ومن يصل إِلَى مثل هذه الحال إن لم يتداركه الله برحمته وإلا تزندق كما قال أبو يوسف رَحِمَهُ اللهُ: "من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب" وقال الشَّافِعِيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويُقَالَ: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل عَلَى الكلام" وقَالَ: لقد اطلعت من أهل الكلام عَلَى شيء ما ظننت مسلماً يقوله، ولأن يُبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه - ما خلا الشرك بالله - خير له من أن يُبتلى بالكلام". انتهى.
    وتجد أحد هَؤُلاءِ عند الموت يرجع إِلَى مذهب العجائز فيقر بما أقروا به ويعرض عن تلك الدقائق المخالفة لذلك التي كَانَ يقطع بها، ثُمَّ تبين له فسادها أولم يتبين له صحتها، فيكونون في نهاياتهم - إذا سلموا من العذاب- بمنزلة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب؛ والدواء النافع لمثل هذا المرض ما كَانَ طبيب القلوب صلوات الله وسلامه عليه يقوله: {إذا قام من الليل يفتتح الصلاة: اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إِلَى صراط مستقيم} خرَّجه مسلم]
    توسل صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ربه بربوبية جبرائيل وميكائيل وإسرافيل أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه إذ حياة القلب بالهداية، وقد وكلَّ الله -سبحانه- هَؤُلاءِ الثلاثة بالحياة: فجبريل موكل بالوحي الذي هو سبب حياة القلوب، وميكائيل بالقطر الذي هو سبب حياة الأبدان وسائر الحيوان، وإسرافيل بالنفخ في الصور الذي هو سبب حياة العالم وعود الأرواح إِلَى أجسادها، فالتوسل إِلَى الله -سبحانه- بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة له تأثير عظيم في حصول المطلوب، والله المستعان] إهـ.

    الشرح:
    يذكر المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- أن من يصل إِلَى مثل هذه الحال إن لم يدركه الله برحمته وإلا تزندق، ومات عَلَى الزندقة، وبعض الزنادقة ما مرقوا من الدين وخرجوا منه إلا لما اشتغلوا أول أمرهم بعلم الكلام، ولذلك يقول الإمام أبو يوسف -رَحِمَهُ اللهُ- وهو صاحب الإمام أبي حنيفة: "من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب".
    وهذا الكلام المنقول عن أبى يوسف قد نقله المُصنِّفُ في أول الكتاب وأيضاً نقله في موضع آخر، فهو يستشهد به أكثر من مرة -رَحِمَهُ اللهُ- لأنه من الكلام النفيس الذي يقوله هَؤُلاءِ العلماء، الشاهد أن علماء السلف كـأبي يوسف والشَّافِعِيّ يقولون مثل هذا الكلام الذي يحمل الدرر، والذي إذا قرأه الإِنسَان أخذ منه العبرة والعظة.
    وقد ذكرهما الحافظ ابن عساكر بسنده إِلَى كل منهما في كتاب تبيين كذب المفتري فيما نسب للإمام الأشعري صفحة (333) و(335) إلا أن الكلام الذي نُقل عن أبي يوسف نقل أيضاً عن الشعبي، ولكن الراجح أنه لـأبي يوسف، وليس للشعبي لأن وفاة الشعبي متقدمة ولم يكن في عصره قد اشتهر علم الكلام، فالصحيح أنه لـأبي يوسف.
    ومعنى قوله: من طلب الدين بالكلام تزندق وذلك لأن علم الكلام يفضي إلي الشك والحيرة وهي الزندقة أو بابها ومن طلب المال بالكيمياء أفلس وكانوا يظنون أنه عن طريق الكيمياء يمكن تحويل المعادن الخسيسة إِلَى معادن نفيسة، وهذا عجزت عنه الكيمياء الحديثة، لأن الذهب لا يمكن أن يستخرج من الرصاص وإلا فالكيمياء الحديثة أقدر عَلَى ذلك ولو أمكن ذلك لما كَانَ هناك أزمة ذهب أو أزمة عملة صعبة كما يسمونها، لكن الذهب هو الذهب فطلبوا استخراج الذهب من غيره وفي هذا جهد ومشقة وضياع وقت وعمر.
    والثالثة: من طلب غريب الحديث كذب، أي: أن الإِنسَان إذا أراد أن يجمع الحديث، واستكثر من غرائب الحديث اضطر إِلَى أن يكذب؛ لأن غريب الأسانيد أو غريب الألفاظ أو كلاهما أصبح مطلوباً، وهو ظاهر في المتأخرين أكثر منهم في المتقدمين، وهذه الثلاثة التي ذكرها أبو يوسف نتيجتها واحدة وهي الخسارة.
    1. نقل ابن عساكر لكلام الشافعي

      الرد عَلَى أهل الشبه في القديم والحديث في أي زمان ومكان إنما يكون بالكتاب والسنة أو بما دل عليه الكتاب والسنة ثُمَّ يقول: الشَّافِعِيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل عَلَى الكلام.
      فإن هذا من روائع كلام السلف نقله ابن عساكر في نفس الموضع تقريباً صفحة (335) كأن قائلاً أو سائلاً قال للإمام الشَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ: ما رأيك في أهل الكلام، وبم تحكم عليهم؟
      فذكر أن حكمه فيهم هو أنهم يزجرون ويردعون ويعزرون ويمنعون من الخوض في هذه العلوم، وهذه العقوبة إنما يستحقونها بناء عَلَى إعراضهم عن الكتاب والسنة واشتغالهم بعلم الكلام الذي يزعمون أنه لولا اشتغالهم به لما استطاعوا أن يدافعوا عن العقيدة ويذودون حياضها وذلك لما كثرت الشبهات، وكثرت الفتن أما السلف الصالح فلم يكونوا يشتغلون بذلك لقلة الشبهة في أيامهم!.
    2. الرد على شبهة أهل الكلام

      الرد عَلَى أهل الشبه في القديم والحديث في أي زمان ومكان إنما يكون بالكتاب والسنة أو بما دل عليه الكتاب والسنة ثُمَّ يقول الشَّافِعِيّ: " لقد اطلعت من علم أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلماً يقوله" بل وصل الأمر بهم إِلَى إنكار جميع أسماء الله وصفاته سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ بل وصل الأمر بالغلاة من الجهمية والقرامطة إِلَى أن يقولوا: لا نقول موجود ولا غير موجود، وهذا الكلام الذي يقوله فلاسفة اليونان.
      وكان يقول أفلاطون: الله تَعَالَى كامل والكامل لا يفكر في الناقص فإذا قلنا: إن الله يعلم أحوال النَّاس أو يطلع عليها أو يراقبها أو يحصيها فنكون قد انتقصنا الله، وهذا لا يقوله إلا الزنديق المجوسي أو اليوناني المشرك الوثني.
      ثُمَّ يقول الشَّافِعِيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه -ما خلا الشرك بالله- خير له من أن يبتلى بالكلام". فجعل الشرك بالله والاشتغال بالكلام في منزلة واحدة؛ لأن الفتنة بهما هي أعظم أنواع الفتنة؛ فالشرك أعظم الذنوب؛ لأنه توجه بالعبادة لغير الله، فهو شرك في الطلب والإرادة والقصد، والاشتغال بعلم الكلام شرك في الأسماء والصفات، وصاحبه يصرف النَّاس عن معرفة الله المعرفة الحقيقية إِلَى الضلالات والبدع والآراء الباطلة.
      ثُمَّ يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [وتجد أحد هَؤُلاءِ عند الموت يرجع إِلَى مذهب العجائز، فيقر بما أقروا به، ويعرض عن تلك الدقائق المخالفة لذلك التي كَانَ يقطع بها، ثُمَّ تبين له فسادها أو لم يتبين له صحتها] كما قال أبو المعالي الجويني: وها أنا ذا أموت عَلَى عقيدة أمي، أو وها أنا ذا أموت عَلَى عقيدة عجائز نيسابور -البلد التي كَانَ فيها-.
      فغاية ما في الأمر أن الواحد منهم عند الموت يقول: أنا أموت عَلَى دين العجائز، أما الدقائق والغوامض التي ألفوا وأفنوا الأعمار فيها فهي إما قد ظهر لهم فسادها، وإما أنهم غير متأكدين من صحتها، مع أنهم كانوا في حياتهم يجزمون بها ويوالون ويعادون عليها كانوا يقولون: هذا هو الكتاب وهذا هو الحكم من لم يعتقده فليس عَلَى عقيدة الإسلام الصحيحة.
    3. طعن الرازي في البخاري ومسلم وفي كتابيهما والرد عليه

      الرازي الشيخ الكبير، شيخ المتأخرين من أهل الكلام وإمامهم لما كتب كتاب أساس التقديس لم يسلم منه أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان مما قَالَ: إذا أخذنا بالروايات التي في الصحيحين وغيرهما في الأسماء والصفات، فإن هذا هو مذهب المشبهة والحشوية، والبُخَارِيّ ومسلم ما كانا يعلمان الغيب! هكذا يطعن بغير حجة وبغير علم في الرجال أو في الروايات الصحيحة، فيزعم أنه لا يبعد أن الزنادقة قد أدخلا في كتابيهما أحاديث -أي في الأسماء والصفات- ولم يعلما من هَؤُلاءِ الزنادقة! كيف لا يدري البُخَارِيّ ومسلم ما في كتابيهما وهما مرويان بالسند؛ بل إنك تجد الذهبي رَحِمَهُ اللَّهُ -وهو متأخر- يترجم في سير أعلام النبلاء لرجل ويقول: ومن طريقه روينا كتاب أبي داود أو كتاب البُخَارِيّ أو كتاب مسلم، ويأتي بالسند من القرن الثامن حتى يصل إِلَى البُخَارِيّ ومسلم وغيرهما.
      ثُمَّ تجد الرازي يقول: إن أبا هريرة قال كذا وخطأه فلان في كذا، وعَائِِِشَةَ استدركت عَلَى بعض الصحابة كـابن عمر وعَلِيّ وغيرهما، ويأتي ببعض الروايات التي حصل فيها نوع من الخلاف بين الصحابة -رضوان الله تعالى- عليهم ليستشهد بها عَلَى أنه لا يؤخذ قولهم في هذه المسائل وأن الضبط لم يكن دقيقاً!

      وقد رد عليه شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ في كتابه نقض التأسيس الذي يُسمى بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية ومطبوع بعض الكتاب، ولعله يخرج كاملاً -إن شاء الله- وهو كتاب عظيم ونفيس جداً في الرد عَلَى كتاب أساس التقديس للرازي، وكتاب الرازي مطبوع أيضاً طبعة قديمة في مصر. المقصود أن هذه الأمور التي كانوا يقطعون بها ويوالون فيها ويعادون من أجلها ويتهمون غيرهم ومخالفهم فيها بأنه عَلَى مذهب الحشوية أو النابتة أو غير ذلك، يقر أصحابها عند الموت بأنها كانت باطلاً وخطئاً.
      ثُمَّ يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [فيكونون في نهاياتهم -إذا سلموا من العذاب-] يعني: إذا قدر الله تَعَالَى وكتب لهم حسن الخاتمة قبل الموت وسلموا من الموت عَلَى هذه البدع يكونون [بمنزلة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب] بعد أن كانوا في حياتهم ينافسون أهل العلم وينتقدون أهل العلم كما كَانَ الرازي ينتقد البُخَارِيّ ومسلم وهما من هما في المكانة والثقة والتثبت، فهم الآن عند الموت يريدون أن يموتوا عَلَى دين العجائز، عَلَى دين أتباع أهل العلم من العجائز والصبيان والأعراب، حتى المعاصرين منهم المتعمقين في الكلام وأساتذة الكلام المتمرسين فيه في أرقى الجامعات التي تدرس علم الكلام يقولون: دين العجائز هو أصح الأديان! فإذا كَانَ دين العجائز أصح الأديان فلماذا تتعلمون علم الكلام؟! لكن المؤمنون الصادقون وعلماء السلف وأئمتهم عَلَى دين الراسخين في العلم الذين يكشفون الشبهات والذين يقيم الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بهم الحجة عَلَى الناس، وأتباع أهل السنة من العجائز وغيرهم هم أفضل من أولئك، فكيف بأولئك العلماء الأجلاء الذين جعلهم الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- في كل زمان فترة، مقيمين للحجة ينفون عن هذا الدين انتحال المغرضين وتأويل الجاهلين والمبطلين؟!
  3. تقسيم علماء الكلام الدين إلى قمسين والرد عليه

     المرفق    
    علماء الكلام يقولون: إن الدين دينان: دين التقليد وهذا ما عليه العوام ويدخلون فيهم العلماء المشتغلين بالحديث؛ لأنهم لم يشتغلوا بعلم الكلام فيقولون: هَؤُلاءِ مؤمنون عَلَى التقليد، ولدوا عَلَى الإسلام وتعلموا القُرْآن والسنة ولم ينقحوا الإيمان ولم يقووه بالدلائل العقلية!
    والنوع الآخر إيمان علماء أهل الكلام الذي يقولون فيه: إنه إيمان راسخ، مبني عَلَى العلم، وعلى البرهان، والحجة والدليل. والواقع أن اعترافهم في آخر أعمارهم بأن دين العجائز أفضل مما هم عليه ينفي ذلك أي: أنه تقليد.

    فالمسألة إذاً ليست تقليد، فهذا الدين هو فطرة الله التي خلق النَّاس عليها لا تبديل لخلق الله- ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا))[الروم:30] فالله تَعَالَى فطر النفوس عَلَى هذا الدين كما وضح ذلك النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح {كل مولود يولد عَلَى الفطرة} أي: يولد عَلَى الملة، وفي رواية: {عَلَى هذه الملة} وكلها معناها واحد وهو: أن كل مولود يولد عَلَى الإسلام، وعلى الملة الصحيحة القويمة، وهي الإسلام والتوحيد، ومعرفة الله تَعَالَى معرفة مجملة؛ لكنها صحيحة وسليمة، ولهذا لو سألت العجوز أو الأعرابي أو الطفل -المميز- أين الله تعالى؟ لقال لك: في السماء. حتى أولاد اليهود وأولاد النَّصارَى يولدون عَلَى أن الله واحد، وإذا كَبُرَ علَّموه أنه سبحانه ثلاثة تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً.
    ومن رحمة الله تَعَالَى وحكمته أنه لم يُقِمِ الحجةَ علينا بالمعرفةِ الفطرية وحدها، وإلَّا لكانت كافية قال تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى[الأعراف:172] فهذا الميثاق الفطري الذي أخذه الله - تعالى- من الذرية من ظهور بني آدم، هو فطرهم عَلَى الشهادة والإقرار له -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- بالوحدانية، فهو إذاً أمر موجود في النفوس؛ لكن من رحمة الله أنه لم يجعل ذلك مناط العقوبة، فيعاقبنا بناءً عَلَى العهد الذي أخذه منا، أو بناءً عَلَى الفطرة التي فطرنا عليها؛ بل بعث الله تَعَالَى الرسل ((رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ))[النساء:165] وهذا من فضله تَعَالَى أنه لا يعاقب أحداً إلا بعد مجيء النذير وهو الرَّسُول أو القُرْآن أو الحق. فهذا من كمال عدل الله وحكمته.

    ثُمَّ يقول المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ-: [والدواء النافع لمثل هذا المرض] مرض الشك والريب وعدم معرفة الأدلة ووضوحها أمام اختلاف الآراء فيها [ما كَانَ طبيب القلوب صلوات الله وسلامه عليه يقوله: إذا قام من الليل يفتتح الصلاة] كما في صحيح مسلم {اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إِلَى صراط مستقيم} خرَّجه مسلم وهذا تعليم لنا، فنحن أحوج -بلا شك ولا ريب- إِلَى أن ندعو بهذا الدعاء، والنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هداه ربه إِلَى ما اختلف فيه من الحق من هذه الأمور، عَلَى أن كثيراً مما يختلف فيه علماء الكلام هو بالنسبة لنا إذا أخذناه من كلام السلف الصالح ومنهجهم لا اختلاف فيه ولا شبهة ولا شك، لكن قد توجد أمور دقيقة في بعض المسائل مما يغمض ويدق فهذا الذي ندعو الله أن يرينا الحق فيه، وقد كَانَ أكابر العلماء كشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- يدعون بهذا الدعاء وأمثاله، إذا أشكلت عليهم المسائل وتعقدت عليهم الأمور فترى أحدهم يتوجه إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لأنه هو الذي يعلم الغيب وهو الذي بيده كل شيء، وهو الذي -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أحاط بكل شيء علماً.
    ثُمَّ يقول المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: [توسل صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ربه بربوبية جبريل...] يعني: ربوبية الله -تعالى- لجبريل وميكائيل وإسرافيل [أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه إذ حياة القلب بالهداية] فإذا لم يكن القلب مهتدياً كَانَ ميتاً.
  4. أقسام القلوب ثلاثة

     المرفق    
    والقلوب ثلاثة أنواع:
    1- قلب حي.
    2- قلب ميت.
    3- قلب مريض.
    وقد دل القُرْآن عليها وجاءت بذلك الأحاديث، والقلب يحيى بالهداية وبالإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وبقراءة القرآن، وبذكر الله، وبالتفكر في آلاء الله، وشكره عليها.

    والمناسبة في سؤال الله بهَؤُلاءِ الثلاثة من الملائكة أنهم موكلون بأمور الحياة هكذا جعلهم الله -تعالى-، فعندما يدعو العبد بهذا الدعاء فكأنه يدعو الله الذي جعل عَلَى أيدي هَؤُلاءِ الثلاثة الحياة وهو ربهم -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يحيي قلبه بالهداية قال المصنف: [فجبريل موكل بالوحي الذي هو سبب حياة القلوب] جبريل أمين الوحي، وبالوحي تحيى القلوب وتحيى الأمم ((أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ))[الأنعام:122] فهذا النور هو القُرْآن العظيم، وهو الذي أحيا الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- به القلوب الميتة، وفتح به الآذان الصم، والأعين العمي: أي بالنبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبما أعطاه الله من الوحي.
    [وميكائيل موكل بالقطر] والقطر المطر وهو سببٌ لحياة الحيوان، والنبات في هذه الحياة الدنيا.
    [وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي هو سبب حياة العالم وعود الأرواح إِلَى أجسادها] ينفخ النفخة الثانية فيقوم الخلائق لله رَبِّ الْعَالَمِينَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-
    ((عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَة))[الأنعام:73] أحاط بكل شيء علماً يعلم الغيب والشهادة ولا يخرج عن علمه أي أمر مختلف فيه بين الناس، والنَّاس يختلفون لقلة أفهامهم في العلم؛ لأن النَّاس يتفاوتون في الفهم حتى العالم الكبير قد يخفى عليه أمور من العلم، لكن عالم الغيب والشهادة لا يخفي عليه شيء.
    ثُمَّ قَالَ: [أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون -وهذا هو وجه الشاهد من الحديث- اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إِلَى صراط مستقيم] فالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- هو الذي يحكم بين عباده وقد اختلف أهل الكتاب من قبلنا واختلفت هذه الأمة والله -تعالى- هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون وجعل لذلك أجلاً مسمى ليبلو بعضهم ببعض قال تعالى: ((وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ)) [يونس:19] فهذا دعاء عظيم نسأل الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أن يهدينا إِلَى الصراط المستقيم إنه سميع مجيب.
  5. موضوع الرؤية

     المرفق    
    قال الطّّحاويّ رَحِمَهُ اللهُ:
    [ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأولها بفهم، إذ كَانَ تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إِلَى الربوبية بترك التأويل ولزوم التسليم وعليه دين الْمُسْلِمِينَ، ومن لم يتوق النفي والتشبيه زلَّ ولم يُصب التنزيه]
    قَالَ المُصنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى:
    [يشير الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ - إِلَى الرد عَلَى المعتزلة ومن يقول بقولهم في نفي الرؤية وعلى من يشبه الله بشيء من مخلوقاته فإن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر} الحديث، أدخل "كاف" التشبيه عَلَى "ما" المصدرية أو الموصولة بـ "ترون" التي تتأول مع صلتها إِلَى المصدر الذي هو الرؤية، فيكون التشبيه في الرؤية لا في المرئي. وهذا بيَّنٌ واضحٌ في أن المراد إثبات الرؤية وتحقيقها ودفع الاحتمالات عنها وماذا بعد هذا البيان وهذا الإيضاح؟‍!
    فإذا سلط التأويل عَلَى مثل هذا النص كيف يستدل بنص من النصوص؟!
    وهل يحتمل هذا النص أن يكون معناه: إنكم تعلمون ربكم كما تعلمون القمر ليلة البدر؟!
    ويستشهد لهذا التأويل الفاسد بقوله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصحَابِ الْفِيلِ))[الفيل:1] ونحو ذلك مما استعمل فيه "رأى" التي من أفعال القلوب، ولا شك أن "رأى" تارة تكون بصرية وتارة قلبية وتارة تكون من رؤيا الحلم وغير ذلك، ولكن ما يخلو الكلام من قرينه تخلص أحد معانيه من الباقي: وإلا لو أخلى المتكلم كلامه من القرينة المخلصة لأحد المعاني لكان مجملاً مُلغزاً لا مبيناً موضحاً وأي بيان وقرينة فوق قوله: {ترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب} فهل مثل هذا مما يتعلق برؤية البصر أو برؤية القلب؟!
    وهل يخفى مثل هذا إلا عَلَى من أعمى الله قلبه؟!
    فإن قالوا: ألجأنا إِلَى هذا التأويل حكم العقل بأن رؤيته -تعالى- محال لا يتصور إمكانها. فالجواب: أن هذه دعوى منكم خالفكم فيها أكثر العقلاء وليس في العقل ما يحيلها، بل لو عرض عَلَى العقل موجود قائم بنفسه لا يمكن رؤيته لحكم بأن هذا محال وقوله: (لمن اعتبرها منهم بوهم) أي: توهم أن الله تَعَالَى يرى عَلَى صفة كذا فيتوهم تشبيهاً، ثُمَّ بعد هذا التوهم إن أثبت ما توهمه من الوصف فهو مشبه وإن نفى الرؤية من أصلها لأجل ذلك التوهم -فهو جاحد معطل. بل الواجب دفع ذلك الوهم وحده ولا يعم بنفيه الحق والباطل فينفيهما رداً عَلَى من أثبت الباطل، بل الواجب رد الباطل وإثبات الحق وإلى هذا المعنى أشار الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- بقوله: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه) فإن هَؤُلاءِ المعتزلة يزعمون أنهم ينزهون الله بهذا النفي وهل يكون التنزيه بنفي صفة كمال؟!
    فإن نفي الرؤية ليس بصفة الكمال إذ المعدوم لا يُرى، وإنما الكمال في إثبات الرؤية ونفي إدراك الرائي له إدراك إحاطة كما في العلم، فإن نفي العلم به ليس بكمال، وإنما الكمال في إثبات العلم ونفي الإحاطة به علماً، فهو سبحانه لايحاط به رؤية كما لا يحاط به علماً]
    إهـ
    الشرح:
    خرج المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللهُ- من موضوع الرؤية إِلَى موضوع التأويل وهو من أدق الموضوعات ومن أهمها التي ينبغي أن تفهم، فإنه إذا أُولت آيات الرؤية وأحاديث الرؤية وهي في غاية الوضوح كَانَ ما سوى ذلك أسهل في التأويل، ويستنبط الإمام أبي جعفر الطّّحاويّ أنه لا تأويل في شيء من صفات الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أبداً، ولذا كَانَ تأويل كل معنى يضاف إِلَى الربوبية من باب أولى؛ لأنه أعم فلا يؤول أي معنى يضاف إِلَى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- مطلقاً..
    1. أهل البدع يكفرون من قال إن الله يرى في الآخرة

      قَالَ: [ولا يصح الإيمان بالرؤية -أي: برؤية المؤمنين لربهم في الجنة- لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأولها بفهم] وسيأتي الإيضاح في ذلك.
      يقول المخالفون في الرؤية من الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والإمامية والإباضية: من قال إن الله -تعالى- يرى في الآخرة فقد كفر، وعلى كلامهم هذا يكون أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ كفاراً؛ لأنهم يعتقدون أن الله يُرى.
      فهَؤُلاءِ يرون أن من قَالَ: إنه يُرى -سبحانه- في الدنيا أو في الآخرة فقد كفر! هكذا بإطلاق، وهو قول الإمامية أو الإثنا عشرية، ويسمى بهم أغلب الشيعة ويسمون أيضاً جعفرية من الناحية الفقهية، وهم أغلب الشيعة المعروفين اليوم؛ ولكن الإمامية أو الإثنا عشرية أو الجعفرية غالباً إذا ذكر اسم الشيعة فإنه ينصرف إليهم.

      وكما قَالَ المُصنِّفُ إن أبا جعفر رد عَلَى المعتزلة ومن تبعهم من المؤولة الذين يقولون: نؤول رؤية الله، فنوؤل قوله تعالى: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ))[القيامة:22، 23]، ونؤول قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {سترون ربكم كما ترون هذا وأشار إِلَى القمر} وفي حديث آخر: (فأشار إِلَى الشمس) وقَالَ: {كما ترون الشمس في الظهيرة} وكان مما قالوه إنّ كلمة "ترى" أو "رأى" أو "أرى" تفيد الرؤية العلمية، لا الرؤية البصرية.
      وقال الأشعرية: إنه يرى من غير جهة ولا مقابلة، فينكرون أن يكون المخلوق -مثلاً- في جهة، والله تَعَالَى عالٍ عليه فلا يتصورون ذلك، ويقولون: هذا شيء لا تدركه عقولنا، وهل ندرك الجنة ونعرف نعيمها أصلاً حتى نتكلم عن رؤية الله في الجنة؟! فالتجأوا إِلَى أن يقولوا: يرى من غير جهة ومن غير مقابلة، فأنكروا الجهة وأنكروا العلو لله تَعَالَى وأثبتوا رؤية هي أشبه ما تكون بالشيء المحال، فقالت لهم المعتزلة: من أثبت الرؤية ونفى الجهة فقد أضحك النَّاس عَلَى عقله! وهذا الذي قاله المُصنِّف لو أنه عرض عَلَى العقل موجود قائم بنفسه ولا يمكن رؤيته، لحكم باستحالة ذلك، والمقصود أنهم أولوها وغيروها وحرفوا معناها بالأوهام وبالتأويلات الباطلة.
    2. الرد على المعتزلة وذكر معاني "رأى"

      يقول المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ-: [يشير الشيخ -رَحِمَهُ اللَّهُ- إِلَى الرد عَلَى المعتزلة ومن يقول بقولهم] أي: من الفرق التي ذكرنا [في نفي الرؤية وعلى من يشبه الله بشيء من مخلوقاته، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر} الحديث أدخل كاف التشبيه عَلَى "ما" المصدرية أو الموصولة] كلاهما يصح ومما هو معلوم أن المصدر المنسبك والمؤول يتركب من ما المصدرية أو الموصولة، والفعل، أو أن والفعل كقوله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُم)) [البقرة: 184] أي: صيامكم خير لكم.
      وفي الحديث: (كما ترون) أي: كرؤيتكم،
      فيكون التشبيه في الرؤية لا في المرئي، يعني: ترونه رؤية كرؤية القمر، فهل يعد هذا تشبيهاً لله تَعَالَى بالقمر تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً؟! لا يمكن، وقد فهم القوم من هذا الحديث أنه يوهم التشبيه فَقَالُوا: لابد أن نؤوله، فأعمى الله أبصارهم عن هذه الحقائق التي تتضح لمن يفهم لغة العرب وأسلوبها، ولجأوا إِلَى التأويل الباطل.
      قَالَ: [ومن تأمل النصوص حق التأمل علم أن المراد إثبات الرؤية وتحقيقها ودفع الاحتمالات عنها] لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما في الروايات الأخرى- لما أشار أشار إِلَى القمر ثُمَّ قَالَ: {لا تُضامُّون في رؤيته}فلا يمكن بعد هذا البيان أن يؤول، وإذا أولنا مثل هذه الأمور الواضحة فما الذي لا يؤول؟! فذكر المُصنِّف أنه [إذا سلط التأويل عَلَى مثل هذا النص كيف يستدل بنص من النصوص] فما هو النص الذي يمكن أن نقول: إنه صريح قطعي لا يحتمل التأويل؟! وهل يحتمل هذا النص أن يكون معناه "أنكم تعلمون ربكم كما تعلمون القمر ليلة البدر"؟! هذا مما لا يقوله إنسان عربي فضلاً عن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلم النَّاس بربه وأفصح العرب.
      ثُمَّ يقول المصنف: ويستشهد لهذا التأويل الفاسد بقوله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ)) [الفيل:1] ونحو ذلك مما استعمل فيه رأى التي من أفعال القلوب]، فـالمؤولة يقولون: الرؤية التي في الحديث ليست رؤية حقيقة؛ وإنما هي رؤية قلبية كما في قوله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ)) [الفيل:1] والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولد في عام الفيل ولم ير ما فعل الله بأصحاب الفيل.
      فالرؤية إنما كانت رؤية قلبية أو مثلها قوله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)) [المجادلة:7] يعني: ألم تعلم ذلك بقلبك! وهذا الاستدلال في غير موضعه فهو من أبطل الباطل في مثل هذه النصوص الواضحة
      نعم، تأتي "رأى" لثلاثة معان: بصرية وقلبية ومن الرؤيا التي تحصل في المنام، فكما في البيت الشعري المشهور
      رأيت الله أكبر كل شيء            محاولة وأكثرهم جنودا
      وقد نصبت مفعولين في هذا البيت: المفعول الأول: لفظ الجلالة "الله" والمفعول الثاني: أكبر، وكقولك: رأيت زيداً عالماً، أي: علمته عالماً أو وجدته عالماً فـ"زيد" مفعول أول.
      و"عالماً" مفعول ثان، أما رأى البصرية فإنها تنصب مفعولاً واحداً، تقول: رأيت زيداً، أي: بعيني.
      أما رأى التي تأتي بمعنى الرؤيا التي تحصل في المنام: فتتضح من خلال السياق مثالها: قول إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلام- لابنه إسماعيل: ((إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ))[الصافات:102] وقول يوسف عَلَيْهِ السَّلام لأبيه: ((إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)) [يوسف:4] فَقَالَ له أبوه: ((يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ)) [يوسف:5] ومعنى هذا أنه قال له: إني رأيت ذلك في المنام، فَقَالَ له أبوه: لا تقصص رؤياك، وفي آخر الأمر قَالَ: ((هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ))[يوسف:100] فعلم بعد هذا التفريق أن الثلاثة المعاني لا تشتبه ولا تلتبس في الكلام، وإذا جَاءَ شخص، وقَالَ: أنا لم أفهم من كلام فلان ماذا يقصد بالرؤية أهي القلبية أو البصرية أو المنامية؟! كَانَ هذا من ضعف تعبير المتكلم وعجزه وعيه، وليس هذا من فصاحته وبلاغته أو أن يكون تعمد عدم الإفهام، وهذه الاحتمالات لاترد بأي حال من الأحوال في كلام الله، ولا في كلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
      .
      يقول المصنف: [ولا شك أن "رأى" تارة تكون بصرية وتارة قلبية وتارة تكون من رؤيا الحلم وغير ذلك، ولكن ما يخلو كلام من قرينه تخلص أحد معانيه من الباقي؛ وإلا لو أخلى المتكلم كلامه من القرينة المخلصة لأحد المعاني -الثلاثة- لكان مجملاً ملغزاً لا مبيناً موضحاً وأي بيان وقرينة فوق قوله: {ترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب} فهل مثل هذا مما يتعلق برؤية البصر أو برؤية القلب، وهل يخفى مثل هذا إلا عَلَى من أعمى الله قلبه؟!] نسأل الله العافية ((فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ))[الحج:46] فإذا عميت القلوب فإنها تعمى عن الأدلة الواضحة الجلية، ولا حيلة فيمن عمي قلبه عن فهم هذه النصوص، ولا نستطيع أن نهدي من أضل الله، والواجب عَلَى المتبصرين أن يقيموا الحجة عَلَى أهل العمى وأما هدايتهم وبصيرة قلوبهم فهي عَلَى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- متى أراد ومتى شاء الهداية منَّ بها عليهم، وإلا تركهم في ضلالهم يعمهون.
      ثُمَّ يقول -رَحِمَهُ اللَّهُ-: [فإن قالوا: ألجأنا -أي: ألجأتنا قرينة عقلية- إِلَى هذا التأويل حكم العقل بأن رؤيته تَعَالَى محال لا يتصور إمكانها! فالجواب: أن هذه دعوى منكم خالفكم فيها أكثر العقلاء] ومن الذي قال لكم: إن العقل يحكم في هذه الأمور، وإنه المرجع لها؟! ثُمَّ كيف وقد جَاءَ النص بتقرير هذه الأمور؟!
    3. إيمان الصحابة برؤية الله تعالى في الآخرة

      أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعقل النَّاس ولا يوجد أعقل منهم ولا أذكى، وعندما سمعوا هذا الكلام منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصبحوا يشتاقون إِلَى رؤية الله -تعالى- حتى قال عبد الله بن مسعود وهذا مما له حكم المرفوع: {إن منازل النَّاس من رؤية الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى في الجنة كمنزلتهم منه في الحضور إِلَى صلاة الجمعة} فمن يبكر إِلَى صلاة الجمعة ويكون في الصف الأول؛ فإنه يكون يَوْمَ القِيَامَةِ في مقدمة من يرى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
      فالصحابة رضوان الله تَعَالَى عليهم كانوا يفهمون هذا المعنى وكانوا يحثون التابعين وتلاميذهم عَلَى المبادرة والتبكير إِلَى صلاة الجمعة مقرين بهذا الأمر بأنكم ترون ربكم بمقدار ما تبكرون وتسبقون إِلَى صلاة الجمعة، فيكون النَّاس صفوفاً لرؤية الله تَعَالَى وأقربهم وأدناهم منه منزلة أقربهم إِلَى الإمام في يوم الجمعة، فكان هذا الذي فهمه الصحابة -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم- وربوا عليه من بعدهم.

      فياترى من هو أكمل عقلاً: أفلاطون أو أرسطوأو الجهم وغيرهم ممن أعمى الله بصائرهم من أهل الشرك والوثنية والمجوسية، أم الصحابة رضوان الله عليهم؟ العقل الحقيقي، والفهم الصحيح، والعقلاء لا ينفون ذلك؛ بل يقول: [وليس في العقل ما يحيلها؛ بل لو عرض عَلَى العقل موجود قائم بنفسه لا يمكن رؤيته لحكم بأن هذا محال] لقال العقل: إن هذا محال، فما الذي جعل رؤيته مستحيلة وهو موجود قائم بنفسه؟ إن العقل السليم النقي لا يقول بذلك، ولا يحكم به؛ بل يستغرب ويتعجب! كيف لا وهو أعظم الموجودات، والموجودات الأخرى ما هي إلا آثار من موجوداته سبحانه.

      قَالَ المُصنِّفُ رحمه الله تعالى: [وقوله: لمن اعتبرها منهم بوهم أي: توهم أن الله تَعَالَى يرى عَلَى صفة كذا فيتوهم تشبيهاً] فأول ما يأتي عَلَى ذهن أهل التأويل: يأتيهم الشيطان بوهم وبتشبيه معين، ثُمَّ بعدها يتوهمون أنهم إذا أثبتوا ما توهموه من الوصف فهم مشبهة، فانقسموا نوعين: منهم من أثبت هذا الوهم الذي ألقاه الشيطان في ذهنه، فهذا هو المشبه الذي يشبه الله -تعالى- بخلقه، والبعض الآخر قَالَ: مادام أنه لا يوجد إلا هذا الشكل فأنا أنفي الرؤية كليةً وأنفي الشكل الذي ألقاه الشيطان في ذهني! وذلك لأنه لم يتصور هذه الصفة إلا بهذا الشكل، فنتج عن ذلك أنه أنكرها بالكلية.
      فيقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ: [إن اثبت ما توهمه من وصف فهو مشبه، وإن نفى الرؤية من أصلها لأجل ذلك التوهم فهو جاحد معطل، بل الواجب دفع ذلك الوهم وحده] فإذا دفعت هذا الوهم عن عقلك فستجد نفسك بعد ذلك أنك تؤمن بأنه -تعالى-
      ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))[الشورى:11] وتؤمن بأنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يُرى، ويزول عنك كل تناقض قد يرد بل هذا هو الذي يؤمن به العقل وتؤمن به الفطرة يقول: [ولا يعم بنفيه الحق والباطل] ينفي الدليل وينفي الوهم [فينفيهما رداً عَلَى من أثبت الباطل] والصحيح والواجب هو رد الباطل: وهو التوهم والتشبيه وإثبات الحق: وهو الإثبات إثبات الصفة أو المعنى المضاف إِلَى الربوبية [وإلى هذا المعنى] أي: معنى إثبات الحق ورد الباطل أشار الشيخ -رحمه الله تعالى- بقوله: [ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه].
    4. التنزيه لا يكون بنفي صفة الكمال

      يزعم أهل البدع من المعتزلة وغيرهم أنهم بنفيهم للصفات ينزهون -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- والأمر ليس كما توهموه وزعموه فإن التنزيه لا يكون بنفي صفة الكمال.
      يقول: [فإن نفي الرؤية ليس بصفة كمال إذ أن المعدوم لا يرى، وإنما الكمال في إثبات الرؤية ونفي إدراك الرائي إدراك إحاطة]

      أما نَحْنُ أهل السنة فنثبت الرؤية وننفي أن يكون أحد يرى ربه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- رؤية إدراك كما في العلم لا يحيطون به علما ولا يحيطون به -تعالى- كذلك رؤيةً [فإن نفي العلم به ليس بكمال، وإنما الكمال في إثبات العلم] وهكذا يُقال في الرؤية: فالكمال هو في إثباتها لا في نفيها، ومع ذلك فإننا ننفي الإحاطة به رؤيةً -سبحانه- كما ننفي الإحاطة به علماً، فهو -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لا يحاط به رؤيةً كما لا يحاط به علماً، وهناك رسالة لشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ اسمها الإكليل في المتشابه والتأويل مطبوعة مستقلة وموجودة أيضاً في ضمن الجزء الثالث عشر من مجموع الفتاوى، يمكن أن يرجع إليها من شاء.