المادة    
  1. الناصبة

    من أهل الجفاء: أولئك الذين كانوا يظنون أنهم يتقربون إلى بني أمية أو إلى غيرهم من الفئات بالطعن في علي رضي الله عنه وفي آل البيت وذمهم وتجريحهم؛ سواء طلب ذلك بنو أمية أو لم يطلبوا؛ فكان بعض الناس لا يكف عن الطعن والسب في آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
    فكما أن هناك من يغلو فيهم، وهم الرافضة ؛ كان هناك من يسبهم ويشتمهم ويناصبهم العداء، وهم الناصبة .
  2. أهل الترف

    كان في الطرف المقابل للخوارج : أهل الإتراف وأهل الإسراف، وهم رجال الدولة والحكومة؛ حكام بني أمية ومن سار في ركابهم ومعظم الطبقة المترفة من الناس كالتجار ومن شابههم.
    كانت حياة هؤلاء تخلو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم في سيرته وهديه وحياته؛ ومالوا إلى الترف وإلى السرف، فكانوا مسرفين مُتْرَفِينَ؛ ففي تلك الفترة تدفقت الأموال، وامتلأت الخزائن بالذهب والفضة، وسيطرت النساء على الرجال.
    ظهر الغناء في الحجاز، وانتشر في المدينة بالذات، وقد ذكر الأدباء والمؤرخون أنه كانت هناك مغنيات، وكان هناك مغنون مخنثون؛ لا هم رجال ولا هم نساء.
    ومع أن هناك مبالغة في وصف الفساد الذي كان في تلك الفترة من قبل بعض الأدباء -كما فعل الأصفهاني في كتابه الأغاني- إلا أن هذا لا ينفي أن هناك حقيقة كانت موجودة، وهي أن الناس ترك بعضهم الفرائض، وبعضهم ترك السنن والنوافل، وبعضهم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسبب في ذلك أن الترف قد أصابهم.
    الجيوش تجاهد في الصين وفي الأندلس، وتجاهد في كل مكان، وترسل بتلك الأموال العظيمة إلى مقر دولة الخلافة، وهي بدورها تنقلها إلى الناس، فكان أهل المدينة وأهل مكة وأهل العراق وأهل الشام ينال الرجل منهم عطاءً كبيراً جداً، بعد أن كان الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لا يكادون يجدون من القوت ما يقيم أودهم.
    كان بعض الصحابة -كما فعل جابر وغيره رضي الله تعالى عنهم- يذبح الشاة الواحدة للصحابة رضي الله تعالى عنهم جميعاً، وكانوا في غزوهم كثيراً ما يأكلون الجراد.
    كان النبي صلى الله عليه وسلم يزود السرية من الجيش بجراب من تمر، يحمله القائد ويوزعه عليهم تمرةً تمرةً، وهم في الغزو.
    وهناك كثير من الشواهد -مما هو ثابت في السيرة- على حالة الفقر والجوع التي كان الناس يعانونها.
    ثم جاءت الفتوحات، وتدفقت الأموال؛ فصار أقل الناس مالاً يستطيع أن يأكل من أفخر ألوان الأطعمة والأشربة.
    وإذا قرأتم التاريخ فسوف تجدون العجب مما ظهر من ألوان الطعام والشراب والمتاع، وقد أدرك بعض الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ذلك؛ أدركه عبد الرحمن بن عوف، وأدركه ابن عمر وابن عباس.
    وأول ما ظهرت بوادره بهذه الكثرة في أيام عثمان رضي الله تعالى عنه، ثم انتشر في أيام بني أمية، فكان الشاعر يقول قصيدة من الشعر في مدح أمير من الأمراء قد لا يساوي عند الله تعالى جناح بعوضة، ويطريه؛ فيأخذ عشرة آلاف دينار.
    وكانت الجارية تباع بألف دينار أو عشرة آلاف دينار؛ لأنها مغنية حاذقة كما يقال.
    فبجوار غلو الخوارج وتقشف الصوفية وجدت الحالة الأخرى المخالفة للسنة، وهي حالة أهل الترف.
    وكان أهل الترف يقولون: هذا هو الدين، وهذه سنة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم، الدين يسر، ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ))[الأعراف:32]^ والنبي صلى الله عليه وسلم قال للثلاثة: {فمن رغب سنتي فليس مني} ويأتون بأدلة على ما هم فيه من الترف وضعف العزيمة على الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فزينوا للناس أن ما هم عليه هو الدين وهو السنة.
    كذلك لا تنسوا أن بعضاً من العلماء كانوا مقربين من بني أمية؛ فكانوا يعيشون في شيء من التوسع في المباح؛ لا نقول عنهم أنهم وقعوا في الحرام؛ حاشاهم من ذلك -ولا سيما الأئمة منهم- ولكنهم خرجوا عن الزهد، فلم يكونوا زهاداً؛ بل توسعوا في المباح.
    لكنْ: فرق بين من يتوسع في المباح وبين أن من يدعي أن هذا التوسع هو السنة، فهذا الذي يدعي أن هذا التوسع في المباحات هو السنة كأنه يقول: إن كنت تريد أن تكون من أهل السنة فتوسع مثلنا؛ مد المائدة عليها عشرات الألوان من الطعام، واشتر ما شئت من الجواري والحشم والخدم والمراكب؛ يقول لك: هذه الأشياء حلال وأنا أتمتع بالحلال.
    ونحن لا نقول أنها حرام، بل إننا نعارض أن يجعل هذا التوسع هو السنة، وأن يزدرى من يعيش حياة الكفاف.
    لكن الناس -كما يبين الحسن رضي الله تعالى عنه- اختلطت عليهم المعايير؛ فـالخوارج يقولون: ليس هؤلاء المترفون أهل السنة، وليس الترف بسنة، والسنة هي ما كان عليه أبو بكر وعمر ؛ حيث كان عمر رضي الله تعالى عنه لا يأخذ من بيت المال درهماً واحداً لنفسه ولا لأهل بيته، ومن خالف ذلك كفر.
    لم يقولوا: أجرم أو أخطأ، بل قالوا: كَفر..!
    وأولئك المترفون يقولون: هؤلاء هم الخوارج الذين صحت فيهم الأحاديث أنهم كلاب النار، وأنهم كذا وكذا؛ فيأتون بأحاديث صحيحة لا شك فيها.
    فكان لزاماً على أئمة السنة الذين يجددون هذا الدين أن يضبطوا للناس المعايير؛ فإذا صحت المعايير وضبطت، سار الناس وفقها، واحتكموا بموجبها.