المادة    
  1. الخوارج من أهل الغلو

    كان من أهل الغلو في ذلك الزمان الخوارج، فقد صالوا وجالوا ودوخوا الدولة الأموية في تلك الفترة؛ في أيام الحجاج وما بعده؛ وكان لهم حروب طاحنة ضارية في تلك المنطقة بالذات، حتى إنهم دخلوا الكوفة، وكادوا أن يقتلوا الحجاج والي بني أمية على العراق .
    وصولاتهم وجولاتهم مع الحجاج ومع غيره مسطرة في كتب التاريخ.
    هؤلاء الخوارج كانوا يعيشون في غاية التقشف وغاية الزهد وشدة الاجتهاد في العبادة، ولكنه اجتهاد على بدعة وضلالة -نسأل الله العفو والعافية- فكانوا لا يرون أن هناك أحداً من أهل الإسلام غيرهم، وكانوا يعدون أية دار غير دارهم دار كفر؛ كـ الأزارقة مثلاً، وقريب منهم في ذلك النجدات، الأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق، والنجدات أتباع نجدة بن عامر الحنفي.
    وكان هؤلاء الخوارج يقاتلون قتالاً ضارياً، وقامت لهم دول في عُمان، وكذلك في بلاد فارس وفي جنوبي العراق وشرقيه؛ تتسع وتضيق بحسب قوتهم، وبحسب ضعفهم، فكان لهم نشاط عظيم.
    وقد فتن هؤلاء الخوارج بأنهم هم المؤمنون وأن غيرهم كافر، وأنهم هم أهل السنة، وأنهم هم الذين على منهج الشيخين، وأن غيرهم قد ضل وانحرف ومرق وخرج من الدين.
    فـالخوارج لا تقر إلا بالرسول صلى الله عليه وسلم، ثم بالشيخين: أبي بكر وعمر، فترى أن الإمامين اللذين على الحق هما أبو بكر وعمر فقط، فهم يأتون بالصورة المثلى ويجعلونها الصورة الوحيدة؛ ويرون إن إنسان المحسن هو الذي لا يذنب.. هذا هو المؤمن الذي ليس بكافر.
    وهذه الصورة مثلى، وهي الغاية، لكن المؤمنين درجات، بينما الخوارج ليس لديهم إلا تلك المنزلة المثلى وما عداها فهو كفر، وهذا هو أساس المشكلة في فكر الخوارج وفي فقههم؛ أنهم يظنون أن السنة هي ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر فقط؛ فيرون -بعد ذلك- تكفير عثمان وتكفير علي رضي الله عنهما، أما معاوية، و يزيد، فإنهم يكفرونهما رأساً، وكذلك عبد الملك بن مروان وبنوه ومن والاهم؛ فهؤلاء عندهم مرتدون كفار، ويرون أنفسهم أنهم هم الورثة للسنة التي كان عليها أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهم.
    كذلك يرون أنهم هم الذين على السنة؛ لأن فيهم عبادةً، وزهداً، وتقشفاً، وجهاداً.. كما قال شاعرهم:
    أألفا مؤمن فيما زعمتم            ويهزمهم بآسك أربعونا
    كذبتم ليس ذاك كما زعمتم            ولكن الخوارج مؤمنونا
    وهذا البيتان لهما قصة؛ فقد جردت عليهم الدولة الأموية كتيبة فيها ألفان من الجنود، ولم يكن عند الخوارج مما يقابلهم إلا أربعون رجلاً، فقابل الأربعون الألفين، فهزموهم، فكيف هزموهم؟!
    هؤلاء الخوارج أهل غلو، وهؤلاء -جنود الدولة الأموية- أهل إتراف وإسراف، وعادةً أهل الإتراف والإسراف مهما كثر عددهم لا يواجهون من كان لديهم شكيمة وبأس وشدة كـالخوارج ؛ فهزموا؛ فاستدل الخوارج بهذا على أنهم هم المؤمنون.
    فقال شاعرهم: (أألفا مؤمنٍ فيما زعمتم) هل يعقل ذلك؛ ألفا مؤمن ويهزمهم أربعون إلا لأن هؤلاء الجنود ليسوا بمؤمنين، ولأن الخوارج هم وحدهم المؤمنون.
    والحقيقة أن هؤلاء الجنود ليسوا كفاراً بل هم مترفون ومسرفون.
    وأولئك الخوارج أيضاً ليسوا على السنة؛ بل هم غلاة مبتدعة؛ لكن هذا الذي حصل؛ تقابل أهل الغلو مع أهل الإسراف والإتراف؛ فغلب أهل الغلو أهل الترف، وهكذا كانت الفتنة التي وقعت لهم.
  2. الصوفية من أهل الغلو

    في تلك الأيام انتشرت في البصرة أيضاً بدايات التصوف، ونذكر مثلاً رابعة العدوية ؛ فقد كانت في تلك الأيام، وكان معها طائفة من العباد.
    والتصوف قد غزا البيئة الإسلامية من الهند؛ فهو هندي الأصل يتفق مع الديانة البوذية في كثير من مبادئه، فجاء من هناك -من الهند ومن الشرق- وأتى إلى البصرة ؛ لأنها الميناء الذي هو أقرب الموانئ الإسلامية اتصالاً بـالهند .
    هؤلاء المتصوفة لم يخرجوا كما فعل الخوارج، لكن كانوا في شدة التعبد، ويخيل إليهم وإلى الناس من حولهم أنهم هم أهل الدين وأهل السنة وأهل الحق؛ فإذا رأوا رجلاً مقتصداً في عبادته، ظنوا هذا من ضعف إيمانه ومن تفريطه ومن إهماله، وإن كان صاحب علم وفضل وجهاد، وأمر بمعروف ونهي عن منكر.
    فهم لا يعظمون إلا من انقطع عن الدنيا؛ كهذه المرأة (رابعة) التي انقطعت عن الناس ولم تتزوج وعبدت الله تعالى بالحب فقط.. كانت تقول:
    أحبك حبين حب الهوى             وحباً لأنك أهل لذاكا
    فالناس رأوا أن هذه هي الصورة المثلى للعبادة، وأن العابد الذي يعبد الله حقاً هو الذي لا يريد الجنة ولا يريد النجاة من النار، وإنما يعبد الله محبةً في الله، يريد ذات الله فقط.
    إن الذي لا يعرف حقيقة الدين وما كان عليه المرسلون وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وما ذكر الله تعالى في كتابه من صفات المؤمنين المتقين يقول هذه صورة عليا، وأما أنا فمسكين أعبد الله حتى يدخلني الجنة؛ فأنا إذن ضعيف الإيمان.. وما دمت أخاف الله، ولا أريد أن يدخلني الله النار، فعبادتي ضعيفة بهذا الاعتبار، ولستُ على السنة... هكذا يزين له الشيطان.
    هذا الاتجاه سلكه أمثال رابعة وأمثال رياح بن عمرو القيسي وأمثال هؤلاء الذين كانوا يتعبدون بزعمهم لذات الله وبالحب فقط؛ كان فيهم جانب آخر من جوانب الغلو التي وجدت في ذلك الزمن.
  3. الشيعة من أهل الغلو

    كذلك من فرق الغلو أيضاً الشيعة ؛ فـالشيعة كانت تدعي حب آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن جميعاً مأمورون أن نحب الصحابة ونحب أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذا من ديننا؛ فمن آمن من آل البيت فلابد أن نحبه، لكن ليس على طريقة الشيعة .
    الغلو الذي وقع فيه الشيعة أنهم رفعوهم على أبي بكر وعمر وعثمان وعلى كثير ممن هو أفضل منهم من الصحابة؛ بل وصل بهم الحال إلى تأليههم وعبادتهم.