المادة    
قال الطحاوي رحمه الله:
[وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة، والإقرار بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه: ((وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا))[الفرقان:2]، وقال تعالى: ((وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا))[الأحزاب:38] اهـ.
قال المصنف رحمه الله:
الإشارة إلى ما تقدم من الإيمان بالقدر وسبق علمه بالكائنات قبل خلقها، قال صلى الله عليه وسلم في جواب السائل عن الإيمان: {أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه}، وقال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: {يا عمر ! أتدري من السائل؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم} رواه مسلم .
وقوله: "والإقرار بتوحيد الله وربوبيته"، أي: لا يتم التوحيد والإقرار بالربوبية إلا بالإيمان بصفاته تعالى، فإن من زعم خالقاً غير الله فقد أشرك، فكيف بمن يزعم أن كل أحد يخلق فعله؟! ولهذا كانت القدرية مجوسَ هذه الأمة، وأحاديثهم في السنن.
وروى أبو داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم}.
وروى أبو داود أيضاً عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لكل أمة مجوس، ومجوسُ هذه الأمة الذين يقولون: لا قَدَر، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوهم، وهم شيعة الدجال، وحق على الله أن يلحقهم بـالدجال }.
وروى أبو داود أيضاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم}.
وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {صنفان من بني آدم ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية }.
لكن كل أحاديث القدرية المرفوعة ضعيفة، وإنما يصح الموقوفُ منها. فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: [[القدر نظام التوحيد، فمن وحَّد الله وكذَّب بالقدر نقض تكذيبُه توحيده]]. وهذا لأن الإيمان بالقدر يتضمن الإيمان بعلم الله القديم وما أظهر من علمه بخطابه وكتابه مقادير الخلائق، وقد ضل في هذا الموضع خلائق من المشركين والصابئين والفلاسفة وغيرهم ممن ينكر علمه بالجزئيات أو بغير ذلك، فإن ذلك كله مما يدخل في التكذيب بالقدر.
] اهـ.
الشرح:
يقول المصنف رحمه الله في شرحه: "الإشارة إلى ما تقدم من الإيمان بالقدر وسبق علمه بالكائنات قبل خلقها". أي: في قوله: "وذلك من عقد الإيمان، وأصول المعرفة، والاعتراف بتوحيد الله تعالى"، إذاً: الإيمان بالقدر ركن من أركان الإيمان، ومن ذلك الإيمان بالعلم وبما بعده من المراتب، فإن هذا كله من أركان الإيمان، فهو من أصول الدين، ومن عقد الإيمان، ومن أصول المعرفة والاعتراف بتوحيد الله سبحانه وتعالى"، فمن كذب بذلك لم يكن مؤمناً ولا موحداً ولا مقراً.
يقول: "قال صلى الله عليه وسلم في جواب السائل عن الإيمان: {أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره}، وقال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: {يا عمر ! أتدري من السائل؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم}" هذا الحديث من أعظم الأحاديث في الإسلام، والتي عليها مدار الدين كله، وله من الأهمية والمنزلة في دين الإسلام الشيء العظيم.
  1. أهمية حديث جبريل

    وهناك بعض الجوانب التي توجب العلم بهذا الحديث، وضرورة حفظه ومعرفته، وأن نحفظه لأهلنا ولأبنائنا ونعلمه الناس:
    أولاً: أن هذا الحديث اشتمل على مراتب الدين الثلاث: الإسلام، والإيمان، والإحسان، وكل مرتبة منها مذكور ومبين فيها أركانها جميعاً، ولهذا قال في آخره {هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينك}، وكلمة الدين تشمل الإسلام والإيمان والإحسان، فديننا الذي أنزله الله تبارك وتعالى هو هذه المراتب الثلاث، ويشملها هذا الحديث جميعاً، بخلاف غيره من الأحاديث؛ فإنك قد لا تجد حديثاً شملها بهذا الترتيب، وإنما هناك أحاديث فيها نوع من التداخل، فتذكر بعضاً من أركان الإسلام مع بعض من أركان الإيمان.
    ثانياً: أن هذا الحديث من آخر الأحاديث التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهو قبل وفاته بنحو ثمانين ليلة -كما ورد في بعض الروايات- أي: بعد عودته من حجة الوداع، قبيل وفاته صلى الله عليه وسلم بمدة يسيرة وهذا مما يجعله شاملاً؛ لأن هناك أحاديث وردت فيها أركان الإيمان وأركان الإسلام، ولكن ليس فيها الأركان الخمسة للإسلام، أو ليس فيها الأركان الستة للإيمان؛ وذلك لأحد سببين: إما لأنها لم تكن قد فرضت كالحج مثلاً، فإن فرضه كان متأخراً، فهناك آيات وأحاديث تذكر الصلاة والصيام فقط ولا ذكر فيها للحج. وإما لأن المقام لم يكن مقام بيان لمراتب الدين جميعاً؛ بل كان لبيان بعض منها، فمثلاً: حديث وفد عبد القيس لما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: {يا رسول الله! إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام فبم تأمرنا وبم تنهانا؟ قال: آمركم بالإيمان بالله، أتدرون ما الإيمان بالله؟ قال: أن تشهدوا أن لا إله إلا الله، وتقيموا الصلاة، وتؤتوا الزكاة، وتدفعوا الخمس من المغنم} وله روايات أخرى صحيحة.
    ففي هذا الحديث أن الإيمان خصه النبي صلى الله عليه وسلم ببعض من أركان الإيمان، وبواجبات أخرى ليست مما ذكرت في حديث جبريل؛ لا من أركان الإيمان ولا من أركان الإسلام؛ إذاً اقتصار الحديث على المذكور أولاً مما يبين أن الحديث متقدم؛ لأنهم قالوا: (إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر)، وهذا يدل على أن هذا الحديث كان في وقت لم يكن الإسلام فيه قد عم جزيرة العرب، أما في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم فقد كانت جزيرة العرب قد دخلت جميعاً في الإسلام ومنها مضر، فما جاء بعد ذلك فهو أوفى وأشمل.
    ومثله حديث شعب الإيمان: {الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون شعبة}، فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الإيمان وبين شعبه، لكنه لم يفصل مراتب الدين الثلاث، ومن هنا نرى أن كل هذه الأحاديث لها فضلها وقيمتها، وهي بمجموعها تبين لنا حقيقة الإيمان ومعناه؛ لكن حديث جبريل عليه السلام يعتبر أعظمها وأبينها وأكثرها تفصيلاً.
    ثالثاً: أن جبريل عليه السلام أتى بنفسه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجلس بين يديه جلسة المتعلم أمام المعلم؛ وهذا دليل على أن الأمر مهم، فلو أن إنساناً علّم آخر وفهمه كل شيء، وتأكد من ذلك، إلا أنه يريد أن يراجع معه كل ما قد قيل ليسمع الآخرون الذين يريدون أن يتعلموا، أو يجب أن يعلموا مثلما علم هذا، فالمعلم سوف يسأل هذا التلميذ أو المبلّغ فيجمل ما قد علم ثم يفصله جميعاً ليسمع الآخرون الذين يجب عليهم أن يعلموا مثل ذلك، فجاء جبريل عليه السلام وهو المعلِّم الذي كان يعلم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الشرائع وهذه الأركان، وينزل بها منجمة حسب الحوادث، ثم في الأخير يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الهيئة الغريبة، وعندما يأتي إنسان غريب فإن ذلك أدعى إلى الانتباه والنظر، فالناس يتعجبون من هذا الغريب، لماذا جاء؟! وماذا يريد؟ ونحن لم نره من قبل ولا يعرفه منا أحد؟ وذلك لأن بيئة العرب في ذلك الزمن إذا جاء إنسان مسافر -ولاسيما وهم أهل الفراسة والذكاء- يعرفون من أي قبيلة هو؛ من شكله وكلامه، وهذا مظهره يدل على أنه ليس مسافراً؛ وليس من أهل المدينة فهم معروفون، ومن العجيب أنه شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه أحد.. كل واحد ينظر في الآخر.. الجميع مبهوتون من هذا الذي يسأل! لأنه إنسان خارج عن المعهود من حال العرب والأعراب، والزوار والوفود الذين يأتون إلى المدينة ويسألون النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذا السائل له حال تختلف كل الاختلاف عما هو معهود، ولهذا الصحابة رضوان الله تعالى عليهم تعجبوا منه؟! ثم عجبوا أكثر لما جلس جلسة السائل المتعلم المستفهم، ومع ذلك يسأله ويصدقه، قد يأتي وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويسأله ليتعلم، لكن هذا يسأله ثم يقول: صدقت، هذا شيء عجيب! {فعجبنا له يسأله ويصدقه} إذاً هذا ليس مقام المتعلم، وإنما هو مقام المعلم الذي يناقش من كان قد علمه، ويريد أن يعلم الآخرين، والنبي صلى الله عليه وسلم يبين المراد بقوله: {أتاكم يعلمكم دينكم}، ولهذا حفظ الصحابة رضوان الله تعالى عليهم ذلك الموقف كما رواه عبد الله بن عمر عن أبيه عمر رضي الله عنه.
  2. حديث جبريل يرد على من أنكر القدر

    ومن المناسب أن يكون سبب تحديث ابن عمر بهذا الحديث -حديث جبريل- هو إنكار القدر؛ فقد جاء نفر من أهل العراق من التابعيين إلى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه فأخبروه -كما في رواية مسلم، وهي أكمل سياقاً من رواية البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، وليس في رواية البخاري ذكر سبب تحديث ابن عمر بذلك، وهو في مسلم وغيره- أنه ظهر عندهم قوم يزعمون أن لا قدر، وأن الأمر أنف -أي: مستأنف، فليس هناك أمر سابق، وإنما الأمر مستأنف جديد، وأن كل ما يقع فهو جديد، فإذا وقع قدره الله أو علمه الله كما نعلم نحن- فقال ابن عمر رضي الله تعالى عنه: [[أخبرهم أني منهم بريء، وأنهم مني برآء]]، ثم ذكر هذا الحديث عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكان التكذيب بالقدر هو السبب في تحديث هذا الصحابي الجليل رضي الله تعالى عنه به، والإيمان بالقدر هو أول ركن أنكره الناس من هذه الأمة، فإنهم لم ينكروا الإيمان بالله ولا بكتبه ولا برسله ولا باليوم الآخر، وإنما أنكروا القدر، ومع ذلك فإن إنكارهم للقدر يجعلهم في صفوف الكفار -لأنهم بذلك ينكرون العلم- لأن الله سبحانه وتعالى قد أقام على العلم من الأدلة ما يعرفه الناس في الجاهلية والإسلام.
  3. الرؤيا المنامية دليل على علم الله السابق لأفعال العباد

    نذكر بهذه المناسبة شيئاً مما يذكر ويكرر دائماً في علم النفس وما أشبهه، وهو يدل على علم الله سبحانه وتعالى بالأشياء قبل وقوعها، ولكن الذين لا يؤمنون بالله عز وجل لا يعلمون لذلك تفسيراً، وهو مسألة الرؤيا المنامية، فقد يرى الإنسان في المنام -سواء كان مؤمناً أم كافراً- أنه سيكون كذا وكذا، والذي يحدث أن ذلك يقع كما رأى، فهم يعجبون ويعجزون عن تفسير هذه الظاهرة، ولا يستطيع أحد أن ينكرها؛ لأنها متواترة، وربما لا يخلو إنسان إلا وقد وقعت له مؤمناً كان أو كافراً، فكيف يفسر هذا؟
    وقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم رؤى للمؤمنين وللكفار، وكلها تحققت، وذلك كرؤيا يوسف عليه السلام، ورؤيا الملك -عظيم مصر- مع أنه كافر، ومن المعلوم أن رؤيا الأنبياء حق وهي من الوحي، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رؤى وتحققت، لكن هذا ليس خاصاً بهم؛ بل أي إنسان ولو كان كافراً قد يرى رؤيا ثم يصبح خائفاً فزعاً يقول: رأيت البارحة أنه ستنزل بي مصيبة أو حادث، ويقع له فيما بعد نفس ما رأى في المنام، وهذا يدل على أن الأمور مكتوبة، وأن الله سبحانه وتعالى أطلعه على ذلك الشيء لحكمة ما، ومن تلك الحكم أن يثبت بها المؤمن ويروع بها الكافر، وقد تكون سبباً لهدايته إذا أراد الله له الهداية، أو لحكم أخرى عظيمة، لكن ما يقع لا يشبه الرؤيا من جميع الوجوه، وتكون الرؤيا كأنها نموذج يشبه البروفة للمسرحية قبل أن تنفذ، فإذا وقعت تتذكر أن هذا هو الذي قد رأيت وليس شيئاً جديداً، فلولا أن هناك شيئاً مقدراً مسبقاً لما تطابق عندك هذا الذي وقع مع ما قد رأيت من قبل، فعندما يرى الإنسان مثل هذه الرؤيا، مثلاً: إنسان غائب عنك منذ سنين، ولم يخطر على بالك أنك سوف تراه، وإذ بك في المنام تراه وتكلمه، وإذا به في اليوم الثاني يأتي إليك. سبحان الله! إنه شيء يثير تعجبك!
    وهذا مما يدل على علم الله تعالى، وأنه قد يطلع العبد على أشياء مما سبق من العلم ليزداد المؤمن إيماناً، ولتقوم الحجة على الكافر، ولا يفقه ذلك إلا العالمون، ولا يقر به إلا المؤمنون بالله سبحانه وتعالى وبعلمه السابق؛ فإن كل ما سيكون فهو عند الله سبحانه وتعالى معلوم ومكتوب في اللوح المحفوظ، فإذا شاء الله أن يطلع العباد على شيء منه أطلعهم، وإن لم يشأ لم يطلعهم، وقد جفت الأقلام وطويت الصحف، والأمر قد قضي كله.
    وهذا من الأدلة على هذه المسألة، فالذين أنكروا علم الله سبحانه وتعالى أول الأمر، وظنوا أن الأمر أنف -أي: مستأنف، وليس فيما قد سبق في علم الله- هؤلاء يعتبرون كفاراً؛ لأنهم أنكروا علم الله تعالى وكفروا وكذبوا بهذا الركن من أركان الإيمان كما جاء في حديث جبريل عليه السلام.