المادة كاملة    
لا يزال الكلام في هذا الدرس مسترسلاً عن أهل الكلام، مع بيان موقف السلف من هذا العلم، وذكر بعض صور تعقيد أهل الكلام لصفات الله تعالى، ووضوح منهج أهل السنة والجماعة في إثبات هذه الصفات بدون تعقيد، بما يوافق الفطرة السليمة الخالية من لوثات المتكلمين. وجاء بعد هذا الحديث عن الألفاظ المجملة وموقف أهل السنة منها، مع الكلام عن بعض هذه الألفاظ.
  1. الغاية من علم الكلام

     المرفق    
    1. هدم الدين وإفساده

      قَالَ المُصنِّفُ -رحمه الله تعالى-:
      [وكلام مثله في ذلك حجة بالغة والسلف لم يكرهوه لمجرد كونه اصطلاحاً جديداً عَلَى معان صحيحة، كالاصطلاح عَلَى ألفاظ لعلوم صحيحة، ولا كرهوا أيضاً الدلالة عَلَى الحق والمحاجة لأهل الباطل، بل كرهوه لاشتماله عَلَى أمور كاذبة مخالفة للحق، ومن ذلك: مخالفتها للكتاب والسنة وما فيه من علوم صحيحة، فقد وعّروا الطريق إِلَى تحصيلها وأطالوا الكلام في إثباتها مع قلة نفعها، فهي لحم جمل غث عَلَى رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى، وأحسن ما عندهم فهو في القُرْآن أصح تقريرا، وأحسن تفسيرا، فليس عندهم إلا التكلف والتطويل والتعقيد كما قيل:
      لولا التنافس في الدنيا لما وضعت            كُتْبُ التناظر لا المغني ولا العمد
      يحللون بزعـمٍ منهمُ عقــدا            وبالذي وضعوه زادت العقـد
      فهم يزعمون أنهم يدفعون بالذي وضعوه الشبهه والشكوك والفاضل الذكي يعلم أن الشبهه والشكوك زادت بذلك]اهـ.
      .
      الشرح :
      لقد دخل أهل الكلام في هذا الدين كما دخل المنافقون من قبل وأخذوا يهدمون ويفسدون في هذا الدين، فمما أفسدوا في هذا الدين قولهم: إن القُرْآن غير معجز وأنه بإمكان أي إنسان أن يأتي بمثل هذا القُرْآن إلا أن الله صرفهم عنه، وقد سبق هذا مبحث الكلام عَلَى القُرْآن والخلق وقولهم كما قال النظام: إن الخبر لا يقبل إلا إذا رواه جمع عن جمع، وأنكروا خبر الآحاد، يريدون بذلك هدم السنة؛ لأننا إذا اشترطنا في أي حديث أن يرويه جمع عن جمع، وهذا الجمع اختلفوا في تحديده، حتى قيل عن بعضهم: لا بد أن يكون سبعين عن سبعين، ولا يوجد عندنا إلا النادر وقليل جداً الذي يمكن أن يرويه هذا العدد جيل عن جيل إِلَى جيل.
    2. الهدف من وضع مصطلحات جديدة لعلم التوحيد

      هناك أناس يهدفون إِلَى إبطال دلالة الكتاب والسنة، وهَؤُلاءِ لا يمكن وصف غرضهم بأنه وضع اصطلاحات جديدة لعلم التوحيد بحجة تفهيمه للأمة لتسير عليه، وإذا نظرنا إِلَى واقع السلف الذين أنكروا عَلَى أهل هذا العلم نجدهم لا ينكرون أي اصطلاحات في أي علم من العلوم، مادام ليس فيها بدعة وضلال.
      وكذلك إذا نظرنا إِلَى حال من أنكر عليهم السلفُ من أمثال بشر ومن جَاءَ بعده من أصحاب الكلام كـعبد الجبار لم ينكر عليهم لوضع اصطلاحات جديدة إلا لأنها تهدف إِلَى إبطال دلالة النصوص الشرعية، وألفت الكتب المعروفة في كتب العقيدة التي تضع أبواباً في ذم علم الكلام لما ظهر أئمة البدع.
  2. موقف السلف من علم الكلام

     المرفق    
    سبق أنه لم يكن أحد من علماء السلف ينتقد هَؤُلاءِ لمجرد أن هناك اصطلاحات جديدة، وأيضاً إذا نظرنا إِلَى حال الذين وضعوا علم الكلام لا نجدهم من علماء الإسلام الذين اشتغلوا واهتموا به ولكنهم وضعوا اصطلاحات جديدة لهذا العلم كما وضع الفقهاء اصطلاحات فقهية وكما وضع النحاة والمفسرون وسائر العلماء لسائر العلوم، فالسلف إذاً: لم يكرهوا الدلالة والاستدلال عَلَى الحق والمناظرة.
    1. تكفير الإمام الشافعي لأحد أعلام المعتزلة

      إن الإمام الشَّافِعِيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- ناظر حفصاً الفرد أحد المعتزلة وقال كفرت -بالله العظيم عَلَى هذا الاعتقاد وناظر غيرهم من أهل البدع.
      والمعتزلة لا يخفى عَلَى أحد من الْمُسْلِمِينَ أنهم خارجون عن الطريق المستقيم وعن السنة والجماعة.
    2. هل الأشاعرة على طريق أبي الحسن الأشعري أم لا ؟

      لكن الذين اشتغلوا بعلم الكلام ممن ينتسبون إِلَى أبي الحسن الأشعري يقولون: نَحْنُ علماء كلام أهل السنة، والمعتزلة علماء كلام أهل البدعة، ونحن ندافع عن السنة، وهدفنا إثبات الحق والعقيدة الصحيحة، والاستدلال للحق، وهَؤُلاءِ ينتسبون وينتمون إِلَى الإمام الشَّافِعِيّ، ولهذا نجد كتاب تبيين كذب المفتري فيما نسب إِلَى الإمام الأشعري الذي ألفه الحافظ ابن عساكر وقد وقع الحافظ -رَحِمَهُ اللَّهُ- في هذه الغلطة مع أنه أورد معظم كتاب الإبانة للأشعري ضمن كتابه الذي يقول فيه أبو الحسن الأشعري: إنه في الأصول والفروع في العقيدة عَلَى ما كَانَ عليه الإمام أَحْمد بن حَنْبَل -رحمه الله تعالى- والسلف الصالح وأثبت جميع الصفات وأثبت أن الإيمان قول وعمل وأثبت القدر، أثبت كل شيء عَلَى منهج السلف ومع ذلك هم متمسكون بما كَانَ عليه من قبل.
      وابن عساكر مع أنه جَاءَ بقطعة كبيرة جداً من الإبانة ضمن الكتاب هذا؛ لكنه استدرك في ترجمة الأشعري ابتداءً من صفحة (333) من الكتاب الذي حققه الكوثري يقول في معنى كلامه: فإن قيل إن غاية ما مدح به الأشعري ومن اتبعه أنه متكلم، وقد ورد في ذم علم الكلام ما هو معلوم عند السلف فكيف توفقون بين هذا وهذا؟ فأورد الإشكال وأراد أن يحله، لكنه لم يستطع.
      فنقل عن الشَّافِعِيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- وعن غيره ما ذموا به الكلام وأهله ثُمَّ حل المشكلة فقَالَ: (إن ما ذَمَّ به الشَّافِعِيّ وغيره من العلماء علم الكلام إنما هو علم الكلام البدعي وأما ما اشتغل به الأشعري ومن اتبعه فإنه علم الكلام السني)، فهل هذا الكلام صحيح؟
      لو نظرنا ودققنا فإنه ما دام أنه علم كلام فهو مذموم، واستدل بأن الشَّافِعِيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- الذي أورد هذا الذم لعلم الكلام نقد حفصاً الفرد وغيره، وذكر بعض النصوص التي نقلها عن طريق الخطيب البغدادي وغيره أن الشَّافِعِيّ ناظر وجادل أهل البدع. وكما قال المصنف: هنا لا يكره السلف الصالح ولا يمنعون الدلالة عَلَى الحق ولا المحاجة لأهل الباطل.
      فكتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- فيه المحاجة للمشركين وفيه المحاجة لليهود وللمنافقين، وفيه أيضاً بيان ومنهج في محاجة أصحاب المعاصي الذين يغفلون عن الله -عَزَّ وَجَلَّ- ويرتكبون ما حرم الله، فنجد أن في القُرْآن ما ينير لنا الطريق ويدلنا كيف نجادل جميع أنواع المنحرفين حتى قال عبد الله بن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- حبر الأمة وترجمان القُرْآن (ما من شبهة إِلَى أن تقوم الساعة إلا وجوابها في كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- علمها من علمها وجهلها من جهلها) ففيه الهدى الكامل والشفاء الكامل، والجواب الكامل عن كل شبهة.
  3. الجدل لفظ مجمل

     المرفق    
    إن الجدل ليس ممنوعاً بإطلاق ولا ممدوحاً بإطلاق.
    وأعظم من ذلك أننا نستدل عَلَى الحق بالبراهين العقلية والنظرية؛ فالله -عَزَّ وَجَلَّ- استدل عَلَى أعظم قضية كَانَ ينكرها المُشْرِكُونَ -وهي قضية البعث بعد الموت- بالأدلة العقلية الحسية المشاهدة، مثل ضرب المثل في الأرض الهامدة كيف أن الله ينزل عليها الماء فتحيا وكذلك يحي الموتى، وغير ذلك من الآيات التي جعلها الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أمثلة وعبر، فالجدال والاستدلال للحق ليس مذموماً.
    لكن الاستدلال للحق بالمنهج الكلامي هو المذموم، وهذا هو الذي كرهه السلف الصالح -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُم- فكرهوه، كما قَالَ: [لاشتماله عَلَى أمور كاذبة مخالفة للحق، ومن ذلك مخالفتها للكتاب والسنة، وما فيه من علوم صحيحة، فقد وعروا الطريق إِلَى تحصيلها، وأطالوا الكلام في إثباتها مع قلة نفعها] ثُمَّ ذكر المثل المعروف عند العرب [فهي لحم جمل غث، عَلَى رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى] فحال علماء الكلام غاية ما فيه أنهم يحصلون قضايا بدهية، كما قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ- في درء تعارض العقل والنقل وهو الخبير بهم وبأحوالهم يقول: إن ما اتفق عليه الخائضون في الأمور العقلية من فلاسفة ومتكلمين لا يكادون يتفقون إلا عَلَى ما يتفق عليه عقلاء بني آدم الذين لم يتعلموا من علم الكلام شيئاً. وإذا أراد علماء الكلام أن يضربوا مثلاً في قضية متفق عليها ماذا يقولوا؟ كما أن الكل أكبر من الجزء.
    إذاً: ما دام الجزء من الشيء فالشيء كله أكبر من جزئه، فيأتون بهذا المثال من شدة ما أفلسوا في القضايا البرهانية لم يبق لديهم إلا الاستدلال عَلَى أمور لا ينكرها ولا يكابر فيها أحد من العقلاء حتى الذين لم يشغلوا أنفسهم بهذه العلوم، وقوله: [وأحسن ما عندهم فهو في القُرْآن أصح تقريراً، وأحسن تفسيراً، فليس عندهم إلا التكلف والتطويل والتعقيد] هذا هو حال علماء الكلام: فلو أرادوا أن يثبتوا صفة الإرادة مثلاً يقولون: إذا نظرنا إِلَى الكون نجد أن فيه تخصيص. هذا طويل، وهذا قصير، وهذا غني، وهذا فقير، ويطيلون بكلام لا يكاد يفهم صفحات طويلة تخرج منها بأن الخالق الذي خلق هذا البشر مريد، وهذه القضية بدهية عند كل مسلم: أن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يريد ويفعل ما يريد، كما هو في الكتاب والسنة لكنهم لا يريدون هذه الطريق، وإنما يريدون الطرق العقلية كما يقولون، ولهذا قال هذا الشاعر الذي لم نعثر عَلَى اسمه، ولا عَلَى عصره؛ لكنه قال بيتين وهما في معناهما من أجود ما قيل يقول:
    لولا التنافس في الدنيا لما وضعت            كُتْب التناظر لا المغني ولا العمـدُ
    يحللـون بزعم منهـم عقـدا            وبالذي وضعوه زادت العقـدُ.
  4. مفهوم التنافس في الدنيا عند أهل الكلام

     المرفق    
    التنافس في الدنيا هو الذي أدى إِلَى أن توضع كتب التناظر وكتب المقالات وذكر مثالين: المغني وهو كتاب للقاضي عبد الجبار المعتزلي المتوفي سنة (415) وهو أكبر وأجمع كتاب من كتب المعتزلة وهو في علم الكلام وفي الضلال، والقاضي عبد الجبار هو: إمام المعتزلة المتأخرين، ولم يظهر في المعتزلة بعده مثله وحتى قبله النظام والعلاف كانا في الابتداء، وأكبر مصدر ومرجع للمعتزلة هو كتاب المغني.
    وكتب القاضي عبد الجبار مجلدات ومنها: كتاب الأصول الخمسة الذي شرح فيه الأصول الخمسة التي هي أصول المعتزلة، وقد نقب المستشرقون وأتباعهم وأذنابهم عن كتاب المغني في جميع مكتبات العالم، وهو مكون من عشرين مجلداً ولم يستطيعوا أن يظفروا إلا بأربعة عشر مجلداً متفرقة غير مرتبة، والستة الأخرى ضائعة، وهم متحسرون عليها، ونرجو أن لا يجدوها، ولا يوجد فيه إلا كما قَالَ المُصنِّفُ هنا: [لحم جمل غث، عَلَى رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى] بعد طول الكلام المعقد غير المفهوم يقرر شيئاً جَاءَ في آية، أو في حديث عن النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويُغني عن كل ما كتب هذا الرجل من تعقيد وتطويل.
    وأما كتاب العمد هذا، فهو لـأبي الحسن الأشعري: ويمتاز كتاب العمد عن بقية كتب الأشعري بأنه ذكر فيه كتبه وهي تعد بالمئات قيل: إنها مائتين وقيل إنها ثلاثمائة كتاب ألفها الأشعري قد تكون رسائل صغيرة، وقد تكون مجلدات، فقد قال في كتابه العمد: رددت عَلَى المجوس وعلى النَّصارَى وعلى الثنوية وعلى النظام وعلى العلاف وعلى ابن الراوندي وعلى ابن الخياط وعلى الكعبي وعلى الخالدي وعلى كذا وعلى كذا.. ذكر أصنافاً من أهل الضلالة، ومن أمم الكفر رد عليها.
    وكتاب العمد خاص لإثبات الرؤية؛ لكن كيف يثبت الأشعرية الرؤية؟ وننظر كلام المُصنِّفُ لنرى التطويل والتعقيد.
    يقولون: هذه الرؤية ليست في جهه، يعني: ليس أحد لا الرائي ولا المرئي في جهة وليس فيها تقابل، أي أن: الإِنسَان ليس في مقابل الله -عَزَّ وَجَلَّ- وليس فيها أبعاد ولا فيها كذا ولا كذا فعقدوا الموضوع.
    ولو جئنا إِلَى أحد من أهل السنة وقلنا له: هل تثبت الرؤية؟
    فسيقول: نعم، قال الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ))[القيامة:22، 23] تقول له: كيف يُرى؟ يقول: قال الله عَزَّ وَجَلَّ:((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [الشورى:11] لا نعلم الكيفية، فهذا عالم الآخرة لا ندركه، وإننا لا ندرك حقائق الجنة والنَّار ونعيمها، فضلاً عما يتعلق بالله عَزَّ وَجَلَّ.
    هذه الخلاصة أن تأتي بآية أو بآيتين من كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- وتريحك عما عداها، وهم يأتون بفلسفات: هل النظر لا بد أن يكون من شعاع ينطلق من العين ويقع عَلَى المرئي؟ أو يخرج من المرأي، والبعد والجهة والمقابلة كلام طويل جداً، وفي الأخير نثبت رؤية لا تتفق مع ما جَاءَ في الكتاب والسنة. وغاية ما فيها أننا دحضنا شبهات المعتزلة في إنكار الرؤية بحجج لو جَاءَ في المعتزلة من هو أذكى لنقض هذه الحجج، ولقَالَ: لا تتصور المقابلة إلا بين اثنين متناظرين.... إلخ.
    ولكن إذا قلنا: قال الله، وقال رَسُول الله، ألجمنا المخالف إلجاماً تاماً، وأثبتنا ما جَاءَ في الكتاب والسنة وكنا عَلَى يقين وثقة من أننا لم نقلد فلاناً من النَّاس الذي قد يرد عليه فلان، إنما اتبعنا ما أنزل الله عَلَى مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال الإمام مالك: (أو كلما جَاءَ أحد هو ألحن بحجته من الآخر تركنا ما نزل به جبريل عَلَى مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لقول ذلك الآخر)
    لا نقف عند حد إذاً: لا المغني ولا العمد يعطينا الحق الذي نريده، وإنما تطويل وتعقيد وتكلف، والشاعر بهذين المثالين يشير إِلَى أن علم الكلام وكتب المناظرات والمقالات لكلا الفرقتين المعتزلة والأشاعرة لم يحصلوا فيها العلم النافع، ولم يدلونا عليه ولن يفعلوا ذلك فإنما وضعت الكتب في هذا العلم من أجل التنافس عَلَى الدنيا فأشار بـالمغني إِلَى المعتزلة وبـالعمد إِلَى الأشعرية.
    والمقصود بالتنافس عَلَى الدنيا هنا ليس بمعنى الحصول عَلَى المال، وإنما هو إثبات أن الإِنسَان لم يفحم في المناظرة، فالتنافس كَانَ عَلَى المكانة الدنيوية، وكان يعز عَلَى أي متكلم أن يُقَالَ: إن فلاناً قد غلبك وأفحمك، فالتنافس من أجل أن يُقَالَ: فلان رد عَلَى فلان وفلان غلب فلاناً، هذا الذي كَانَ عليه علماء الكلام في السابق، وهم لا يسمون علماء إلا بالتقييد، ولا يدخلون في العلماء -وكما سبق أن أوضحنا أنه إذا وقف أحدٌ ماله، وقَالَ: هذا وقف للعلماء أو لطلبة العلم، فلا يدخل فيه علماء الكلام- لأن علم الكلام ليس بعلم كما في فتاوى أهل العلم، وحتى لا يُقَالَ: فلان غلب فلاناً، كَانَ كل منهم يفتعل الحجج والبراهين، ويفتري عَلَى الخصم الآخر ليبين أنه لم يغلب وأنه لم يهزم.
    ومن الأدلة عَلَى ذلك: أنهم يكتبون عن مذهب السلف الصالح فيقولون: قالت الحشوية: إنه تَعَالَى جسم عَلَى العرش يمسه كما يمس الجسم الجسم إذا وضع عليه، ثُمَّ يردون عَلَى هذا الكلام الذي هو من وضعهم وعندهم فيه خبرة، وعندهم كلمة "المثلية" فيقولون: لا يمكن أن يكون جوهر عَلَى جوهر، ولا جسم عَلَى جسم...، وهم لم يردوا عَلَى منهج السلف وإنما ردوا عَلَى الكلام الذي وضعوه ثُمَّ نقضوه، فالتنافس يمكن أن يفسر بأنه تنافس في المناظرة والمجادلة.

    والمناظرة والمجادلة غالباً ما تحمل صاحبها عَلَى التمحل، وعلى أن يكون للنفس حظ في هذا الجدل؛ ولهذا نُهينا عن الجدال إلا لحاجة وبالتي هي أحسن؛ حتى مع أهل الكتاب كما قال الله تعالى: ((وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) [العنكبوت:46] ((وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن))[النحل:125] أي: نبين الحق وندحض الباطل ولا نكثر الجدال معهم. ولا نسترسل ليصبح مراءً، فالأمر عند هَؤُلاءِ ليس أمر اقتناع ولا نقص في الحجج ولا ضعف فيها، ولكنه هوىً يجمح بهم، فعلينا أن نوضح لهم الطريق، فإذا استبانت سبيل المجرمين، تركناهم وشأنهم.
  5. سلامة منهج أهل السنة من التعقيد في إثبات الصفات

     المرفق    
    أما قول الشاعر عن المتكلمين:
    يحللون بزعم منهم عقدا            وبالذي وضعوه زادت العقد
    معناه: أن أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ لا تعقيد عندهم، فمثلاً: في إثبات صفات الله عَزَّ وَجَلَّ، نأخذ كتاب العقيدة الواسطية لشَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ-رَحِمَهُ اللهُ- فإنه يأتي بالآيات والأحاديث، وأيُّ إنسان عنده فهم يستطيع أن يقرأ هذه الآيات وهذه الأحاديث؛ فيجد أن هذا منهج واضح في إثبات صفات الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ولا شبه فيه ولا شك ولله الحمد، لكن إذا قارنت هذا بـالمغني أو بـالعمد أو بأي كتاب من كتب الكلام قديمها وحديثها تجد الفرق والبون شاسعاً بين منهج يقوم عَلَى الوحي ميسر مقرب واضح، وبين منهج يقوم عَلَى الكلام، والفلسفة والجدال.
    فأعقد مسألة في العقيدة وأكثرها إشكالاً -مثلاً مسألة الصفات- وربما تكون أكثر من ذلك وهي مسألة القدر، وإذا سمعت من يتكلم في القدر بمجرد الكلام العقلي، فإنك تسمع كلاماً كثيراً جداً!! إن كَانَ مؤلفاً فقد يكون مجلدات، وإن كَانَ كلاماً فقد يكون ساعات أو محاضرات من أجل إثبات القدر، وهذه حقيقة معروفة.
    واسألوا من قرأ في هذه الكتب التي كتبت عَلَى الطريقة الكلامية في القدر، ماذا استفاد بعد أن انتهى من الكتاب؟ يشك، ويحتار كثيراً، ويذهب ليسأل العلماء، ويكون حاله بعد أن قرأ أسوأ من حاله قبل أن يقرأ، وإذا سمع كلاماً من هذا النوع عن القدر، تزداد لديه الشبهات، أن يقول: وفي الأخير يقول: لم أفهم ما قال؛ فيذهب يبحث عند هذا المتكلم أو عند غيره، وتستمر عملية البحث فيصبح في حيرة وقد لا يخرج منها -والعياذ بالله- وقد تنقدح في قلبه شبهات لا تحل أبداً نسأل الله السلامة والعافية.
    ولو نظرنا في منهج السلف الصالح في أي كتاب من كتب السلف يمكن أن نثبت كل موضوعات القدر من أولها إِلَى آخرها بعدة آيات وأحاديث، ولا يبقى بعد ذلك شبهة أبداً.
  6. مراتب القدر عند أهل السنة والجماعة

     المرفق    
    فمراتب القدر عند أهل السنة نثبتها بآيات وأحاديث لا تعقيد فيها:
    1. مرتبة العلم

      فنثبت العلم لله عَزَّ وَجَلَّ أنه عليم بما كَانَ وما سيكون يقول الإمام أَحْمَد -رَحِمَهُ اللَّهُ: "ناظروا القدرية بالعلم" فاختصر علينا الطريق، ومعنى ذلك: قولوا لهم: هل يعلم الله ما سنفعل من خير أو شر، وما سيقع إِلَى أن تقوم الساعة؟
      فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروه كَفَرُوا أي: أننا من غير أن نبحث عن علاقة فعل العبد بفعل الرب، والتأثير، والكشف، نمسك الطريق من أوله، ونقول له: أتؤمن أن الله يعلم ما كَانَ وما سيكون إِلَى قيام الساعة، ويعلم من سيطيعه ومن سيعصيه، فإذا أقر بهذا خصم حينئذ يقال له: من علم ذلك، أليس هو الذي خلقه؟! أليس هو الذي أوجده؟! أليس مبنياً عَلَى العلم والعلم مقتضاه الحكمة والعدل والرحمة؟!
      وإذا أنكروا علم الله كفروا؛ لأنهم أنكروا ما هو معلوم من كتاب الله وعند جميع الْمُسْلِمِينَ بالضرورة.
    2. مرتبة الكتابة

      والمرتبة الثانية: بعد مرتبة العلم أن الله كتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما في الحديث الصحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {أول ما خلق الله القلم، فَقَالَ له: اكتب، قال: وما أكتب، قال: اكتب مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة} فكتب ما كَانَ وما سيكون من خير أو شر، من مصيبة أو طاعة أو معصية، فكل شيء مكتوب في اللوح المحفوظ كما قال تعالى: ((وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ))[يس:12].
      فنقول لمن يشكك في القدر: هل تؤمن بالمرتبة الثانية، وهي: أن الله كتب مقادير كل شيء؟ فَيَقُولُ: نعم، ولا يستطيع أن ينكر هذا؛ لأنه لو أنكره لكان حكمه كحكم من أنكر العلم.
    3. مرتبة المشيئـة

      المرتبة الثالثة: وهي أن نثبت أن لله تَعَالَى مشيئة، وأنه -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يفعل ما يشاء، كما قال الله تعالى:((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ))[التكوير:29] ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)) [البقرة:253] ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ))[الأنعام:112] ((وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً)) [يونس:99] آيات كثيرة في إثبات المشيئة.
    4. مرتبة الخلق

      المرتبة الربعة: مرتبة الخلق فأمر علمه الله وكتبه وشاءه، فما المانع من أن يخلقه؟ فخلق الله تَعَالَى هذا الفعل طاعة كَانَ أم معصية.
      فإن قَالَ: قائل أمر كتبه الله وشاءه وخلقه إذاً ماذا أعمل؟ نقول: هذا الكلام سبق إليه أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولا يمكن أبداً أن يأتي أي جيل من الأجيال أذكى وأدق وأعلم من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى في الأمور السياسية، وفي فن القتال، ونحن نتحدى كل العالم في الزمان الماضي وفي المستقبل أن يأتوا في منهج السياسة العادلة الحكيمة مثل سياسة عُمَر -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- أو في القضاء مثل أي قاضي من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو في فن القتال والتخطيط الحربي مثل أي أحد من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله لا يستطيعون ولن يستطيعوا أبداً، فكيف يكون حالهم في أمر الدين والعقيدة، الذي تفجرت به هذه الطاقات ووجدت هذه المعارف وهذه العلوم التي لا تُحصّل أبداً بدون الإيمان!!
      فالصحابة -رضوان الله عليهم- انتبهوا لهذه اللفظة وقالوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يا رَسُول الله: ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضى عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم فقال لا بل شيء قضى عليهم ومضى فيهم }، وهذا الحديث صحيح روي بعدة روايات وفي رواية أخرى {قالوا: ففيم العمل يا رَسُول الله؟}.
      السؤال سألوه وهم أفضل وأذكى جيل. قالوا: يا رَسُول الله إن كَانَ العمل في أمر قد قضي ومضي وجفت به الصحف ورفعت الأقلام ففي أي شيء العمل؟
      قَالَ: النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {بل اعملوا فكل ميسر لما خلق له فمن كَانَ من أهل السعادة فهو ميسر لعمل أهل السعادة، ومن كَانَ من أهل الشقاوة فهو ميسر لعمل أهل الشقاوة، وقرأ ((فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى))[الليل:5-10]}
      أذكى النَّاس في الدنيا سألوا هذا السؤال، وأجابهم أعلم الخلق عَلَى الإطلاق بالله عَزَّ وَجَلَّ وبالقضاء والقدر، قال لهم: (اعملوا) وقَالَ: {كلٌ مُيَسرٌ لِمَا خُلِقَ لهُ} وعندما يأتي حديث عبد الله بن مسعود -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: {وأن الملك يكتب عند نفخ الروح أربع كلمات رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد} نفهم هذا الحديث بنفس كلام عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ لما قَالَ: [[السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه]] فالمعنى واحد: السعادة كتبت عَلَى الإِنسَان فيسر لها، والشقاوة كتبت عَلَى الإِنسَان فسوف ييسر لعمل أهل الشقاوة. ومع ذلك أمرنا بالعمل. إذاً: لا يوجد لأي إنسان مجال أن يقول نريد في أمور الدين أن نشقق وأن نحلل وأن نوضح؛ لأن هذه التفريعات والتشقيقات والتحليلات لا تزيد الأمر إلا تعقيداً، كما قال هذا الشاعر:
      يحللون بزعم منهم عقدا            وبالذي وضعوه زادت العقد
      فيعقدون المسألة في أي باب من أبواب الإيمان بالله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-
      وستأتي النقولات عن أئمة الكلام واعترافاتهم وبعضهم لا يعترف إلا عند الموت كما فعل الجويني، والرازي أو قريب الموت كما فعل الغزالي حين يكون العمر لا يسمح للإنسان بأن يبدأ الطريق من أوله.
  7. التركيب مفهومه وأنواعه

     المرفق    
    قال المصنف رحمه الله تعالى:
    [ومن المحال أن لا يحصل الشفاء والهدى والعلم واليقين من كتاب الله وكلام رسوله، ويحصل من كلام هؤلاء المتحيرين؛ بل الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل، ويتدبر معناه ويعقله ويعرف برهانه ودليله إما العقلي وإما الخبري السمعي، ويعرف دلالته على هذا وهذا، ويجعل أقول الناس التي توافقه وتخالفه متشابهة مجملة، فيقال لأصحابها: هذه الألفاظ تحتمل كذا وكذا.
    فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول قُبِلَ وإن أرادوا بها ما يُخالفه رُدَّ، وهذا مثل لفظ المركب، والجسم، والمتحيز، والجوهر، والجهة، والحيز، والعرض ونحو ذلك، فإن هذه الألفاظ لم تأت في الكتاب والسنة بالمعنى الذي يريده أهل هذا الاصطلاح، بل ولا في اللغة بل هم يختصون بالتعبير بها عن معاني لم يعبر غيرهم عنها بها، فتفسر تلك المعاني بعبارات أخر وينظر ما دل عليه القرآن من الأدلة العقلية والسمعية وإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل مثال ذلك في التركيب فقد صار له معان:
    أحدها: التركيب من متباينين فأكثر، ويسمى تركيب مزج، كتركيب الحيوان من الطبائع الأربع والأعضاء، ونحو ذلك، وهذا المعنى منفي عن الله سبحانه وتعالى، ولا يلزم من وصف الله تعالى بالعلو ونحوه من صفات الكمال أن يكون مركبا بهذا المعنى المذكور.
    الثاني: تركيب الجوار كمصراعي الباب ونحو ذلك، ولا يلزم أيضا من ثبوت صفاته تعالى إثبات هذا التركيب.
    الثالث: التركيب من الأجزاء المتماثلة، وتسمى الجواهر المفردة.
    الرابع: التركيب من الهيولى والصورة، كالخاتم -مثلاً- هيولاه الفضة وصورته معروفة وأهل الكلام قالوا: إن الجسم يكون مركباً من الجواهر المفردة، ولهم كلام في ذلك يطول، ولا فائدة فيه وهو أنه: هل يمكن التركيب من جزئين أو من أربعة، أو من ستة، أو من ثمانية، أو ستة عشر، وليس هذا التركيب لازماً لثبوت صفاته تعالى، وعلوه على خلقه، والحق أن الجسم غير مركب من هذه الأشياء وإنما قولهم مجرد دعوى، وهذا مبسوط في موضعه.
    الخامس: التركيب من الذات والصفات، هذا سموه تركيباً لينفوا به صفات الرب تعالى، وهذا اصطلاح منهم لا يعرف في اللغة ولا في استعمال الشارع، فلسنا نوافقهم على هذه التسمية ولا كرامة، ولئن سموا إثبات الصفات تركيباً، فنقول لهم: العبرة للمعاني لا للألفاظ، سموه ما شئتم، فلا يترتب على التسمية بدون المعنى حكم، فلو اصطلح على تسمية اللبن خمراً، لم يحرم بهذه التسمية.
    السادس: التركيب من الماهية ووجودها، وهذا يفرضه الذهن أنهما غيران، وأما في الخارج، هل يمكن ذات مجردة عن وجودها، ووجودها مجرد عنها؟ هذا محال، فترى أهل الكلام يقولون هل ذات الرب وجوده أم غير وجوده؟ ولهم في ذلك خبط كثير، وأمثلهم طريقة رأي الوقف والشك في ذلك وكم زال بالاستفسار والتفصيل كثير من الأضاليل والأباطيل.
    وسبب الضلال الإعراض عن تدبر كلام الله وكلام رسوله ، والاشتغال بكلام اليونان والآراء المختلفة ، وإنما سمي هؤلاء : أهل الكلام، لأنهم لم يفيدوا علماً لم يكن معروفاً، وإنما أتوا بزيادة كلام قد لا يفيد، وهو ما يضربونه من القياس لإيضاح ما علم بالحس، وإن كان هذا القياس وأمثاله ينتفع به في موضع آخر، ومع من ينكر الحس، وكل من قال برأيه أو ذوقه أو سياسته مع وجود النص، أو عارض النص بالمعقول، فقد ضاهى إبليس، حيث لم يسلم لأمر ربه، بل قال: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)[الأعراف:12]، وقال تعالى: ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً)[النساء:80]، وقال تعالى:(قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم)،[آل عمران:31]، وقال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)[النساء:65]، أقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا نبيه ويرضوا بحكمه ويسلموا تسليماً] إهـ.

    الشرح:
    قوله: [ ومن المحال أن لا يحصل الشفاء والهدى والعلم واليقين من كتاب الله وكلام رسوله، ويحصل من كلام هؤلاء المتحيرين ] يقول هؤلاء: إنهم يؤلفون هذا العلم ويقعدون هذه القواعد من أجل أن يحصل اليقين، ويبطلوا شبه الملحدين والمارقين حتى تتقوى العقيدة كما ذكر ذلك الغزالي عنهم قال: إنهم يقولون: إن علم الكلام إنما نريد به إثبات العقائد وتأكيدها وتقوية العامة، ودفع الشبهات والشكوك التي يثيرها أعداء الإسلام .
    فيقول لهم المصنف -رحمه الله-: [ومن المحُال أن لا يحصل الشفاء والهدى والعلم واليقين من كتاب الله] فالله سبحانه وتعالى أنزل القرآن شفاءً لما في الصدور وأنزل فيه الهدى الكامل، والعلم النافع الذي لا يمكن أن يأتي الإنسان إلا من طريق الوحي، هذا العلم الذي لو اجتمع الإنس والجن لم يهتدوا ولم يصلوا إليه أبداً.
    فالعلم الموجود اليوم في الأرض على كثرته ما هو في الحقيقة إلا بحث في الأمر الظاهر من الحياة الدنيا؛ كما الله تبارك وتعالى يقول عنهم: ((يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُون)) [الروم:7] فهم يبحثون في طبيعة المادة وفي الفلك وفي الإنسان وفي كذا وفي كذا.. أمور هي ظواهر فقط، ومع هذا فهم لا يصلون إلى شيء؛ بل كما قالوا بأنفسهم: إن العلم الحديث اليوم يمكن أن يفسر لك كيف، ولكنه لا يستطيع أبداً أن يفسر لك لماذا؟ ويسمونها في الفلسفة أو المنطق: العلة الصورية، والعلة الفاعلة، أو العلة الحقيقية، والعلة الصورية هي: ما تراه أنت علة في الظاهر، مثل الشمس عندما تسطع على البحار فيتبخر الماء فتتكون السحاب، هذه علة صورية.
    وهذا في كيفية تكوين السحاب؟ لكننا إذا قلنا: لماذا الشمس وسيلة إلى هذا الشيء؟ ولماذا يرتفع السحاب بهذا الشكل؟ ولماذا يأتي فيمطر مدينة ويدع مدينة أخرى؟ لا يستطيعون ذلك، فهو يصف لك السحابة كيف مشت بسرعة من كذا إلى مكان كذا، فتكاثفت وحصلت الكهربائية في الجو، ثم سقط المطر . وصف طويل جداً كله في العلة الصورية في الشيء الظاهر.
    ولكن لماذا وقع؟ لا يوجد جواب، يقولون لك: أنت الآن نقلتنا إلى قضية فلسفية خارج إطار العلم، نحن ننظر في الموجود. والأمور والقضايا الفلسفية هي خارج نطاق المعامل والمراصد، فليست من شأن العلم والعلماء.
    نأتي إلى مسألة: لماذا خلق هذا الإنسان؟ لا يمكن أن يجيبوا عليه أبداً؛ لأنه لا يعرف إلا عن طريق الوحي، ولهذا كريس مرسون مؤلف كتاب العلم يدعو إلى الإيمان كان رئيس أكاديمية العلوم في نيويورك أكبر بلد في العالم في هذه العلوم المادية، وهو رئيس الأكاديمية المختصة بهذا الشأن، لما تكلم في الجانب العلمي في هذا الكتاب، تكلم عن آخر ما وصلت إليه الإنسانية في هذا الفن، لكنه يريد أن يثبت أن الدين حق. وليس أصل عنوان كتاب العلم يدعو إلى الإيمان وإنما هو الإنسان لا يقوم وحده رداً على الكتاب الذي ألفه جوليان هكسلي وهذا من أكبر الملاحدة في العالم، وهو من الدروينة الحديثة ألف كتاباً اسمه الإنسان يقوم وحده أي: بدون خالق فرد عليه هذا العالم، وكتب كتاب الإنسان لا يقوم وحده ودلالته ترجمت بالعلم يدعو إلى الإيمان.
    فالشاهد: أنه تحدث فيه عن قضايا علمية في منتهى ما وصل إليه الإنسان من العلم، لكنه لما ربط هذه بالدين؟ لا يوجد عنده إلا التوراة، فجعل يقول: قال في الإصحاح رقم كذا وذكرت التورة كذا، وهذا الكلام لا يتناسب مع ما جاء به، فلو قورن كلام هذا العالم وما جاء به من التوراة -الوحي الذي جاء من عند الله كما يزعم اليهود والنصارى- لكان الوحي أقل بكثير جداً من العلم، وهذه هي الفكرة العامة عند الغرب وهي التي كانت راسخة في العقلية اليونانية القديمة التي أوجدت لنا الفلسفة وعلم الكلام فترجمها المسلمون، فكانت اللوثة والمرض الخطير الذي نتحدث عنه،وهو علم الكلام، وهي نفس القضية: أن العلم البشري يمكن أن يكون أرقى مما جاء به العلم الإلهي الذي جاء به الأنبياء.
    وأول ما في التوراة هو سفر التكوين، وفيه يقول: كانت الأرض مظلمة ثم بعد ذلك أراد الرب أن يخلق، قال الرب: لتكن سماءً، فكانت سماءً، وقال: لتكن أرضاً، فكانت أرضاً، ثم قال ليكن الإنسان، فوجد الإنسان، ثم جاء وخلقه، ثم يقول: كان الرب يمشي في الجنة -هكذا قال؟! يتمشى في الجنة- يبحث عن الإنسان، فلم يجده فقال: أين أنت يا آدم؟ فقال: اختبأت عنك يا رب -كلام لا يدخل في الذهن- أهذا دين؟! فقال: إنني ها هنا اختبأت، فقال: لماذا اختبأت؟ لأنك عريان . قال: نعم يا رب!! قال: لماذا أكلت من الشجرة؟ وهكذا تمضي القصة، وما الذي جعله يأكل من الشجرة، وما الذي جعله يتعرى، قال: الحية، يقول في نفس التوراة: وكانت الحية أحيل الحيوانات في البرية، فجاءت إلى حوى وأغرتها، وحواء أغرت آدم ليأكل من الشجرة.
    قال: فعاقبها الرب -كما تقول التوراة المحرفة- بأن قال من الطين تأكلين، أي: عقوبتها أنها لا تأكل إلا من الطين من التراب، وأنها تطرد ويكرهها الناس ويقتلونها، فيحاول المؤلف في هذا الكلام أن يقول: إن العلم مهما ترقى لا يمكن أن يتنافى مع الدين فيحاول حذف بعض المقاطع التي فيها مثل قصة الحية هذه، فلو ذكر هذه الأمور فإن الملحد الذي ألف الكتاب إلإلحادي، سيفحمه ويغلبه، فيأتي بمقاطع معينة من التوراة، ومع ذلك يمكن أن يقول هكسلي: هذا الكلام الذي جئت به باطل؛ كيف يكون الرب يمشي مثل الإنسان والعياذ بالله؟ وتعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- وما يدري أنه أكل من الشجرة، وكيف تكون الحية بهذا الشكل، متى تكلمت الحية، ويثير عدة إشكالات.

    ونحن أحوج ما نكون إلى معرفة أمور الغيب -الحشر والصراط والميزان والجنة والنار- من معرفتنا للمجرات والكواكب وغيرها، هذا الذي يحتاجه كل إنسان مهما بلغ من القوة والمنصب في أي بلد وفي أي أمة. يحتاج أن يعرف لماذا جئت؟ وكيف أموت؟ وإذا مت إلى أين أذهب؟ وما هي الطريقة التي سأصل إليها؟ وما هي نهاية كل إنسان؟ وهذه لا توجد أبداً إلا في الوحي "في القرآن والسنة" فإذا كان هذا الحال مع علماء العصر على ما وصولوا إليه، فما بالكم بعلماء الكلام من الفلسفة واليونان ومن قبلهم . فلو جمعت علومهم اليوم وأعطيت إلى أصغر طالب في الكيمياء أو الفيزياء أو في أي علم من العلوم المعروفة اليوم لاعتبر أن علومهم من أتفه العلوم في الكون .
    إذاً: فالشفاء التام من جميع الأمراض القلبية والحسية في كتاب الله عز وجل والهدي التام الذي لا ضلال معه على الإطلاق كما قال صلى الله عليه وسلم: { تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي }والعلم اليقين هو العلم الذي لا يمكن أن تشوبه أدنى شائبة من الجهل أو الخطأ أو النسيان ؛ بل لا يمكن أن يرقى البشر إلى معرفته أبداً وهو ما جاء به القرآن والسنة، وأفضل العقول وأكملها هو من يستطيع أن يفهم كتاب الله ويستنبط منه هذا العلم الذي يحتاجه جميع البشر والذي يضطر كل إنسان إلى معرفته، وكذلك اليقين: لا يقين أعظم من اليقين الذي يولده كتاب الله -سبحانه وتعالى- وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في القلوب، ففيهما، كما قال ابن عباس رضي الله عنه (جواب لكل شبهة إلى قيام الساعة علمها من علمها وجهلها من جهلها) فالشبهة في أي موضوع كانت: فهي موجودة في القرآن مع حلها إما بالنص وإما بالاستنباط لمن كان من أهل العلم والاستنباط، فيؤخذ الحق، والهدى، والعلم، واليقين من كلام الله ورسوله، ولا يؤخذ من كلام هؤلاء المتحيرين.
    فالكلام الذي يقوله المصنف رحمه الله يرسم لنا منهجاً علمياً نظرياً يقول: [بل الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل - في أي قضية نقول: ما قاله الله ورسوله هذا هو الأصل- ويتدبر معناه ويعقله ويعرف برهانه ودليله العقلي والخبري والسمعي] أي: نعرف دليل هذه القضية من الكتاب ومن السنة ومن العقل الذي يؤيدها ونستنبط أيضا حتى تكون قضية واضحة بين أيدينا، وبعد ذلك نعرض دلالته على هذا وهذا بتفاصيل تلك الدلالات، ثم نجعل أقوال الناس التي تخالفه أو توافقه متشابه مجملة، فهذا هو المعيار: أقوال الناس مهما كانوا نجعلها في حكم المتشابه المجمل الذي يحتمل الخطأ والصواب.
    ثم نأتي بكلام الناس هذا ونعرضه على هذا المعيار السابق، فيقال لأصحابها: هذه الألفاظ تحتمل كذا وكذا، مثل الكلام الذي يأتي به هنا، فكلمة الجسم تحتمل كذا وكذا، وكلمة الجهة تحتمل كذا وكذا، فما وافق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قبلناه وما خالف ذلك رددناه، وسبق أن أوضحنا مسألة الجهة وقلنا: إن كان المراد بالجهة العلو فنحن نثبت أن لله جهة كما قال الله تعالى: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طه:5] وهناك أدلة كثيرة جداً من العقل والفطرة على إثبات أن الله -سبحانه تعالى- فوق المخلوقات وإن أردتم بالجهة شيئاً وجودياً حيزاً محصوراً محدوداً، فلا نثبت هذا المعنى على اصطلاحكم ونأتي بالاصطلاح أو بالكلمة الشرعية لأنها لا تحتمل ذلك.

    وكذلك لفظة الجسم: هل نثبت أن الله جسم أو غير جسم وكذلك هل هو مادة أو غير مادة، وهل هو جوهر أو غير جوهر؟ والجوهر اختلف فيه هل هو أصل الأشياء وخلقتها أم لا؟ يقولون: الجوهر هو: الحقائق، والأعراض هي: ما يقوم بالجواهر من الصفات.
    وهذا كلام نحن في غنى عنه، فهم لا يستطيعون -حتى أصحاب العلم الحديث- أن يميزوا بين شيء ذاتي وبين شيء عرضي فمثلاً كان الأولون يقولون: الشمس ذاتها هي الجرم. والنور الساطع منها عرض من أعراضها، فهل نستطيع أن نفصل بين أشياء ذاتيه وبين أشياء عرضية فبعض الأشياء التي تبدوا لنا عرضية ربما تكون ذاتية، فيصعب جداً أن نفصل بين أشياء ذاتية وأشياء عرضية، فمثلاً: زيد ذاته هذا الجسم؛ لكن علمه وطوله ولونه عرض، فهذه الأشياء العرضية يمكن أن تتغير وتزول، لكننا لو دققنا في الموضوع لما استطعنا أن نفصل فصلاً تاماً بين الأشياء العرضية التي تنفك عن الإنسان وبين الأشياء الذاتية التي لا تنفك عن حقيقته، فمثلاً لوجئنا إلى صفات أخرى عضوية أو معنوية نجد أننا لا نستطيع أن نفصل بين ما كان ذاتياً وبين ما كان عرضياً، فهذه أمور معقدة لا داعي لها .
    ثم يقول المصنف: [فإن هذه الألفاظ لم تأتِ في الكتاب والسنة بالمعنى الذي يريده أهل الاصطلاح بل ولا في اللغة] أي: لغة العرب، ليس فيها هذه الكلمات وهذه الاصطلاحات، إنما هي اصطلاحات وضعية مترجمة ومنقولة عن اليونان وغيرهم، فيقول: [بل هم يخصون بالتعبير بها عن معاني لم يعبر غيرها عنها بها، فتفسر تلك المعاني بعبارات أخر، وينظر ما دل عليه القرآن من الأدلة العقلية والسمعية] فيقال لهم: فسِّروا معنى الحيز والجوهر فإذا قالوا الجوهر كذا وكذا، نقول: ننظر إلى هذا المعنى هل دل عليه القرآن، وهل يتفق مع معناه أو يخالفه؟ [وإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل]
    ثم ذكر المصنف أن التركيب له عدة معانٍ وهي كالتالي:
    1. التركيب المزجي

      المعنى الأول: التركيب المزجي: وهو أن يتكون الشيء من متباينين، فأكثر كتركيب الحيوان من الطبائع الأربع، وهذا الكلام لا يتماشى مع الطب الحديث، فلا يمكن أن نتعسف الأدلة، ونقول: إن معناها كذا، عَلَى خلاف ما هي عليه، فكلام ابن القيم في الطب النبوي يدور عَلَى هذه الطبائع الأربع، وقد كَانَ في مرتبة عالية من العلم حتى في الطب؛ لأنه كَانَ ينتقد حتى الأطباء، وكان في عصره ابن سينا وداود الأنطاكي، وأمثالهم من أكبر الأطباء الذين تكلموا في خواص الأشياء، فكل الطب مبنى عَلَى هذه الأربع؛ لكن الطب الحديث الآن لا يقر بهذا الكلام ولا يعترف به ولا يدري ما معنى رطب ويابس.
      وينبغي ملاحظة أمر مهم: وهو أننا نأخذ من كلام ابن القيم -رَحِمَهُ اللَّهُ- الحديث وشرحه في الطب، لكن الكلام في هذه الأربع لا تقرأ؛ لأنه كلام مبني عَلَى علم عصري في عصرهم انتهى زمانه، وانتهى مفعوله الآن، ولو نسبت إِلَى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكنا في مشكلة، فلنحذر من أن ينسب إِلَى الله ورسوله شيء مما وصلت إليه العلوم في هذا العصر بقطع ويقين، وغاية ما في الأمر أنها قد تفسر بعض ما دل عليه القُرْآن في الجملة، وأمر به من القول أو النظر في الآفاق أو النظر في الأنفس، فتركيب الحيوان من الطبائع الأربع عَلَى قولهم، منفي عن الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فنحن نحلل المعاني معنى معنى، وننظر أنه -جل شأنه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيرا- يتركب كما تتركب أعضاء المخلوقات -عياذاً بالله- فهذا المعنى نرده ولا نقبله ولا يلزم من وصف الله تَعَالَى بالعلو، أو بأي شيء من الصفات الثابتة بالوحي أن يكون مركباً بهذا المعنى.
    2. تركيب الجوار

      المعنى الثاني: [تركيب الجوار: كتركيب مصراعي الباب ونحو ذلك ولا يلزم أيضاً من ثبوت صفاته تَعَالَى إثبات هذا التركيب]، فالباب يتركب من مصراعين، وهذا يسمى تركيب جوار؛ لأن هذا جاور هذا، وليس تركيب مزج، والفرق بينهما: أن التركيب المزجي لحم وأعضاء وعصب تركب منها الكائن الحي، أما تركيب الجوار فهو عبارة عن جسمين تلاصقا فكونا شيئاً واحداً وهو الباب، وهذا التركيب أيضاً لا نثبته لربنا تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
    3. التركيب من الأجزاء المتماثلة

      [الثالث: التركيب من الأجزاء المتماثلة، وتسمى الجواهر المفردة] والجسم يتركب من أجزاء متماثلة كلها سواء -فمثلاً- الخلايا، أو الذرات أو أي شيء، كالمعادن فإنها تتركب من أشياء متماثلة، فهذه يسمونها بالجواهر المفردة وتسمى اليوم بالذرة، والذرة تتركب من النواة والالكترونات الموجبة والسالبة، ولم يأتِ في الكتاب والسنة أن هذا التركيب يطلق عَلَى الله عَزَّ وَجَلَّ فلا نثبته.
    4. التركيب من الهيولي والصورة

      الرابع: التركيب من الهيولي والصورة كالخاتم، والهيولى: هي مصدر الأشياء التي تتكون منها الأشياء، فالمثال الذي ذكره هنا أن الخاتم هيولاه الفضة وصورته معروفة، تشكلت المادة أو المصدر بشكل خاتم، فمثلاً المكرفون ألمنيوم، والألمنيوم مادة هيولى تشكل بشكل مكرفون، هذا الشكل يسمى صورة، هذا هو الفرق بين الهيولى والصورة، مثال آخر الخشب والكرسي: الخشب كشيء وهمي متخيل في الذهن، هذا هو الهيولى والأخشاب المتعينة هيولى، والكرسي والباب أو أي شيء في الخارج نراه هذا يسمى صورة الهيولى أو المصدر، وهذا تجدونه كثيراً في كتب العقائد.
      وقال أهل الكلام: إن الجسم يكون مركباً من الجواهر المفردة، ولهم كلام في ذلك يطول ولا فائدة فيه أبداً، وهو أنه هل يمكن التركيب من جزئين، من أربعة، من ستة، من ثمانية، من ستة عشر إِلَى آخر ذلك.
      يقول المصنف: [وليس هذا التركيب لازماً لثبوت صفاته تَعَالَى وعلوه عَلَى خلقه] فنحن نعرض هذا الكلام في التركيب عَلَى الكتاب والسنة، هل هذا التركيب جَاءَ في الكتاب والسنة، من قرأ آية أو سمع حديثاً هكذا؟ لا يوجد قطعاً.
      إذاً: هذا المعنى من معاني التركيب باطل ولا يثبت لله عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يقول المصنف: [والحق أن الجسم غير مركب من هذه الأشياء وإنما قولهم مجرد دعوى وهذا مبسوط في موضعه] فتكلم في قضية لا نريد الخوض فيها.
    5. التركيب من الذات والصفات

      الخامس: التركيب من الذات والصفات يقول أهل الكلام: إننا إذا أثبتنا أن لله تَعَالَى يداً ووجهاً وسمعاً وبصراً وغير ذلك من الصفات، فإننا أثبتنا تركيباً، فنحن ننفي التركيب فيقولون: ليس له صفات والعياذ بالله.