قال
الطحاوي رحمه الله:
[
وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه].
قال المصنف رحمه الله:
[هذا بناء على ما تقدم من أن المقدور كائن لا محالة، ولقد أحسن القائل حيث يقول:
ما قضى الله كائن لا محاله والشقي الجهول من لام حاله
والقائل الآخر:
اقنع بما ترزق ياذا الفتى فليس ينسى ربنا نمله
إن أقبل الدهر فقم قائماً وإن تولى مدبراً نم له ].
الشرح:
قال
الطحاوي رحمه الله: [وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه]، وهذه الفقرة من كلام
الطحاوي رحمه الله هي مقتضى حديث
ابن عباس الذي سبق شرحه.
يقول المصنف رحمه الله: [هذا بناء على ما تقدم من أن المقدور كائن لا محالة، ولقد أحسن القائل حيث يقول:
ما قضى الله كائن لا محاله والشقي الجهول من لام حاله ].
أي: من لام القدر الذي كتب عليه ولم يلم نفسه في أنها لم تأخذ بالأسباب، فكل ما قدر الله كائن، وهذا مطابق لما قال الآخر:
وعاجز الرأي مضياع لفرصته حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
يضيع الفرصة، وإذا ذهب الأمر عاتب القدر. لا يلوم نفسه بل يلوم القدر، وهذا خلاف ما يجب أن يكون عليه المسلم.
ثم قال: "والقائل الآخر:
اقنع بما ترزق يا ذا الفتى فليس ينسى ربنا نمله
إن أقبل الدهر فقم قائماً وإن تولى مدبراً نم له "
وهذه الأبيات من أشعار المتأخرين الذين أولعوا بالمحسنات اللفظية؛ يأتي أحدهم بالكلمة الواحدة ولها معنيان، أو يأتي في البيت الأول بكلمة وفي البيت الثاني بما يجانسها في اللفظ ويختلف عنها في المعنى.
ويشهد لقوله (فليس ينسى ربنا نملة) قوله تعالى: ((
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ))[هود:6] لا يضيع الله سبحانه وتعالى أي مخلوق على الإطلاق، ولو وكل الله تعالى أمر هذه المخلوقات إلى غيره لحظة لهلك كثير منها؛ لأنه لن يستطيع أن يحرك هذه المخلوقات ويدبرها، ويعلم مستقرها ومستودعها ويطعمها، ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي يدبر ذلك، وقد فهم
السلف الصالح من هذه الآية وأمثالها التوكل على الله، لا التواكل الذي قالت به
الصوفية ونسبه
الغزالي إلى
الخوَّاص ونظرائه، ولهذا لما قيل للإمام
أحمد رحمه الله: إن قوماً يجلسون في المساجد ويقولون: نتوكل على الله، كما تتوكل الطير، قال: لا. إن الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نسعى وأن نعمل، انظروا إلى قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الطير: {
تغدو خماصاً وتروح بطاناً} -خماصاً، يعني: جائعة ضامرة البطون، ولكنها تروح بطاناً ممتلئة- قال الإمام
أحمد: (فقال: إنها تغدو وتروح). ومن الإيمان بالقدر التوكل أن تغدو وتروح وتسعى، ثم إذا سعيت فإنك تأخذ ما كتب الله لك، وعدم السعي ليس توكلاً على الله، بل هو تواكل مذموم.
ومن المذموم كذلك أن تقول: إنني سعيت واجتهدت فحصلت على هذا الرزق، كما قال
قارون وأمثاله: ((
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي))[القصص:78] فلا تقل ذلك، فإن ما معك إنما هو رزق من الله سبحانه وتعالى، بل قل كما قال العبد الصالح سليمان عليه السلام: ((
هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي))[النمل:40] فعباد الله الصالحون يضربون لنا المثل بأنهم ينسبون كل خير وفضل إلى الله سبحانه وتعالى، مع أنهم اجتهدوا وأخذوا بالأسباب، أما المتواكلون والمبتدعون والمنحرفون فيتركون الأسباب، ويظنون أنهم بهذا يؤمنون بالله وبأقداره؛ فلهذا قال الإمام
أحمد رحمه الله قال: (تغدو وتروح)، إذاً لابد من السعي وهو الغدو والرواح، لكن ليس الغدو والرواح هو الذي رزقنا، بل إن الله هو الذي رزقنا، والغدو والرواح إنما هو سبب ظاهري أمرنا أن نأخذ به، فمن جهة العبد هو سبب، لكن الله سبحانه وتعالى هو الذي كتب أن يكون في هذا الغدو خير أو لا يكون.
والقناعة التي أمرنا بها: هي أن نقنع بما أوتينا، ولا يلزم من ذلك ألا نعمل ولا نسعى، بل علينا أن نعمل ونسعى، ثم نرضى بما قسم الله تبارك وتعالى لنا، ونعلم أن الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم: {
إن روح القدس نفث في روعي، أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها؛ فاتقوا الله وأجملوا في الطلب} فلا يذل الإنسان نفسه ولا يحرص حرصاً شديداً زائداً عن الحد، نعم يحرص على ما ينفعه: {
احرص على ما ينفعك }، لكن لا يؤدي هذا الحرص إلى الشح وطول الأمل، والغفلة ونسيان أوامر الله سبحانه وتعالى، والخوف على هذا الرزق، والاتكال والاعتماد على الأسباب وترك الصلة بالله سبحانه وتعالى والتوكل والاعتماد عليه، هذا حرص مذموم، أما الحرص على الخير وعلى ما ينفع الإنسان في الدنيا والآخرة، فهذا أمر مطلوب شرعاً، لكن مع معرفة أن كل شيء بيد الله، وأنه سبحانه بيده الخير يحيي ويميت، ويعطي ويمنع، ويعز ويذل، كما نقول بعد صلواتنا: {
اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت} هذه عقيدة عظيمة، ولو كان المسلمون الذين يرددونها يؤمنون بها، لغيرت حياتهم كلها.
لابد أن يتوكل الإنسان ويعمل بالأسباب، ومع ذلك يعلم أن لا مانع لما أعطاه الله، ولا معطي لما منعه الله، فما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك.
إن أقبل الدهر فقم قائماً وإن تولى مدبراً نم له
هذا من كلام المتأخرين، وقد يحتمل كلامهم بعض الخطأ؛ لأن المسألة ليست مجرد إقبال وإدبار، فالله سبحانه وتعالى قد يبتليك بأن يكرمك وينعمك، فإذا أعطاك الله، فلا تقل: ربي أكرمني! أنا من أهل الخير والفضل، أما الآخر الذي يضيق الله عليه معيشته ويقدر عليه رزقه، وتدبر عنه الدنيا، فلا يقل: ربي أهانني! كلا..! ليس الإعطاء إكراماً ولا المنع إهانة، وإنما هما ابتلاء من الله سبحانه وتعالى، يبتلي الإنسان بالخير والشر، بالسراء والضراء.
فالمسألة ليست مجرد إقبال دهر، ولكن هكذا عادة الشعراء، وكثيراً ما ينسب الشعراء كل شيء إلى الدهر.