المادة    
قال المصنف رحمه الله: [أما قوله تعالى: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))[الرحمن:29] فقال البغوي: قال مقاتل: نزلت في اليهود حين قالوا: إن الله لا يقضي يوم السبت]، وهذه هي الكتابة اليومية أو القدر اليومي: ((كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ))[الرحمن:29]، ومعنى الآية كما ورد عن أكثر السلف: أنه سبحانه وتعالى في كل يوم يقضي وينفذ الأقدار؛ فهو يعز ويذل، ويحيي ويميت، ويرفع ويخفض، ويعطي ويمنع. فهذا تدبيره للملك سبحانه وتعالى في هذا اليوم.
وهنا نأتي إلى مسألة أولئك الذين ما قدروا الله حق قدره سبحانه وتعالى؛ حيث إن اليهود يقولون -كما في التوراة المحرفة الموجودة اليوم بين أيدي اليهود والنصارى ضمن ما يسمونه الكتاب المقدس- يقولون: إن الله سبحانه خلق السماوات والأرض في ستة أيام وانتهى ذلك في يوم الجمعة، ثم استراح الرب في اليوم السابع من العمل الذي عمله! ((سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ))[المؤمنون:91] يصفون الله تعالى بما لا يليق به؛ ولهذا عزى الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم لما قال له المشركون: شاعر، ساحر، كاهن، مجنون، يعلمه بشر، مفترٍ، أساطير الأولين اكتتبها... بقوله تعالى: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ))[ق:38-39] أي أن الذين يتهمون الله سبحانه وتعالى، وينتقصون من قدر الله عز وجل، ويصفونه بالعجز والإعياء والضعف، وأنه في حاجة إلى أن يستريح؛ لا تستغرب منهم أن يقولوا فيك يا محمد ما يقولون، سواء كانوا من اليهود أو من المشركين عامة.
(وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) واللغب في لغة العرب هو التعب والعناء، فالله سبحانه وتعالى نفى عن نفسه ذلك لكمال قدرته.
والقاعدة في الصفات: أنه ليس هناك سلب مطلق، وإنما إذا ورد السلب (النفي) فلإثبات الكمال المقابل لذلك السلب، قال تعالى: ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ))[البقرة:255] وهذا سلب (نفي)، والمراد به إثبات كمال الحياة وكمال القيومية.
وهذه الآية (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) فيها إثبات كمال القدرة وكمال القوة لله سبحانه وتعالى؛ فإنه لا يعتريه ما يعتري البشر من الإعياء أو الضعف أو العجز.
وهذه المقالة التي قالتها اليهود -قبحهم الله- قد قالوا مثلها كثيراً، مثل: ((وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ))[المائدة:64]، ((لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ))[آل عمران:181] تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً! ومن ذلك أنهم يقولون: إنه استراح في اليوم السابع، ومن هنا كان السبت يومهم المقدس وعطلتهم التي يستريحون فيها.
يقول: "قال المفسرون: من شأنه أنه يحيي ويميت ويرزق، ويعز قوماً ويذل آخرين، ويشفي مريضاً، ويفك عانياً -العاني هو الأسير- ويفرج مكروباً، ويجيب داعياً، ويعطي سائلاً، ويغفر ذنباً... إلى ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه ما يشاء" وهذه هي مرتبة القدر اليومي، مرتبة الخلق والإيجاد، وهي آخر مراتب القدر، فهي إنفاذ لما في القدر الكوني السابق في علمه سبحانه وتعالى.
فائدة: القدر اليومي من أنواع الكتابة، وهو المرتبة الرابعة من مراتب القدر (مرتبة الخلق والإيجاد) لكن لذلك تفسير آخر، وهو: أن القدر قدران: منه مثبت ومنه معلق، فالمثبت ما في اللوح المحفوظ، أي: الذي لا تغيير فيه وهو المطابق لعلم الله سبحانه وتعالى؛ لأنا قلنا: المرتبة الأولى من مراتب القدر هي العلم، وعلم الله تعالى لا يتغير؛ لأنه يعلم ما كان على الوجه الذي كان، وما يكون على الوجه الذي سيكون، وكتب في الذكر ما يطابق ذلك العلم، فإذاً لا محو فيه ولا تغيير، والقدر المعلق هو الذي علق على أسباب من أفعال البشر.
ولا إشكال في الجمع بين قوله تعالى: ((وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ))[الأعراف:34] وبين أن صلة الرحم تزيد في العمر كما في الحديث؛ لأنهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون عما في اللوح المحفوظ، وليس عما في الأقدار المعلقة.
عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فيسبق عليه الكتاب} فما هو الكتاب هنا؟ أهو الذي في اللوح المحفوظ؟ أم هو الذي كتب الملك؟
الجواب: الذي في أول الحديث: {فيؤمر بكتب أربع كلمات} ويطابق ما في اللوح المحفوظ، أي: إن كان في ديوان أهل السعادة فهو كذلك، وإن كان في ديوان أهل الشقاوة فهو كذلك، فيجب على المؤمن أن يحذر ويخاف من سوء الخاتمة، وألا يغتر بعمل طاعة عملها، بل يجتهد في أن تتصل الطاعة بالطاعة إلى أن يلقى الله سبحانه وتعالى، ويخشى الفتنة والنفاق، كما كان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، ومع ذلك يجتهد في الدعاء، ومما يدعو به أن يجعله الله تعالى في ديوان السعداء، وأن يكتبه معهم، فيكون قد أخذ بالأسباب واحتاط لنفسه.
قال بعض السلف رضوان الله تعالى عليهم في حديث أبي ذر رضي الله عنه... {يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه} قال: [[والله لنجتهدن في طاعة الله حتى إذا أدخلنا النار لم نلم أنفسنا، ونكون قد أعذرنا إلى ربنا، فنقول: قد اجتهدنا ولم ينفعنا]]، انظروا إلى إيمان السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم بالقدر، فقد كان إيمانهم بالقدر يدفعهم للعمل، أما نحن فلا نجتهد، بل نقول: برحمة الله.. كما يقول أكثر المسلمين اليوم، فيتركون السبب ويعلقون على ما قد كتب، وما قد كتب هو مطابق لما يفعلونه من الأسباب.