المادة    
قال المصنف: [ثم قال تعالى: ((وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ))[الطلاق:3] أي: فهو كافيه، لا يحوجه إلى غيره]. والحسب هو: الكافي، كما في الحديث الصحيح: {بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم} أي: يكفيه شراً أن يحقر أخاه المسلم {وقرأ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم من أول سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى: ((فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا))[النساء:41] فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: حسبك} أي: يكفيك.
فمن توكل على الله فهو كافيه، قال تعالى: ((أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ))[الزمر:36] وقال: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ))[الأنفال:64] أي: كافيك الله، ومن اتبعك من المؤمنين يكفيهم الله أيضاً، وهذا هو الفهم الصحيح لهذه الآية، لا كما يفهمها أهل الضلال والبدعة من أن معناها: حسبك الله والمؤمنون، والآية إنما هي من باب ذكر المبتدأ وحذف الخبر؛ لأنه معلوم، وهذا أسلوب في اللغة العربية معروف كما في قوله تعالى: ((أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ))[التوبة:3] أي: ورسوله بريء من المشركين أيضاً.
" ((وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ))[الطلاق:3] أي: فهو كافيه؛ لا يحوجه إلى غيره" إذا توكل العبد على الله كفاه الحاجة إلى غيره، وأغناه بفضله عمّن سواه.
  1. ضلال الصوفية في فهم التوكل على الله

    وهنا مسألة خطيرة يقع فيها كثير من الناس، وبالذات العوام منهم، فهم يخلطون في مسألة، ويظنون أن التوكل على الله سبحانه وتعالى معناه ألا يتعاطى الإنسان معه الأسباب ولا يأخذ بها.
    يقول المصنف رحمه الله: "وقد ظن بعض الناس أن التوكل ينافي الاكتساب وتعاطي الأسباب" لا يكتسب ولا يتعاطى الأسباب ويحتج بأنه متوكل! "وأن الأمور إذا كانت مقدرة فلا حاجة إلى الأسباب" يحتج هذا الذي يزعم أنه متوكل ويقول: ما دامت الآجال والأرزاق مكتوبة فلماذا آخذ بالأسباب؟! الرزق مقدر لي، فلماذا أجتهد لأنال شيئاً من الرزق؟! والعافية مقدرة لي أيضاً، فلماذا أجتهد في طلب العافية؟!
    "وهذا فاسد، فإن الاكتساب منه فرض ومنه مستحب".
    وتعتبر الصوفية من أعظم الناس ضلالاً في باب التوكل، حتى قال قائل منهم: لا حاجة للدعاء، ومع الأسف فقد انتشرت مقولة بين العوام تقول: (علمك بحالي يغنيك عن سؤالي)، سبحان الله! نعم.. الله تعالى عليم بحالك، لكنه أمرك أيضاً أن تدعوه.
    والصوفية جاءوا في هذا الباب بالعجب العجاب، حتى إن أبا حامد الغزالي جعل للتوكل مقامات ودرجات:
    الدرجة الأولى: أن يمشي الإنسان في الصحراء بغير زاد ولا مؤونة توكلاً على الله، وثقة بأنه سوف ييسر له الرزق.. قال: وهذه أعلى مراتب التوكل، وهي مرتبة الخوَّاص ونظرائه؛ والخواص ونظراؤه هم من الصوفية المشائين السائحين، فإما أن يتيسر له ما يأكله أو يأكل عشباً أو أي شيء.
    هذا غاية التوكل عند الصوفية، وهو ما أبطله الله بقوله تعالى: ((وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ))[البقرة:197] فقد كان بعض الناس يحجون ولا يتزودون، فأمرهم الله بأن يتزودوا، ونبههم إلى أن خير الزاد هو التقوى، ولا تعارض بينهما، فتزودوا من الدنيا، ولكن خير الزاد فيها هو التقوى، فهذه أعلى درجات التوكل عند الطبقة العليا من الصوفية؛ فلا يكتسب ولا يتعاطى، ولا يقيم بمكان فيه أسباب الرزق، وإنما يذهب إلى الصحراء حيث لا سبب، وإنما يثق بالله ويتوكل عليه.
    الدرجة الثانية: وهم أقل توكلاً، وهم الذين يقيمون في الأمصار والقرى، ويمكثون في المساجد يذكرون الله سبحانه وتعالى ويتعبدونه، ويتوكلون على الله في رزقهم اعتماداً على ما يقدم إليهم من صدقة أو هدية أو عطية من الناس، وهؤلاء أقل درجة من الأولين.
    يقول الغزالي : "وهذا أقل توكلاً من سابقه؛ لأنه في مكان متعرض فيه للأسباب" لأن الناس عادة إذا رأوا أحداً في المسجد أعطوه، فهذا متعرض للأسباب، وهو أقل إيماناً من ذلك الذي خرج بلا سبب.
    ويجاب عليهم بأن أعلى المتوكلين درجة هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فهل فعل شيئاً من هذا؟! هل ألقى بنفسه في المهالك وألقى أصحابه معه؟! لا.
  2. الرد على الصوفية وبيان أنواع الكسب

    يقول المصنف رحمه الله راداً على المتواكلين من الصوفية وغيرهم: [إن الاكتساب منه فرض ومنه مستحب] فبدأ في الرد عليهم بذكر أقسام الاكتساب، فالكسب في ذاته ليس حراماً؛ بل هو أنواع: فالاكتساب الفرض: كمن يكتسب ما يقيم به نفسه ومن تجب عليه نفقته، ولو أن أحداً مات جوعاً ولم يأكل ولا من ميتة أو من خنزير أو أي شيء، لكان كقاتل نفسه، وأثم بذلك، لأنه كان يجب عليه أن يأكل ويتعاطى الأسباب.
    وقال بعض العلماء مثل ذلك في التداوي أيضاً، فلو علم أن هذا الداء سيقتله، وجب عليه أن يتداوى، وحملوا قوله صلى الله عليه وسلم: {تداووا عباد الله} على الوجوب، فيجب عليه أن يتداوى.
    ويجب عليه أن يكتسب ما يستر به عورته وعورة من يعول، فيجب عليه أن يكتسب حتى يستر امرأته جميعها حتى لا يرى منها شيء.
    وأما الاكتساب المستحب فهو مثل قول القائل: أكتسب لأكفل اليتيم، ولأتصدق على المحتاج، ولأنشر العلم، وأطبع الكتب الطيبة، أو أبني المساجد، فهذا شيء مستحب.
    وأما الكسب المباح فهو أن يزيد على ذلك ليكسب المال من طرقه الحلال دون أن يشغله عن طاعة الله سبحانه وتعالى.
    وأما الكسب المكروه، فهو ما يشغله عن المستحبات والنوافل وما أشبهها.
    وأما الكسب الحرام، فهو ما لا يخفى: كالربا، وكمهر البغي، وكحلوان الكاهن، وكالبيوع المحرمة التي فيها غرر أو غش، وكأي مال يأخذه على أي عمل حرام، كأن يقال له: آذِ فلاناً أو اضربه ولك أجر، وكمن استؤجر في أمر حرام، وما أشبه ذلك من الكسب المحرم.
  3. صور من توكل النبي صلى الله عليه وسلم

    يقول المصنف: [وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضل المتوكلين] وهذا بلا شك، لا كما قال الغزالي وغيره، قال المصنف: [يلبس لأمة الحرب] فقد كان إذا خرج للجهاد يلبس درعه.. بل كان يلبس درعين أحياناً، وهذا من باب الأخذ بالأسباب، وحفر الخندق أخذاً بالأسباب، وفي جميع معاركه كان يترصد القوم، فيبث العيون -الجواسيس- ليأتوا له بالأخبار، ويأخذ من الخيل ما استطاع.. كل ذلك دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ بالأسباب.
    [ويمشي في الأسواق للاكتساب حتى قال الكافرون: ((مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ))[الفرقان:7] ]، والحقيقة أن أكثر كسبه صلى الله عليه وسلم ونفقته كان من خمس الغنائم، وهو أشرف أنواع المكاسب، ولهذا يقول: {وجعل رزقي تحت ظل رمحي} فالله تعالى جعل من هؤلاء الكفار عبيداً للدنيا، يجمعونها، ثم يأتي عباد الله الصالحون، فيجاهدونهم، فيرثون هذه الأموال والكنوز والحضارات: {والذي نفسي بيده! لتنفقن كنوزهما في سبيل الله } يعني كسرى وقيصر، وقد أنفقت في سبيل الله كما قال صلى الله عليه وسلم.
  4. بدائل الكسب المشروع عند الصوفية

    يقول المصنف رحمه الله: [ولهذا تجد كثيراً ممن يرى الاكتساب ينافي التوكل يرزقون على يد من يعطيهم؛ إما صدقة أو هدية، وقد يكون ذلك من مكّاس أو والي شرطة أو نحو ذلك]، فهذا الذي يقول من الصوفية : أنا أترفع عن الكسب، وأخشى أن يكون حراماً، أو أنا أتوكل على الله، ويجلس في المسجد يتمتم ويهمهم بالمسبحة، فإذا جاء من يتصدق عليه أخذ منه، لأنه لا يمكن أن يعيش إلا بالصدقة، فنقول:
    أولاً: اليد العليا أفضل من اليد السفلى؛ فالمعطي خير من الآخذ الذي جعل نفسه في المنزلة الدنيا.
    ثانياً: هذا آثم لأنه ترك الأسباب التي أمر الله بها، والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين ذلك في عهد الصحابة فقال: {لأن يحمل أحدكم فأساً ويحتطب خير له من أن يسأل الناس؛ أعطوه أو منعوه} فهذا آثم؛ وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية في فتوى له عمن يقول: إن المكاسب أصبحت حراماً، حتى لو أنك وردت إلى نهر دجلة لتشرب، لا تضمن أنه حلال؛ لأنه يلقى فيه أشياء من الحرام.
    سبحان الله! هل يضيق الله علينا إلى هذا الحد؟! فلنفترض أن الأمر كذلك، فمن أين تكتسبون؟! من صدقات المسجد! من المتصدق؟! إن المتصدقين قد يكون منهم من هو مكّاس، وهو الذي يجعل على الطريق حاجزاً، فلا يجاوزه أحد حتى يدفع الضريبة، وصاحب المكس أعظم ذنباً من الزاني، بدليل حديث الغامدية؛ حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لوسعته} فصاحب المكس أعظم ذنباً وأشد جرماً من الزاني عياذاً بالله تعالى، فهو يأخذ العشور والضرائب، ثم قد يتصدق منها كما يفعل بعض الناس في كل زمان ومكان، يأكل الربا ويأخذ المكوس، ويبني مسجداً أو يطعم هؤلاء الصوفية ويقولون له: جزاك الله خيراً! ويقبلون يديه، ويكونون من حاشيته.
    قال: "أو والي شرطة" وقد يكون المتصدق والي شرطة، وهذا الاسم ارتبط منذ القدم بالظلم، وليس ذلك خاصاً بالشرطة، لأنه قد يكون من ولاة الشرط من هو عادل، والظلم قد يكون في غيرهم ولكن جاء ذكرهم كمثال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث: {صنفان من أمتي لم أرهما؛ نساء كاسيات عاريات، وقوم بأيديهم سياط كأذناب البقر} قيل: هم الشرط؛ لأن الشرط في العادة محل ظلم إذا كان الوالي ظالماً، بخلاف إذا ما كان الوالي عادلاً، فإنهم يكونون عادلين.
    فالمقصود: أن الإنسان قد يأخذ من مرابٍ أو آكل حرام أو ظالم، ويظن أنه متوكل ولم يتعرض للكسب الحرام، ولو أنه عمل وأكل من كسب يده لكان ذلك خيراً له، وهو أفضل الكسب كما كان نبي الله داود عليه السلام يأكل من عمل يده، وكما أمر الله تعالى هذه الأمة أن يكتسب الإنسان منهم، ويأكل من عمل يده، ولا يعتمد على غيره.