المادة    
إذا أحب الله تعالى العبد، نتج عن ذلك محبته في الملأ الأدنى، أما إذا التمس الإنسان رضا الناس بسخط الله، فإنه لن ينال رضا الله ولا رضا الناس أيضاً، وسينادي الله جبريل فيقول: {يا جبريل! إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبريل ثم ينادي جبريل في الملأ الأعلى بذلك، فيبغضه أهل السماء، ثم يلقى له البغض في الأرض}، فلا يجد إلا مبغضاً له؛ حتى وإن أحسن إلى الناس، وفعل لهم ما فعل، وأما الذي قد أحبه الله، فإن الناس يحبونه وإن أساء إلى الناس بما أساء.
ومن القصص التي تحكى وفيها عبرة: أن رجلاً من الناس جاء إلى هشام بن عبد الملك فقال له: يا أمير المؤمنين! قد كانت لي ضيعة، أعطاني إياها عبد الملك، وأقرني عليها الوليد، وأقرني عليها سليمان، ثم جاء عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فأخذها مني، وأريد منك أن ترد علي ضيعتي، فقال له الخليفة: أعد ما قلت، قال: كان لي ضيعة، أعطاني إياها عبد الملك، وأقرني عليها الوليد وسليمان، ثم جاء عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فأخذها مني، وأريد أن ترد علي ضيعتي، فتعجب كيف يترحم عليه وقد أخذ ضيعته، ولم يترحم على الذين أعطوه!!
إن الإنسان لا يملك إلا أن يحب من أحبه الله، وأن يجري الله على لسانه ذلك، ولو قيل لهذا الرجل: أيهما خير عندك عمر بن عبد العزيز أم هشام والوليد ؟! فإنه لن يعدل بـعمر بن عبد العزيز أحداً أبداً، وإن كان يشكو أنه أخذ منه ضيعته، فإن ذلك إنما هو من باب الحرص على الدنيا وحب الخير، كما قال الله عز وجل: ((وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ))[العاديات:8] لكن لأن فيه بذرة خير -وهي الإيمان الذي في قلبه- فإنك تجد نفسه تندفع لتترضى وتترحم على ذلك الرجل الذي أحبه الله، فألقى له المحبة في الأرض، فلا يبصره أحد إلا وهو يحبه ويثني عليه، وإن كان يدعي أو يزعم أنه ظلمه، ولكن لو كان العكس -عياذاً بالله- وكان هذا الخليفة ممن يسعون لإرضاء الناس، فبذلوا بيت المال لشاعر أو لماجن أو لقريب، لكان كل منهم يقول: هذا مالي.. هذا ملكي، وقد أخذته عن جدارة واستحقاق، ويجحدون ذلك الفضل، وهذا كما في الرواية الأخرى: {عاد حامده من الناس له ذاماً} وليس هذا على مستوى الفرد فحسب؛ بل على مستوى الأمة ككل؛ فالجيل الأول كانوا يلتمسون رضا الله، وكانوا مؤمنين بقدره سبحانه، ولا يخشون إلا الله، ولا يتقون غيره، ولهذا فتح الله تعالى لهم ممالك العالم القوية، وأصبح الناس يلهجون بالثناء عليهم وبذكرهم والترضي عنهم؛ لأنهم عن طريقهم دخلوا في دين الله سبحانه وتعالى أفواجاً، وإن كانوا قتلوا آباءهم؛ فإنك تجد النصراني في مصر أو في بلاد الشام والمجوسي في العراق وقد قتل المسلمون أباه وأخاه وربما كل أسرته، لكنه بعد أن أسلم صار يدعو لهم، ويحمد الله أن أرسل هؤلاء الفاتحين، ففتحوا أرضه حتى أنعم الله عليه بالإيمان والإسلام، فلمّا تعاقبت الأجيال، وذهب ذلك الجيل المبارك، أتى من يسترضون الكفار ويطلبون مدحهم، ويثنون عليهم بسخط الله؛ حتى تخلوا عن شيء من دينهم أو أشياء، فأصبحوا يخفون بعض عباداتهم ويتسترون ببعض ما يؤمنون به من دينهم حتى لا يذمهم الكفار فيه، ويقولون للكفار: إننا نحبكم ونودكم، وإننا جميعاً أسرة واحدة، ومع ذلك، يصفهم الكفار بالتخلف، وأنهم من العالم الثالث، ويتهمونهم بالتأخر والانحطاط والهمجية، وأنهم رعاع لا يعرفون كيف يصرفون أموالهم، أو كيف يستفيدون من ثرواتهم، وينظمون أوقاتهم، ويخططون لحياتهم.