المادة    
قال المصنف رحمه الله:
[وأيضاً فالمخلوق لا يغني عنه من الله شيئاً، فإذا اتقى العبد ربه كفاه مؤنة الناس.
كما كتبت عائشة إلى معاوية -روي مرفوعاً، وروي موقوفاً عليها: {من أرضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله، عاد حامده من الناس له ذاماً}، فمن أرضى الله كفاه مؤنة الناس ورضي عنه، ثم فيما بعد يرضون؛ إذ العاقبة للتقوى، ويحبه الله فيحبه الناس، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا أحب الله العبد نادى: يا جبرائيل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبرائيل، ثم ينادي جبرائيل في السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض} وقال في البغض مثل ذلك.
فقد بين أنه لابد لكل مخلوق من أن يتقي: إما المخلوق وإما الخالق، وتقوى المخلوق ضررها راجح على نفعها من وجوه كثيرة، وتقوى الله هي التي يحصل بها سعادة الدنيا والآخرة، فهو سبحانه أهل التقوى، وهو أيضاً أهل المغفرة؛ فإنه هو الذي يغفر الذنوب، لا يقدر مخلوق على أن يغفر الذنوب ويجير من عذابها غيره، وهو الذي يجير ولا يجار عليه، قال بعض السلف: [[ما احتاج تقي قط، لقوله تعالى: ((وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ))[الطلاق:2-3]]]، فقد ضمن الله للمتقين أن يجعل لهم مخرجاً مما يضيق على الناس، وأن يرزقهم من حيث لا يحتسبون، فإذا لم يحصل ذلك دل على أن في التقوى خللاً؛ فليستغفر الله وليتب إليه، ثم قال تعالى: ((وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ))[الطلاق:3] أي: فهو كافيه لا يحوجه إلى غيره.
وقد ظن بعض الناس أن التوكل ينافي الاكتساب وتعاطي الأسباب، وأن الأمور إذا كانت مقدرة فلا حاجة إلى الأسباب. وهذا فاسد، فإن الاكتساب منه فرض، ومنه مستحب، ومنه مباح، ومنه مكروه، ومنه حرام.. كما قد عرف في موضعه.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضل المتوكلين، يلبس لأْمة الحرب، ويمشي في الأسواق للاكتساب، حتى قال الكافرون: ((مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ))[الفرقان:7] ولهذا تجد كثيراً ممن يرى الاكتساب ينافي التوكل يرزقون على يد من يعطيهم، إما صدقة، وإما هدية، وقد يكون ذلك من مكّاس، أو والي شرطة، أو نحو ذلك، وهذا مبسوط في موضعه، لا يسعه هذا المختصر]
اهـ.
  1. طلب رضا الله والحرص عليه سبب لمحبة الله للعبد

    الشرح:
    ذكر رحمه الله الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا أحب الله العبد نادى: يا جبرائيل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبرائيل -عليه السلام- ثم ينادي جبرائيل في السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله العبد نادى: يا جبرائيل! إني أبغض فلاناً فأبغضه، فيبغضه جبرائيل، ثم ينادي جبرائيل أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه، فيبغضه أهل السماء، ثم يوضع له البغض في الأرض} وهذا الحديث يدخل ضمن السياق المتقدم الدال على أن الإنسان إذا آمن بالقدر على الحقيقة، فإنه لا يخشى إلا الله، ولا يتقي إلا الله، ولا يخاف إلا الله، ولا يبالي ببغض الناس أو محبتهم، وإنما يراعي ويراقب أن يكون محباً لله، وأن يكون الله سبحانه محباً له راضياً عنه، وإن سخط الناس عليه وغضبوا، وهذا الحديث مصدق للذي قبله الذي بيّن أن من التمس رضا الله سبحانه وتعالى، ولو كان ذلك بما يسخط الناس ويغضبهم ؛ فإن الله يرضى عنه ويرضي عنه الناس.
    في الحديث أن الله سبحانه وتعالى إذا أحب عبداً نادى جبرائيل رسول الوحي عليه السلام: {يا جبرائيل! إني أحب فلاناً فأحبه} فالله سبحانه وتعالى .. الكبير المتعال .. العلي العظيم .. من لا تنفعه طاعتنا ولو كنّا على أتقى قلب رجل واحد، ولا تضره معصيتنا ولو كنّا على أفجر قلب رجل واحد؛ عندما ينادي باسم أي مخلوق في الملأ الأعلى، ويقول: {إني أحب فلاناً} ويذكره باسمه، فإن في هذا شرفاً عظيماً جداً، فإن الإنسان إذا ما ذكر باسمه في الملأ الدنيوي فرح واستبشر، ولو أن ملكاً من الملوك ذكر فلاناً باسمه فقال: إنني فخور بفلان، لكانت هذه منقبة عظيمة يتسابق إليها الناس، فكيف إذا كان الذي يذكر هذا العبد هو ملك الملوك سبحانه وتعالى، ويناديه في الملأ الأعلى باسمه؟! كما قال أبي بن كعب رضي الله عنه: {أوقد سمّاني؟ قال: نعم. فبكى}.
    إن من يدرك عظمة الله وملكه، ويعرف الله حق معرفته؛ لا يكاد يتصور أو يصدق أن الله سبحانه وتعالى يذكره باسمه وهو العبد الضعيف الذي لا حول له ولا قوة، والذي قد يغفل عنه كثير من خلق الله فلا يذكرونه، ولكن الله سبحانه وتعالى يذكره ويسميه، فيقول: {يا جبرائيل! إني أحب فلاناً فأحبه} فيحبه جبرائيل وتحبه الملائكة الكرام؛ لأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولأنهم مجبولون على طاعة الله سبحانه وتعالى، فلا يخالفونه أبداً، فهم يلهمون الطاعة كما أن الناس في الجنة يلهمون الذكر كما يلهمون النفس، فإذا أمرهم الله بشيء، امتثلوا الأمر فلم يعصوه، ثم يوضع له القبول في الأرض من أثر المحبة في الملأ الأعلى، فيكون محبوباً عند المؤمنين الأخيار -لأن هؤلاء الأخيار في الدنيا هم بنفس عبودية الملائكة لله- كما هو هنالك في الملأ الأعلى، فتكون محبة هذا العبد متصلة ما بين الملأ الدنيوي والملأ الأعلى إلى جبرائيل إلى رب العزة والجلال سبحانه وتعالى؛ فكلهم يحبونه لأن الله سبحانه وتعالى قد أحبه؛ لأنه التمس محاب الله ومراضيه تبارك وتعالى، وتجنب ما يسخط الله ويبغضه عز وجل.
  2. اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم من دواعي محبة الله

    من أحب الله سبحانه وتعالى حبب إليه الملأ الأعلى والملأ الأدنى، ولا تنال محبة الله إلا بالطاعة والاستقامة والتقوى التي بها يكون بغض كثير من الناس وكراهيتهم وعداوتهم له.
    يقول تعالى: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ))[آل عمران:31].
    وهذه الآية تسمى: آية الامتحان.. كما قال بعض السلف : "ادعى قوم محبة الله فأنزل الله آية الامتحان: (( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ))[آل عمران:31]" لأن هذه دعوى يستطيع أن يدعيها كل إنسان، ويتوقع في المقابل أن يحبه الله، ولكن إثبات هذه الأمور لا يكون بالدعاوى بل بالبراهين.
    ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ))[آل عمران:31] فبأي شيء تنال محبة الله؟ تنال باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وباقتفاء سنته، وبأن تحب ما يحب صلى الله عليه وسلم، وتخالف وتكره ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل قد ذكر في هذه الآية شرطين متلازمين: ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ))[آل عمران:31] فـ(إن): حرف شرط و(كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ) جملة الشرط، وجوابه(فَاتَّبِعُونِي) وهذا شرط، جوابه: (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) فإن كنت تحب الله، فاتبع الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن متابعته شرط لحصول محبته سبحانه وتعالى لك.
    فإذا وصل العبد إلى تحقيق ذلك؛ ألقى الله محبته في قلوب عباده المؤمنين؛ الذين تكون محبتهم للعبد مبنية على محبتهم لله تعالى.
  3. من أسرار عالم القلوب والأرواح

    قال بعض السلف: [[لو أن العبد أطاع الله سبحانه وتعالى في جوف صخرة صماء في شدة الظلماء، لألقى الله محبته في قلوب عباده المؤمنين، ولو أن العبد عصى الله سبحانه وتعالى في جوف صخرة صماء في شدة الظلماء، لألقى الله بغضه في قلوب عباده المؤمنين]] سبحان الله! إن عالم القلوب والأرواح عالم آخر غير تلك العوالم المادية التي هي محدودة بقوانين معينة، فإنك إذا تذوقت طعاماً من الأطعمة، ووجدت طعمه جيداً أكلته وأحببته، وإذا وجدت طعمه أو رائحته غير ذلك أبغضته، فهذا قانون جعله الله سبحانه وتعالى لهذا الشيء، أما أن ترى أو تسمع عن شخص فتحبه، ثم تسمع بآخر ربما كان ظاهره الخير والصلاح فتبغضه، فهذا دليل على أن لهذا العالم قوانينه وسننه ونواميسه الخاصة به.
    ومن أسرار عالم القلوب والأرواح ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {الأرواح جنود مجندة؛ ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف} كيف تكون الأرواح جنود مجندة؟ يقول بعض المبطلين المتأولين من الصوفية : إن ذلك كان عند تلاقي الأرواح وتعارفها في عالم الأرواح قبل أن تخرج إلى عالم الدنيا، حيث كان لها جولان حول العرش قبل أن يضعها في الأجساد، وقد تعارفت هناك، ففي الدنيا إذا تلاقى اثنان، وكانت روحهما قد تعارفتا هناك، حصل بينهما التعارف والتآلف. ولكننا لسنا بحاجة إلى هذا الكلام؛ لأن التعارف والتآلف لا يكون إلا بمثل ما نطق به الحديث، فإن المتقي يحب المتقي، فإذا رأيت تقياً مثلك لدقائق أو لساعات، فإنك ستحبه وتشعر بأنك قد صحبته العمر كله؛ لأنك وجدت في قلبك ميلاً شديداً إلى حبه، وهو يشعر بذلك أيضاً؛ لأنكما اتفقتما على تقوى الله سبحانه وتعالى، وإن التقيت بشخص آخر مظهره أو كلامه فيه ما فيه، ولكنه لم يكن تقياً، فإنك تجد في نفسك النفور منه، وربما هو يشعر بذلك أيضاً.
    ولهذا نجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن الأخيار من الصحابة الكرام كانوا يتحابون رضوان الله تعالى عليهم، وكانت هناك المحبة القوية بين المهاجرين منهم والأنصار، وكانوا يعيشون بتواد وتراحم فيما بينهم، ونجد أن المنافقين كان بعضهم يميل إلى بعض، ويتناجون فيما بينهم بالإثم في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، بل حتى في الجهاد يكونون وحدهم، وهم كذلك في أي مكان، حتى إنهم بنوا مسجد الضرار ليكون مركزاً لتجمع وتكتل النفاق، واتخذوه ضراراً وتفريقاً بين المؤمنين، وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل، فلو جاء منافق من هجر أو البحرين أو اليمن، فإنه سينزل عند عبد الله بن أبي وطائفته، ولو جاء مؤمن تقي من أطراف الدنيا، لنزل عند أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي أو طلحة أو أحد الصحابة الأخيار، فالنفوس ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، وكل يميل إلى من هو على شاكلته، فالمؤمن إذا ذهب إلى أي بلد من بلدان العالم، فإنه يبحث أولاً عن المسجد، فإن وجد مسجداً، فإنه يسأل: هل هذا المسجد لـأهل السنة لأصلي معهم وأجتمع بهم إليهم؟ ولكن من كان من أهل الفجور والفسق والمعاصي -عياذاً بالله- فإنه أول ما يسأل عن أماكن الفجور والمعاصي والدعارة.. نسأل الله العفو والعافية.