قال المصنف رحمه الله تعالى:
[
وقد جاءت الأقلام في هذه الأحاديث وغيرها مجموعة، فدل ذلك على أن للمقادير أقلاماً غير القلم الأول الذي تقدم ذكره مع اللوح المحفوظ.
والذي دلت عليه السنة أن الأقلام أربعة -وهذا التقسيم غير التقسيم المقدم ذكره-:
القلم الأول: العام الشامل لجميع المخلوقات، وهو الذي تقدم ذكره مع اللوح.
القلم الثاني: حين خلق آدم عليه السلام، وهو قلم عام أيضاً، لكن لبني آدم، ورد في هذا آيات تدل على أن الله قدر أعمال بني آدم وأرزاقهم وآجالهم وسعادتهم، عقيب خلق أبيهم.
القلم الثالث: حين يرسل الملك إلى الجنين في بطن أمه، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، كما ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة.
القلم الرابع: الموضوع على العبد عند بلوغه، الذي بأيدي الكرام الكاتبين الذين يكتبون ما يفعله بنو آدم، كما ورد ذلك في الكتاب والسنة.
وإذا علم العبد أن كلاً من عند الله، فالواجب إفراده سبحانه بالخشية والتقوى؛ قال تعالى: ((فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ))[المائدة:44].. ((وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ))[البقرة:40].. ((وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ))[البقرة:41].. ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ))[النور:52]... ((هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ))[المدثر:56]، ونظائر هذا المعنى في القرآن كثيرة.
ولابد لكل عبد أن يتقي أشياء؛ فإنه لا يعيش وحده، ولو كان ملكاً مطاعاً، فلابد أن يتقي أشياء يراعي بها رعيته.
فحينئذ؛ فلابد لكل إنسان أن يتقي، فإن لم يتق الله اتقى المخلوق، والخلق لا يتفق حبهم كلهم وبغضهم، بل الذي يريده هذا يبغضه هذا، فلا يمكن إرضاؤهم كلهم، كما قال الشافعي رضي الله عنه: "رضا الناس غاية لا تدرك؛ فعليك بالأمر الذي يصلحك فالزمه، ودع ما سواه فلا تعانه"، فإرضاء الخلق لا مقدور ولا مأمور، وإرضاء الخالق مقدور ومأمور].
الشرح:
لقد أحسن المصنف رحمه الله وأجاد؛ حين عقب على باب القدر بهذه الفقرة، ولا سيما أنه ذكر فيها آثار الإيمان بالقدر على الإنسان؛ من تقوى الله سبحانه وتعالى، والصبر على ما يناله في ذات الله عز وجل، واليأس مما عند الناس، والتماس رضا الله وإن سخط الناس، فمثل هذه المقامات هي من أعظم الفوائد التي نجتنيها ونستفيدها؛ إذا علمنا عقيدة
السلف الصالح، وعلمنا آثارها على حياتهم وعلى تقواهم وإيمانهم، فإن هذا ملازم لذلك، وإن كان الغالب علينا أننا -لكثرة ما ظهر من الفرق، ولكثرة ما نريد من معرفة الحق- نحرص على معرفة ما يعتقد
السلف -لنعتقده وندين الله عز وجل به- أكثر من حرصنا على معرفة آثار تلك العقيدة؛ ولكن معرفة آثار تلك العقيدة ومستلزماتها ومقتضياتها في قلوبنا وأعمالنا، وكيف أن ذلك يقربنا إلى الله عز وجل ويزيدنا به إيماناً وصلة؛ هو أيضاً مما لا يجوز أن نغفله إغفالاً تاماً؛ فإن هذه هي الثمرة المرجوة المطلوبة، وإلا تحولت العقيدة إلى تصورات ذهنية لا أثر لها في حركة صاحبها وواقعه.