المادة    
يقول الإمام أبو جعفر رضي الله عنه:
[فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن، ليجعلوه غير كائن؛ لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه غير كائن، ليجعلوه كائناً؛ لم يقدروا عليه، جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة].
هذه الحقيقة قد تقررت وقد تقدمت فيما سبق، ولكن الشيخ رحمه الله أعادها هنا بمناسبة حديثه عن القلم، وأيضاً لأهمية موضوع القدر، وكأن الشيخ كلما أراد أن يخرج منه يعود إليه لأهميته ولخطورته؛ لأنه يرى أن هذا الموضوع أكبر مسألة وقع فيها الخلاف في الأمة، وقد بينا ما في هذا القول من المبالغة.
وقد شرح ابن أبي العز رحمه الله هذا بإيجاز؛ فقال: تقدم حديث جابر يقول: { جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله! بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما نستقبل؟ قال: لا. بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير}، وقد تقدم هذا عند قول الطحاوي رحمه الله: [وكل ميسر لما خلق له، والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله] وقد شرحنا هناك هذا الحديث وأمثاله، وقلنا: إن هذا الحديث ورد عن علي وجابر وعمران بن حصين وعبد الله بن مسعود وسهل بن سعد، وبينا عدة أحاديث تدل على هذا المعنى، وأن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أدركوه، وأنهم سألوا عنه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب على سؤالهم، بل إن عمران بن حصين امتحن واختبر التابعي، فسأله حتى يعرف هل يجيب أم لا يجيب؟
  1. ما قدره الله فهو كائن لا يرده شيء

    إذاً: هذه حقيقة مطلقة مقررة لا شك فيها عند أي مؤمن، وهي في معنى ما جاء في حديث جبريل: { أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر }، فالإيمان بالقدر من معناه: أن نؤمن بأن كل ما نعمله اليوم، وكل ما يعمله الناس في كل زمان ومكان؛ هو مما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، وليس فيما يستأنفون؛ بل في أمر قد قضي وكتب، وهذا أمر واضح ولا إشكال فيه.
    ثم يذكر رحمه الله الحديث الآخر: وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: { يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف }، والحديث يتفق في لفظه مع عبارة المصنف، ولهذا أورده الشارح رحمه الله تعالى، وهو من الوصايا النبوية العظيمة، الجامعة لأعظم أنواع التوحيد.
    قوله صلى الله عليه وسلم: { احفظ الله يحفظك}، كيف يحفظ الإنسان ما بينه وبين الله؟!
    يكون ذلك بحفظ شرعه، والقيام به علماً وعملاً ودعوة.
    قوله: {احفظ الله تجده تجاهك}، فمن كان مع الله كان الله معه: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ))[محمد:7]، فكل من نصر الله، وكان مع الله، كان الله سبحانه وتعالى معه، وكان مؤيداً له وناصراً.
    ومن هنا نفهم كلمة (تجاهك أو أمامك) بأنها تعني المعية الخاصة، معية الله تبارك وتعالى للمؤمنين، التي هي معية النصر والتأييد والتوفيق والسداد منه سبحانه وتعالى، بمعنى: أنه لن يضيعك ولن يخيبك، بل سوف ينصرك ويحفظك ويوفقك ويسددك.
    ثم يبين صلى الله عليه وسلم أصل التوحيد، فيقول: {إذا سألت فاسأل الله}، هكذا يقرر النبي صلى الله عليه وسلم، فالعبد سائل لا محالة ؛ لأن العبد بطبيعته فقير، وكل مخلوق في هذه الدنيا فقير بطبيعته، حتى أغنى أغنياء الأرض من أهل المال والملك فقراء إلى من دونهم، فقد يكون هو المتحكم فيهم أو المعطي، ولديه الملك والمال والجاه، ولكنه في الحقيقة فقير إلى من دونه وإلى من تحته؛ فهو فقير إلى الموظف الذي عنده، فقير إلى الجند الذين يحمونه.. وهكذا.
    إذاً: فالفقر ملازم للإنسان، حتى من يرى ظاهراً من الناس أنه هو المتسلط أو المسيطر، فهو فقير في حقيقته، فالفقر ذاتي للناس، وبما أنهم فقراء، فلابد أن يسألوا الغني، ولكن أحياناً يضل الناس، فيطلبون الشيء من غير مصدره، فقد كانوا يطلبون الحجارة والأصنام والأموات الذين في القبور، ويدعونهم ويستغيثون بهم، فلهذا يبين النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأصل العظيم من أصول التوحيد: {إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله}، كما في سورة الفاتحة: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))[الفاتحة:5]، فإذا سألنا فنسأل الله، وهذه العبادة كلها دعاء، وكلها توسل، وكلها سؤال، ولا بد من الاستعانة مع العبادة؛ فنعبده وندعوه وحده، وأيضاً نستعين به وحده سبحانه وتعالى، فكأن هذا الحديث يتضمن معنى ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))[الفاتحة:5].
    ثم بين بعد ذلك هذا المعنى الذي يتعلق بالقدر: {واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك}، فلو اجتمع كل من خلقهم الله من الإنس والجن لأن ينفعوك بأي شيء، لم ينفعوك إلا بما قد كتب الله لك، فالفضل أولاً وآخراً لله سبحانه وتعالى، وبالمقابل لو علم كل مخلوق حقيقة هذا القول لتغيرت حياته.
    واعلم أيضاً: أن الخلق جميعاً لو اجتمعوا على أن يضروك، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، وقد بينه في الرواية الأخرى: {واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك}، فمهما قيل من تعللات؛ (لو كان) و(لو أن)؛ فإن (لو) تفتح عمل الشيطان، وقد نهينا عن كلمة (لو)؛ لأنها تدل على ضعف الإيمان بالقدر، والمؤمنون لا يقولون: لو أننا فعلنا، ولو أننا قلنا... ونحو ذلك من الأقوال، بل يقولون: قدر الله وما شاء فعل، ويعلمون أن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، قال تعالى: ((قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ))[التوبة:51]... ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا))[الحديد:22] أي: من قبل أن نخلقها، فإذا أصاب الإنسان شيء يسوءه، فعليه أن يعلم أن الله قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة قد كتبه عليه، فلماذا إذا أصابه جزع وقنط قال: لو كنت فعلت كذا لكان كذا؟! وربما تسخط المتسخط، فشكا الخالق سبحانه وتعالى إلى الناس، يقول: فعل بي كذا، وقدر علي كذا!! الله سبحانه وتعالى قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة كتب هذا عليك، فلماذا تشكو الله إلى عاجز مثلك، مع أنه مكتوب عليه هو أيضاً قبل أن يخلق الله السموات والأرض بخمسين ألف سنة أنه سيقع له مثل ما وقع لك أو أكثر؟!
    إذاً: نجد هنا أهمية الإيمان بالقدر، حتى ضعاف الإيمان من المسلمين عندهم شيء من الإيمان بالقدر؛ فإن أحدهم يقول: قدر الله، وهذا قدر الله.. فيجد الراحة والأنس والطمأنينة، ويجد التسلية على المصيبة التي قد وقعت له، وبعضهم يقول: لا أدري ما فيه الخير؛ أي أنه عسى أن يكره شيئاً وهو خير له، وعسى أن يحب شيئاً وهو شر له، وهذه الجرعات من الطمأنينة لا تكون إلا للقلوب المؤمنة التي تتحمل المصائب والآلام والمحن، ولهذا فإن المسلمين حتى في أشد عصور الهزائم والفقر والضياع والهوان متماسكون؛ لأن لديهم طمأنينة تعينهم على تحمل الحياة، لكن الذين لا يؤمنون بالقدر كالغربيين، سرعان ما يجزعون من المصائب، ثم ينتحرون في الأغلب الأعم -نسأل الله العفو والعافية- لأنهم يفتقدون هذه الطمأنينة التي لا يصب بردها في القلب إلا الإيمان بالله والإيمان بأقدار الله سبحانه وتعالى، وأن كل ما كتبه لا مرد له، وأن ما فيه العبد من خير ومن نعم فهو من الله، وما أصابه من شر فهو أيضاً من الله سبحانه وتعالى.