المادة    
وهناك أمر ينبغي أن نتنبه له، وهو: من أين نأخذ معاني الألفاظ الشرعية والكلمات القرآنية والنبوية؛ كالعرش أو الكرسي أو القلم أو الصفات، أو أي كلمة جاءت في القرآن أو السنة؟
هذه قضية أساسية، فمن الناس من يقول: نفهم القرآن والسنة على ضوء كلام العرب، وهذا لا يسلَّم على إطلاقه؛ لأن كلام العرب لا شك أنه يحتمل معاني كثيرة للكلمة الواحدة؛ لأن لغة العرب واسعة، فالذين يقولون: نفهم القرآن على ضوء كلام العرب، قد أخطئوا؛ لأن كلام العرب يحتمل تأويلات كثيرة جداً، ولغة العرب أوسع اللغات في العالم، حتى قيل: إن للأسد خمسمائة اسم، وللشمس ثلاثمائة اسم، فهي لغة واسعة جداً، فإذا جاءتنا كلمة قرآنية فيها الشمس، فعلى أي معنى ننزلها؟! وهناك المشترك اللفظي، وهناك الجناس، وغير ذلك.
  1. أهمية اتباع فهم الصحابة للوحيين

    إننا نفهم المصطلحات الواردة في الكتاب والسنة على وفق فهم الصحابة والتابعين، وهذا لا يتعارض مع قولنا: على ضوء لغة العرب؛ لأن الصحابة هم أفصح الناس وأعلمهم باللغة، فقد نزل القرآن بلغتهم، وتلقوه وآمنوا به، وعلموه وفهموه، وحفظوه وطبقوه وعملوا به، وهم عرب أقحاح محتج بلغتهم، فاللغة حاصلة عندهم، وزيادة على ذلك هم أهل الإيمان والدين، فهم حجة من جهة اللغة، وفوق ذلك هم حجة في الدين وفي الفهم.
    فإذا فهم الصحابة والتابعون والسلف من كلمة قرآنية معنى ما، لم يجز لأحد بعدهم أن يخالفهم، وإلا كان واقعاً في أحد أنواع التأويل الثلاثة: إما الكفر أو البدعة أو الخطأ؛ فأقل ما يقال: إنه أخطأ، لأنه أتى بكلمة لم يفهمها الصحابة والسلف من كتاب الله، وهم أعلم الناس به، فهم المرجع إذاً.
    ولهذا لا يمكن أن نستغني أبداً عن فهم أهل السنة للقرآن والسنة، ونكتفي باللغة.
    فلو جاء أحدهم وقال: إن عندي تاج العروس! أكبر القواميس والمعاجم في اللغة العربية، فأقرأ القرآن وأنظر معناه من تاج العروس، فنقول: هذا تصرف خاطئ، فالأصل أن تأخذ معنى الآية من كتب التفسير التي تفسر القرآن بالقرآن، ثم بالسنة، ثم بكلام الصحابة والتابعين، ثم بكلام العرب وشعرهم، هذا هو المنهج الصحيح لفهم القرآن والسنة، فيجب أن نعي ذلك جيداً، وألا ننسى هذه القضية الأساسية التي يخالفنا فيها أهل البدع؛ مثل المعتزلة، ويخالفنا فيها إلى حد ما الأشاعرة، ويخالفنا فيها الصوفية والباطنية خلافاً شديداً، ويخالفنا فيها في هذه الأيام وفي هذا العصر الحداثيون.
  2. خطر المخالفة لفهم السلف

    إن خلافنا مع الحداثيين أصله في هذه القضية، وهو كيف نفهم الكلام؟ فإذا قلنا كما يقولون: إن الكلمة لها عند كل شاعر وعند كل قائل معنى يختلف عن الآخر، فلن يكون لدينا إذن شيء ثابت، فما الذي نؤمن به؟! وبأي شيء نتمسك؟! وإلى أي شيء نرجع؟! فقد يقول قائل: ربه هذا الحجر، فيقول أحدهم: هو لا يقصد الحجر إنما يقصد الله، والثاني يقول: ربي الله، فيقولون: لا. هذا كافر؛ لأنه ما يقصد الله الذي هو رب العالمين، إنما يقصد شيئاً من الأشياء سماه الله!
    إذاً: لا معيار نستطيع أن نعرف به حقاً من باطل ولا صواباً من خطأ.
    وكذلك الغربيون عندما يدرسون لغاتهم أو مصطلحاتهم، ينطلقون من منطلق أن اللغة اصطلاح تواضع عليه الناس، فمثلاً: اللغة اللاتينية التي هي لغة أوروبا الأصلية، كانت لغة العلم إلى القرن التاسع عشر، فإلى القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر كان العالم لا يكتب ولا يؤلف إلا باللغة اللاتينية، والجامعات كانت تدرس باللغة اللاتينية، وبعد ذلك تفرعت، فكل دولة أصبح لها لغتها المستقلة، فالذي أوجد اللغة هم الناس، حيث غيروها وأوجدوا لغة جديدة وانتهى الأمر، فليس لديهم نص معصوم ولا نص مقدس، واللغة هم الذين يضعونها.
    إذاً لا مانع لديهم أن تتعدد الأفهام والآراء، وأن يضع كل إنسان ما شاء، فهذا فارق أساسي بيننا وبينهم، لكن نحن عندنا لغة مرتبطة بالقرآن، والقرآن كلام الله الذي سيبقى إلى أن يرفعه الله في آخر الزمان، ولدينا السنة يبقى فهمها فهماً محدداً لا يمكن الخروج عليه، وإلا لو فعلنا ذلك لاتبعنا ديناً آخر، فلو تغيرت معاني القرآن والسنـة؛ لكنا في دين آخر غير ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، ومن هنا نعلم التقارب والتناسب بين هؤلاء الحداثيين وبين الصوفية والباطنية، فغلاة الصوفية والباطنية يقولون: الكلمة ليست كما تفهمها أنت على ظاهرها، حتى الكفر الصريح يقولونه قديماً ويقولونه حديثاً، ثم يقولون: لا بد أن يؤول، يقول خبيثهم: ما في الجبة إلا الله.. سبحاني سبحاني! ما أعظم شأني! وهذا كفر، لكنهم يقولون: أنتم ما فهمتم كلامه، هو لا يقصد أنه هو الله، لكنه في حالة الفناء، وفي حالة المحو، وفي حالة الشطح، فإذاً لا نكفره.
    ويأتي أيضاً شاعر حداثي ملحد، فيتكلم ويقول في الله تعالى ما لا يجوز أن يقال، ولو قاله في حق مخلوق من المخلوقات لكان اعتداءً، وإذا قلنا: هذا كفر وإلحاد، قالوا: هو لا يقصد الإلحاد، لكن هذه هي الرؤية الشعرية وهذه اللغة الشعرية، وهذا هو الصراع النفسي الذي في داخله، إذاً فالقضية واحدة، والمنطلق واحد، وأيضاً النهاية واحدة.
    فلينتبه المسلم لهذه القضايا، فهي أساسية جداً؛ لأنها تمس أصل الدين تماماً، وليست خلافاً فيما يقبل الخلاف.
    هذا أمر وأصل عظيم تنبني عليه أمور عظيمة، فالذي لا يسلم بأن القرآن والسنة يفهمان كما فهمهما السلف الصالح، وأن كلام الله سبحانه وتعالى لا يُفَسَّر إلا وفق ما ذكرنا، فإنه سيضل ضلالاً بعيداً، ولا تأمن أن يفسر ما شاء كما يشاء.
    وقد ظهر كتاب عبارة عن ثلاث محاضرات لـحسن الترابي، وهو يجري على نفس المنهج، لكن ليس من باب الحداثة الأدبية، وإنما من باب العصرية الإسلامية -إن صح التعبير- والحقيقة أنه لا يتسع المقام لأن نستعرض ما في هذه المحاضرات وما في غيرها من كتبه، لكنه يجري على نفس المنوال، ويفسر بعض الأحكام بتفسير لم يسبقه إليه أحد من السلف.
    وفي نشرة صغيرة له ولاتجاهه المسمى: الاتجاه التجديدي، يقولون: إن الذين يفهمون القرآن من خلال تفسير الطبري أو ابن كثير أو فلان أو فلان من أمثال هؤلاء؛ يتابعون الفهم التقليدي العقيم، الذي لا يؤدي إلى تجديد ولا إلى فهم الإسلام على حقيقته، وإنما الفهم الصحيح للإسلام أو للقرآن يكون بالمعاناة، وأن الإنسان يقرأ النص القرآني ويتأمل ويعاني حتى يفهم المعنى الحقيقي، وهذا مثل ما قال أولئك القدامى من الباطنية والصوفية من جهة، ومثل ما يقوله أيضاً الحداثيون عن الشعر أو القصة من جهة أخرى، فأصل الضلال عندهم هو إعراضهم عن فهم السلف الصالح، وهذا أمر يجب أن يتنبه إليه الشباب المسلم، وأن يعرفوا خطره على الإسلام.
  3. سلامة منهج علماء اللغة وخدمتهم للقرآن

    إن أهل اللغة الذين وضعوا قواعد المجاز، هم في الأصل على مذهب المعتزلة أو على مذهب الأشاعرة، فـعبد القاهر الجرجاني معتزلي والباقلاني صاحب إعجاز القرآن هو من أئمة الأشعرية، وهم الذين خاضوا في هذه الأمور، وهم الذين قعدوا وأصلوا هذه الأصول التي بنى عليها من جاء بعدهم، ممن جعلوا فهم السلف الصالح للقرآن باطلاً، والأصل أن الباطل ليس الفهم الذي فهمه السلف، وإنما هو ما فهمه هؤلاء.
    وهؤلاء ليسوا حجة على الصحابة ولا على التابعين، وقد أشرنا إلى هذا وقلنا: إنه يكفي أن نعرف أنه لم يوجد من علماء اللغة الأوائل الذي أسسوا هذا العلم - مثل أبي عمرو بن العلاء، والأصمعي، والنضر بن شميل، والخليل بن أحمد الفراهيدي، الذين هم الأئمة العلماء الثقات المحتج بهم -لم يوجد أحد منهم على غير منهج ومذهب أهل السنة والجماعة، ولم يقل أحد منهم: إن في القرآن مجازاً، ولم يقل أحد منهم: إن في القرآن كلاماً يراد به غير حقيقته، وإنما لما جاء عبد القاهر وأمثاله في القرن الثالث، والقرن الرابع، أحدثوا هذه البدع، فالحجة الأقوى -حتى عند أهل اللغة- هي كلام أئمة اللغة المتقدمين الذين كان كلامهم حجة، أما المتأخرون فالخلاف بينهم لا ينتهي في هذه الأمور وفي غيرها.
    ونحن لا نقول: إن هناك عداوة بين أهل اللغة وبين أهل السنة أو المؤمنين بالصفات، بل نقول: إن من أهل اللغة طائفة شذت عن أهل اللغة الأصليين.. العلماء الثقات المحتج بهم في اللغة، والذين لا مطعن في دينهم، فما كان أحد يطعن في دين الخليل بن أحمد؛ بل لقد كان من العباد، ولا النضر بن شميل، ولا سيبويه، ولا أبي عمرو بن العلاء، ولا الكسائي، فإن الكسائي وأبا عمرو من أهل القراءات، فهؤلاء علماء أهل عبادة وفضل وخير، وقد كانوا يقولون: إن الهدف الأساس من اللغة ومن علمهم هذا هو خدمة كتاب الله، ولو قرأت ترجمة أي واحد منهم، لوجدت في سيرته العبادة والتقوى والصلاح، فهم ما أرادوا إلا خدمة القرآن، فإذا جاء من بعدهم من أهل البلاغة والنقد، أو من أهل أي علم من العلوم، ممن انتسب إليهم، وادعى أنه مثلهم من أهل اللغة، ثم حرف وأول، فهو الذي خرج عما قاله أولئك وعما قرروه، فهو وأمثاله خارجون عن أهل السنة؛ وهم خارجون أيضاً عن أهل اللغة الذين هم حجة وعمدة في اللغة.