ظلت تأويلات
الفلاسفة و
الباطنية ينظر إليها على أنها كفر؛ إلى أن جاء رجل كانت له اليد الطولى في نشر هذه التأويلات بين المسلمين وفي تغيير نظرتهم إليها من أن تكون كفراً إلى أن تصبح مقبولة ومستساغة عندهم.
ذلكم هو الشيخ الإمام
أبو حامد الغزالي في مرحلة اعتناقه
للباطنية قبل أن يصل إلى مذهب
أهل السنة في الأخير؛ فحين اعتنق
الباطنية والفلسفة، ألف كتاباً سماه
المضنون به على غير أهله، وكتاباً آخر سماه
معارج القدس وفي هذين الكتابين يقول
الغزالي بأن الوحي هو فيض من العقل الكلي إلى العقول الجزئية، ويؤول القلم واللوح بأن اللوح المحفوظ هو النفس الكلية، وأن القلم هو العقل الأول.
وقد كان
الغزالي متأثراً في تلك الفترة بـ
الفلاسفة، واعتقد مذهبهم وصححه، وشهرته تختلف عن
ابن سينا، فـ
ابن سينا اشتهر عند الناس بكفره وفساد دينه، فلم يؤخذ هذا عنه، ولكن
الغزالي اشتهر عنه أنه عالم من علماء الإسلام، ولذلك أخذت كتبه جميعاً؛ ما كان منها قبل أن يتوب وأن يعرف الطريق المستقيم، وما كان منها بعد ذلك، فاختلطت كتبه، فأخذها وتلقاها كثير من الناس على هذا الأساس، وانتشرت بين المسلمين، فأصبح بعضهم لا يرى فيما قالته
الفلاسفة بأساً.
ولهذا تجدون أن شيخ الإسلام
ابن تيمية في كثير من المواضع في
الفتاوى لا يقول: قال
الغزالي في
المضنون به على غير أهله، وإنما يقول: قال صاحب
المضنون به على غير أهله؛ لأنه لو قال: إن الكلام
للغزالي؛ لاشتهر وقبل، فهو يقول: (قال بعض
الباطنية، أو بعض من تبعهم مثل صاحب
المضنون به على غير أهله ) لكن لو قال: قال
الغزالي؛ لأخذ الناس بكلام
الغزالي؛ لأنهم يعرفون أنه إمام عظيم، وربما تشربته قلوبهم، ولم ينكروه؛ و
شيخ الإسلام يعلم أن
الغزالي قد رجع عن هذا القول.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى هو يخاطب الناس ولا يريدهم أن يضلوا؛ لمحبة
الغزالي ومكانته في قلوب كثير من الناس.
فهو أولاً: لا يريد أن يتهم الغزالي بأنه قال هذا الكلام؛ لأنه قد تاب ورجع عنه، وثانياً: يخشى إذا ذكره باسمه أن يؤثر في الناس؛ لأن كلام الغزالي له وزنه وله قيمته، أما لو قال: (قال ابن سينا وأتباعه) فليس هناك مشكلة؛ لأن هذا رجل اشتهر كفره عند جميع المذاهب وعند العامة والخاصة.
ومن هذا الفعل يمكننا أن نستنتج منهجاً من مناهج الدعوة إلى الله، فمن كان ذا قيمة وعلم وفضل وشهرة، فلا تقل للناس عنه: قال فلان كذا وكذا، وكلامه خطأ؛ لأنك في هذه الحالة ستخسر أكثر مما تكسب؛ لكن لو قلت: يقول بعض الناس: كذا وكذا، وبينت بطلانه، فإن الناس سوف يصدقون ويرون أن هذا خطأ وباطل، فإذا سمعوه من فلان، بدءوا يقارنون بين القولين، لكن لو قلت من أول الأمر: إن الكلام لفلان؛ لكان ذلك حاجزاً أو حائلاً يمنع من قبول كلامك عند الناس، فهذه حكمة في الدعوة يجب أن نفطن لها.
والشاهد: أن هناك من أول اللوح والقلم، والذين قاموا بالتأويل هم أولئك الفلاسفة الباطنية، ثم نشر ذلك أبو حامد الغزالي، ولكنه لم ينتشر ولم يشتهر؛ لأنه مما هو واضح البطلان لكل ذي عينين.