المادة    
أما الإيمان باللوح فدليله -كما ذكر الشارح رحمه الله- قوله تعالى: ((بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ))[البروج:21-22].
واللوح المحفوظ له أسماء أخرى جاءت في القرآن، وهي: أم الكتاب، والكتاب المكنون، والإمام المبين، قال تعالى: ((وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ))[يس:12]، الإمام المبين هو اللوح المحفوظ.
وقد مر معنا في مراتب القدر أن الله عز وجل لا تخفى عليه خافية، فهو يعلم كل شي وكل ما كان وما سيكون، وكتب سبحانه وتعالى ذلك في اللوح المحفوظ وفق علمه، وهذا اللوح مشتمل على مقادير الخلائق؛ آجالهم وأرزاقهم، فكل ما كان وما سيكون قد كتبه الله سبحانه وتعالى في ذلك اللوح وفق علمه السابق: ((وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ))[يس:12]، فهذا الإمام المبين أو اللوح المحفوظ هو الذي يجب علينا أن نؤمن به.
والقرآن الكريم نفسه مكتوب في اللوح المحفوظ، ووحي الله سبحانه وتعالى الذي يوحيه إلى الملائكة وهم يكتبونه، مكتوب في اللوح المحفوظ -كما سيأتي- وحين رفع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء صعد حتى سمع صريف الأقلام، والملائكة تكتب ما يوحي به الله سبحانه وتعالى إليها، وكل ما يقدره الله سبحانه وتعالى هو -أصلاً- مكتوب في اللوح المحفوظ، وأعمال بني آدم كلها مكتوبة في ذلك اللوح، ولهذا قال ابن عباس في قوله تعالى: ((إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))[الجاثية:29] [[وهل يكون النسخ إلا من أصل؟!]]، وفق المعلوم لدى أي عربي أن النسخ إنما يكون من أصل.
إذاً: الملائكة تستنسخ ما يعمله بنو آدم من اللوح المحفوظ؛ لأن بني آدم لا يعملون إلا وفق ما قد كتبه الله سبحانه وتعالى في ذلك اللوح المحفوظ، فقد كتب لكل إنسان رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، وكل ما يمكن أن يكون في حياته فهو موجود في ذلك اللوح، تستنسخه الملائكة، وتقرر عليه العبد يوم القيامة: ((اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا))[الإسراء:14].
ونسختك من اللوح المحفوظ هي نسخة طبق الأصل من حياتك التي عشتها في هذه الحياة الدنيا، وهي تشمل الحسنات والسيئات، وكذلك يكتب في اللوح المحفوظ من غير أعمال بني آدم ما يمر بهم؛ كالأقدار والمصائب، والموت والحياة، والفقر والغنى، والضحك والبكاء، والسعادة والشقاء، كل ذلك أيضاً مكتوب في ذلك اللوح، فكل ما يقع فقد كتبه الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا))[الحديد:22]، إذاً: هذا اللوح فيه كل ما يقضيه الله سبحانه وتعالى ويقدره لبني آدم.
  1. أوصاف اللوح المحفوظ

    أما صفة اللوح المحفوظ فيقول الشيخ رحمه الله: "روى الحافظ أبو القاسم الطبراني بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [إن الله خلق لوحاً محفوظاً من درة بيضاء، صفحاتها ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، لله فيه كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة، وعرضه ما بين السماء والأرض، ينظر فيه كل يوم ستين وثلاثمائة نظرة- يخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاؤه]". رواه الإمام الطبراني مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ما حكم رفع هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال الشيخ ناصر : " ضعيف.. رواه الطبراني في المعجم الكبير، وفيه زياد بن عبد الله وهو البكائي، عن ليث وهو ابن أبي سليم، وكلاهما ضعيف، وقد رواه من طريق أخرى نحوه عن ابن عباس موقوفاً عليه، وإسناده يحتمل التحسين، فإن رجاله كلهم ثقات غير بكير بن شهاب وهو الكوفي، قال فيه أبو حاتم : شيخ، وذكره ابن حبان من الثقات".
    إذاً: هو ضعيف إذا كان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أما إذا كان من كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنه، فهو قابل للتحسين كما يقول الشيخ ناصر، أو كما قال الأرنؤوط، والذي حكم بأن سنده حسن، ولعله اعتمد على كلام الشيخ ناصر رحمه الله.
    وهناك طريق أخرى عن الإمام البغوي ذكرها الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية من سورة البروج عند قوله تعالى: ((بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ))[البروج:21-22]، فقد ذكر الإمام البغوي رحمه الله الحديث ولفظه قريب من لفظ الحديث، وأن من صفة العرش واللوح أنه من درة، وأن فيه ياقوتاً، وأن قلمه النور، لكن في رواية البغوي بدلاً من قوله: {لله فيه كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة} قال: {كلامه معقود بالعرش وأصله في حجر ملك}، فهي صفة أخرى، أما من حيث وصفه بأنه من الياقوت، وبأنه من درة بيضاء، وقلمه نور، فهو متشابه، فهي طريق أخرى في صفة اللوح.
    وهذه الطريق التي رواها الطبراني الموجودة هنا مروية من طريق عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس، والطريق التي ذكرها البغوي رحمه الله رواها من طريق مجاهد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
    إذاً: نستطيع بمجموع الطريقين -وبما أن الطريق الأولى حسنة أو قابلة للتحسين- أن نعرف أن صفة اللوح هذه من كلام حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه، وإذا قلنا: إن هذا من كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنه، فإن له حكم المرفوع؛ لأنه لا يحتمل الرأي ولا يقوله باجتهاد؛ لأنه من أمور الغيب التي لا يقول فيها ابن عباس ولا غيره برأيه، إلا في حالة واحدة؛ وهي إذا كان الصحابي أو التابعي ممن يعلم أنه ينقل عن أهل الكتاب، لكن الذي يظهر من هذا الوصف أنه ليس منقولاً عن أهل الكتاب، بل إن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه لم يقله برأيه؛ لأن هذا مما لا مجال للرأي فيه، فهو ليس مجرد رأي أو تفسير، وإنما هو وصف لأمر غيبي لا يعلمه إلا الله، أو من أطلعه الله سبحانه وتعالى عليه من أنبيائه، وبهذا يتبين أن له حكم الرفع.
    إذاً: نستطيع أن نقول مطمئنين: إن صفة اللوح هي كما وردت في هذا الحديث.
    وعندما ذكر الله عز وجل قصة أصحاب الكهف، ونفى ما يقوله اليهود وغيرهم في عدتهم، وذكر أن عدتهم لا يعلمها إلا قليل، قال ابن عباس : [[أنا من ذلك القليل]]، لكن قوله هذا يحتمل أن يكون أخذه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون مما فيه مجال للرأي، ولكن كيف يكون للرأي مجال في عدة أصحاب الكهف؟ ((سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ))[الكهف:22]، فهذه الأعداد (ثلاثة رابعهم كلبهم) و(خمسة سادسهم كلبهم) رجم بالغيب، ولا تعتمد على العلم، ولكن قوله: ((وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ))[الكهف:22] لم توصف بأنها رجم بالغيب، ولو فكر الإنسان واجتهد؛ لاستطاع أن يصل إلى أن العدد الصحيح في عدة أصحاب الكهف أنهم سبعة وثامنهم كلبهم.