أما صفة اللوح المحفوظ فيقول الشيخ رحمه الله: "روى الحافظ
أبو القاسم الطبراني بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [
إن الله خلق لوحاً محفوظاً من درة بيضاء، صفحاتها ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، لله فيه كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة، وعرضه ما بين السماء والأرض، ينظر فيه كل يوم ستين وثلاثمائة نظرة- يخلق ويرزق، ويميت ويحيي، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاؤه]". رواه الإمام
الطبراني مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لكن ما حكم رفع هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال الشيخ
ناصر : " ضعيف.. رواه
الطبراني في
المعجم الكبير، وفيه
زياد بن عبد الله وهو
البكائي، عن
ليث وهو
ابن أبي سليم، وكلاهما ضعيف، وقد رواه من طريق أخرى نحوه عن
ابن عباس موقوفاً عليه، وإسناده يحتمل التحسين، فإن رجاله كلهم ثقات غير
بكير بن شهاب وهو الكوفي، قال فيه أبو حاتم : شيخ، وذكره
ابن حبان من الثقات".
إذاً: هو ضعيف إذا كان مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أما إذا كان من كلام
ابن عباس رضي الله تعالى عنه، فهو قابل للتحسين كما يقول الشيخ
ناصر، أو كما قال
الأرنؤوط، والذي حكم بأن سنده حسن، ولعله اعتمد على كلام الشيخ
ناصر رحمه الله.
وهناك طريق أخرى عن الإمام
البغوي ذكرها الحافظ
ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية من سورة البروج عند قوله تعالى: ((
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ *
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ))[البروج:21-22]، فقد ذكر الإمام
البغوي رحمه الله الحديث ولفظه قريب من لفظ الحديث، وأن من صفة العرش واللوح أنه من درة، وأن فيه ياقوتاً، وأن قلمه النور، لكن في رواية
البغوي بدلاً من قوله: {
لله فيه كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة} قال: {
كلامه معقود بالعرش وأصله في حجر ملك}، فهي صفة أخرى، أما من حيث وصفه بأنه من الياقوت، وبأنه من درة بيضاء، وقلمه نور، فهو متشابه، فهي طريق أخرى في صفة اللوح.
وهذه الطريق التي رواها
الطبراني الموجودة هنا مروية من طريق
عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن
ابن عباس، والطريق التي ذكرها
البغوي رحمه الله رواها من طريق
مجاهد عن
ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
إذاً: نستطيع بمجموع الطريقين -وبما أن الطريق الأولى حسنة أو قابلة للتحسين- أن نعرف أن صفة اللوح هذه من كلام حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه، وإذا قلنا: إن هذا من كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنه، فإن له حكم المرفوع؛ لأنه لا يحتمل الرأي ولا يقوله باجتهاد؛ لأنه من أمور الغيب التي لا يقول فيها ابن عباس ولا غيره برأيه، إلا في حالة واحدة؛ وهي إذا كان الصحابي أو التابعي ممن يعلم أنه ينقل عن أهل الكتاب، لكن الذي يظهر من هذا الوصف أنه ليس منقولاً عن أهل الكتاب، بل إن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه لم يقله برأيه؛ لأن هذا مما لا مجال للرأي فيه، فهو ليس مجرد رأي أو تفسير، وإنما هو وصف لأمر غيبي لا يعلمه إلا الله، أو من أطلعه الله سبحانه وتعالى عليه من أنبيائه، وبهذا يتبين أن له حكم الرفع.
إذاً: نستطيع أن نقول مطمئنين: إن صفة اللوح هي كما وردت في هذا الحديث.
وعندما ذكر الله عز وجل قصة أصحاب الكهف، ونفى ما يقوله اليهود وغيرهم في عدتهم، وذكر أن عدتهم لا يعلمها إلا قليل، قال ابن عباس : [[أنا من ذلك القليل]]، لكن قوله هذا يحتمل أن يكون أخذه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون مما فيه مجال للرأي، ولكن كيف يكون للرأي مجال في عدة أصحاب الكهف؟ ((سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ))[الكهف:22]، فهذه الأعداد (ثلاثة رابعهم كلبهم) و(خمسة سادسهم كلبهم) رجم بالغيب، ولا تعتمد على العلم، ولكن قوله: ((وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ))[الكهف:22] لم توصف بأنها رجم بالغيب، ولو فكر الإنسان واجتهد؛ لاستطاع أن يصل إلى أن العدد الصحيح في عدة أصحاب الكهف أنهم سبعة وثامنهم كلبهم.