المادة    
ويجب ملاحظة الفرق بين منهج أهل السنة ومنهج أهل الكلام في باب الغيبيات، فـأهل السنة والجماعة يشترطون في الإيمان بأي أمر غيبي ثبوته بالدليل من الكتاب أو السنة الصحيحة، سواء كان بطريق الآحاد أو التواتر، وسواء أدركته عقولنا أم لا.
أما أهل الكلام فإنهم يشترطون للإيمان بأي أمر غيبي شرطين:
الشرط الأول: أن يكون ثابتاً؛ والثبوت عندهم يختلف عن الثبوت عند أهل السنة والجماعة، فإنهم يقولون: لا نقبل إلا ما كان متواتراً، والتواتر عندهم مختلف فيه؛ فبعضهم اشترط أن يرويه سبعون عن سبعين عن سبعين، وقال بعضهم: أربعون عن أربعين عن أربعين، وقال بعضهم: يكفي ثلاثون إلى عشرة، وكل له رأي.
الشرط الثاني: ألا يخالف العقل؛ فلو خالف العقل، حتى وإن كان متواتراً؛ فإنه يجب أن يؤول، وإن دل عليه العقل، حتى وإن كان ضعيفاً، بل ربما كان موضوعاً؛ فإنهم يعملون به.
إذاً: مصدرهم في تلقي أمور الغيب ليس هو الإيمان بالغيب عن طريق الوحي، ولكن عن طريق العقل، ومن هنا ضلوا وتفرقوا واختلفوا؛ لأن جعل العقل هو المعيار أمر غير منضبط، فعند اختلاف طرفين، وكلاهما يدعي صواب عقله، فإلى أي عقل نحتكم؟! وأي عقل نصدق؟! إذ ليس هناك عقل نموذجي، وليس هناك معيار ثابت نقيس به الأمور، والله سبحانه وتعالى إنما أنزل الوحي ليحكم بين الناس فيما اختلفت فيه عقولهم وآراؤهم.
  1. جعل العقل هو المعيار إلغاء لحكمة إنزال الوحي

    وقد قلنا ونعيد القول: لو أن الله سبحانه وتعالى جعل المعيار -كما يقولون- هو العقل، فإن الناس حينئذ يستطيعون أن يصلوا إلى العقيدة الصحيحة والعلم اليقيني بعقولهم وآرائهم، ولكان إنزال الوحي نقمةً وابتلاءً، ولم يكن خيراً ولا مصلحةً ولا رحمة، وإذا كنا نستطيع أن نصل إلى الحق عن طريق العقول والآراء والأفكار والمناهج الوضعية والمذاهب البشرية، وكلام الفلاسفة، وآراء علماء الاجتماع وعلماء النفس وعلماء التربية.. فما فائدة الوحي قرآناً أو سنةً ونحن نستطيع أن نعرف الحق بغيرهما؟! وما الفائدة من إنزال القرآن ونحن نجد أن ما في هذا القرآن يعارض ما يقوله الناس وما يقرونه بعقولهم؟! فاشتغال الناس بتأويل القرآن ليوافق ما لديهم من الحق الذي عرفوه إنما هو ضياع وقت، وإن اشتغلوا بإبطال ما جاء به هذا الوحي، فهي أيضاً مشغلة ونقمة وابتلاء، ومعنى هذا: أن الوحي ليس له قيمة ولا فائدة، وهذا عكس ما تجمع عليه جميع الفطر السليمة والعقول القويمة من أن الوحي نور وهداية، ولهذا وصف الله القرآن بأنه: نور، وشفاء، وروح، ووصفه بالهداية والصراط المستقيم، كما فسره السلف.
    ولو بحثنا عن نظرية تربوية لنربي أبناءنا عليها، فسنجد نظريات كثيرة لا يستطيع أحد حصرها، وكل منها تكذب الأخرى وتبطلها! فأيها الخطأ؟! وأيها الصواب؟! وقد قرأت قبل سنوات أنه يوجد في أمريكا أكثر من عشرين مدرسة في علم النفس، وكل مدرسة لها رجالها، وهؤلاء الرجال يختلفون أيضاً في آرائهم وأطروحاتهم، وهذا غير ما في أوروبا، وهو غير ما في الهند، وغير ما في الصين واليابان.. وهكذا.
    إذاً: لو تركنا الكتاب والسنة، وأخذنا بنظرية تربوية من نظريات علم النفس وعلم التربية -من هذه النظريات المتباينة- نربي أبناءنا وأجيالنا عليها؛ فلن نستطيع أن نأخذ بواحدة منها، وإن أخذنا بواحدة، فإننا سوف نتعرض لنقد كل المدارس الباقية في العالم، وكلهم سيقولون: أنتم على خطأ، لكن لو عدنا إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطبقنا ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلن نجد -ولله الحمد- أي اختلاف أو خلل، والكلام هنا في المبدأ، أما في فهم بعض النصوص وتنزيلها على مواضعها، فهذا شيء آخر، لكن من حيث المبدأ؛ هناك أمر واحد ومنهج واحد.
    وهؤلاء إذا رأونا ندعو الناس إلى منهج أهل السنة والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فسيقولون: نحن في القرن العشرين، وفي عصر النظريات الحديثة في علم السياسة والاقتصاد والاجتماع، وفي علم التربية وعلم النفس، وأنتم تريدون أن نرجع إلى ما قبل أربعة عشر قرناً!
    فمهما تعددت الصور، فالجوهر واحد، والحقيقة واحدة، وهي أنهم يريدون أن يبطلوا هذا الوحي بعقولهم.
    ولنتأمل.. لما أنزل الله سورة البقرة -وهي أول سورة نزلت بـالمدينة في العصر الجديد للإسلام- ذكر فيها صفات المؤمنين والكافرين والمنافقين، وهي فئات الناس الثلاث، فكان أول وصف للمؤمنين هو الإيمان بالغيب، قال تعالى: (( الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ))[البقرة:1-2] ما هي صفتهم؟ ((الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ))[البقرة:3]، فالله سبحانه وتعالى غيب، وصفاته غيب، والملائكة غيب، والأنبياء السابقون الذين أخبرنا الله تعالى عنهم غيب، والقدر غيب، والكتب السابقة غيب، ومع ذلك يجب على المؤمنين أن يؤمنوا بذلك كله، ولأهمية هذا الموضوع في عقيدة المؤمن -وهو الإيمان بالغيب- جعل ذلك أول وصف للمؤمنين، فمن لم يؤمن بالغيب فليس بمؤمن أصلاً، وليس الإيمان بما يشاهد ويرى فقط، فإن هذا يشترك فيه جميع الناس مؤمنهم وكافرهم.
    فإن نظرة الكافر قاصرة في هذه الحياة الدنيا، كنظرة الحيوان الذي كل همه قوت يومه، ولا يفكر في مستقبله ولا فيما بعد هذه الحياة.
  2. الإسلام قد يأتي بمحارات العقول ولكنه لا يأتي بمحالات العقول

    وهناك قاعدة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه العظيم درء تعارض العقل والنقل، ويجدر بنا أن نذكرها، يقول رحمه الله: "إن الإسلام يأتي بمحارات العقول، ولكنه لا يأتي بمحالات العقول".
    ففي ديننا أمور يحار العقل فيها؛ لأن العقل قاصر عن أن يطلع وأن يحيط بعلم الغيب، فيحار في أمر هذا الغيب.. يقرأ الأحاديث الصحيحة في عذاب القبر ونعيمه، فيحار.. كيف أن هذا الإنسان يوضع في القبر وهو جثة هامدة، ثم يأتي الملكان فيقعدانه ويسألانه؟! وهذا أمر يحار فيه العقل.. وأن القلم كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق الله السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وهذا مما يحار العقل فيه.
    والحيرة نسبية على كل حال، لكن ليس في ديننا على الإطلاق ما يحيله العقل؛ أي ما يحكم العقل بأنه محال وبأنه مستحيل؛ لأن الله سبحانه وتعالى لما ركب هذه العقول ركبها وفق الهدى والحق الذي هو الوحي، ولو أن هذه العقول تجردت من الهوى ومن الشبهات الباطلة ومن التعصب ومن اتباع الآباء والأجداد، وتفكرت حق التفكر؛ لعلم أصحابها أن الأنبياء حق، وأن الله حق، وأن اليوم الآخر حق، قال تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا))[سبأ:46]، وكل الأنبياء قد كذبوا؛ بسبب اتباع أقوامهم للهوى، وفرحهم بما عندهم من العلم، واستكبارهم في الأرض، واتباعهم للآباء والأجداد، ولو أنهم فكروا ونظروا بتجرد؛ لوجدوا أن ما جاء به الأنبياء لا يمكن أن يكون كذباً، وكل نبي دعا قومه إلى أن يتفكروا ويتأملوا بتجرد وموضوعية في حاله وفيما دعاهم إليه؛ ليعلموا بعد ذلك أنه حق لا مرية فيه ولا ريب ولا شك.
    لكن انظر إلى الأديان الأخرى، فإن النصارى يقولون: (باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد)، فيفكر الإنسان: كيف يكون الأب والابن وروح القدس إله واحد؟! ولا شك أن هذا مما تحيله العقول، ولا يمكن أن يصدق إنسان أن يكون الثلاثة واحداً، فإن كان الإله واحداً فهو الله كما أخبر سبحانه وتعالى بأنه ليس له صاحبة ولا ولد: ((مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا))[الجن:3]، وإن كانوا ثلاثة فليسوا واحداً، إذاً: كلامهم في الله محال أن يصدقه العقل.
    وكذلك اليهود الذين يزعمون أنهم شعب الله المختار، وبقية الأمم كالبهائم من المستحيل أن يكون رب السموات والأرض سبحانه وتعالى عنصرياً عرقياً يجعل دينه وكتابه ووحيه لأقل وأضأل فئة من بني الإنسان، فمستحيل أن يكون دينهم هذا ديناً حقاً، وأن يكون الرب سبحانه وتعالى الذي أتقن كل شيء صنعاً وأحكم هذه المخلوقات جميعاً؛ يؤثر على الجنس الإنساني الذي هو أكرم المخلوقات وأشرفها وأفضلها طبقة ضئيلة فيجعلهم شعب الله المختار، وآلاف الملايين أمميون كالبهائم، ويكفي لبطلان دين اليهود أن غير اليهودي لا يستطيع أن يكون يهودياً؛ لأن المفروض على من خلق حيواناً أن يبقى حيواناً، والمفروض على من خلق من الشعب المختار -كما يزعمون- أن يكون من الشعب المختار.
    إذاً: هذا الأمر لا يقبله عقل ولا تقبله فطرة، وهو يتنافى مع حكمة الله ومع صفاته سبحانه وتعالى، فليس هو دين الله الذي أنزله الله سبحانه وتعالى.
    وانظر إلى دين الهنود الذين يعبدون البقرة من دون الله سبحانه وتعالى، ويصفون ربهم وإلههم بأوصاف لا تليق بالله سبحانه وتعالى، بل لا تليق بمخلوق من المخلوقات له صفات كريمة.
    وانظر إلى الصين : ألف مليون يدينون بـالكنفوشيوسية والبوذية، فـبوذا يقول: لا تتحدثوا عن الإله ولا تتكلموا عنه؛ لأن الذي فَرَّقَ الناس هو الكلام عن الإله، فهو لم يدعهم إلى إله، فكانت النتيجة أنهم عبدوا بوذا -فـالبوذيون، الآن يعبدون بوذا نفسه، وهو الذي نهاهم عن عبادة الله وعن الكلام في الله، فعبدوه هو وجعلوه إلهاً، ونجدهم يحملون تماثيله حتى في الطائرات وفي كل مكان، هذا هو دينهم، فهل يمكن أن يصدق أحد أن هذا الرجل الذي لا نعلم عنه وعن حياته شيئاً هو الإله وأنه رب العالمين؟! فهذه الخرافات والعقائد يستحيل على العقل تصديقها.
    أما أمور الغيب الثابتة بنصوص الكتاب والسنة الصحيحة، فقد تحار فيها العقول، ولكن لا تحيلها؛ لأنه دين الله سبحانه وتعالى الذي أنزله رحمة للعالمين، وهدىً وموعظـةً وبشرى للمؤمنين، أحيا به الله سبحانه وتعالى أمماً عظيمة؛ كانت في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، فخرجت من الأمية والبداوة والجفاء لتعلم الناس الحكمة، ولو قارنا ما قاله الصحابة أو أحد التابعين بكلام أحكم حكيم عند الهنود أو اليونان أو الرومان؛ لوجدنا كلام هذا الصحابي أو التابعي يفوقه بدرجات، فكيف بالوحي نفسه؟!
    فمن الذي فجر هذه الحكم على ألسنة هؤلاء بعد أن كانوا في جهالة وضلالة؟!
    لم يصدق كسرى -وكذلك قيصر- أن هؤلاء العرب يكتبون إليه أن ادخل في ديننا، وإلا قاتلناك..!
    لقد كان الروم والفرس هم أصحاب الحضارة في ذلك الوقت.. كان اليونان والرومان يحفظون الإلياذة والأوديسية، وهي من آلاف الأبيات من أشعار الحكمة والفروسية، ويفتخرون بها، ويأتي أولئك الأعراب -بعد أن هداهم الله إلى الإسلام- وإذا بأحدهم يقول الكلمة فيعجز فصحاء العالم وبلغاؤه أن يأتوا بمثلها.
    فمن أين تفجرت هذه الحكمة؟!
    لقد تفجرت ينابيع الحكمة من قلوب هؤلاء الأميين؛ لأنهم تعلموا الحكمة من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوتي جوامع الكلم، وأوتي أفضل منها، وهو كلام الله سبحانه وتعالى.. هذا الوحي الذي سوف يظل هدىً ونوراً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
    إذاً: يجب أن نعلم أننا عندما نتحدث عن أمور الغيبيات والإيمانيات: الوحي، واللوح، والقلم، والعرش، والكرسي، والصراط، والميزان، وما أشبه ذلك، ونقررها ونؤمن بها؛ فإن ذلك جزء من هذه العقيدة الربانية العظيمة التي يجب علينا جميعاً أن نحمد الله سبحانه وتعالى وأن نشكره عليها؛ لأنه هو الذي أنقذنا بهذه العقيدة وبهذا الدين من الجاهليات والضلالات التي كان يعتقدها الناس قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وما يزالون إلى اليوم في ظلماتها تائهين حائرين.
    وقد تقدمت بعض مباحث الغيبيات مثل الحوض، والرؤية، والميثاق الذي أخذه الله على بني آدم، والإسراء والمعراج، وبقي ذكر اللوح والقلم، والعرش، والصراط، والميزان، وعذاب القبر ونعيمه، وهذه مما سيأتي إن شاء الله سبحانه وتعالى.