وقد قلنا ونعيد القول: لو أن الله سبحانه وتعالى جعل المعيار -كما يقولون- هو العقل، فإن الناس حينئذ يستطيعون أن يصلوا إلى العقيدة الصحيحة والعلم اليقيني بعقولهم وآرائهم، ولكان إنزال الوحي نقمةً وابتلاءً، ولم يكن خيراً ولا مصلحةً ولا رحمة، وإذا كنا نستطيع أن نصل إلى الحق عن طريق العقول والآراء والأفكار والمناهج الوضعية والمذاهب البشرية، وكلام
الفلاسفة، وآراء علماء الاجتماع وعلماء النفس وعلماء التربية.. فما فائدة الوحي قرآناً أو سنةً ونحن نستطيع أن نعرف الحق بغيرهما؟! وما الفائدة من إنزال القرآن ونحن نجد أن ما في هذا القرآن يعارض ما يقوله الناس وما يقرونه بعقولهم؟! فاشتغال الناس بتأويل القرآن ليوافق ما لديهم من الحق الذي عرفوه إنما هو ضياع وقت، وإن اشتغلوا بإبطال ما جاء به هذا الوحي، فهي أيضاً مشغلة ونقمة وابتلاء، ومعنى هذا: أن الوحي ليس له قيمة ولا فائدة، وهذا عكس ما تجمع عليه جميع الفطر السليمة والعقول القويمة من أن الوحي نور وهداية، ولهذا وصف الله القرآن بأنه: نور، وشفاء، وروح، ووصفه بالهداية والصراط المستقيم، كما فسره
السلف.
ولو بحثنا عن نظرية تربوية لنربي أبناءنا عليها، فسنجد نظريات كثيرة لا يستطيع أحد حصرها، وكل منها تكذب الأخرى وتبطلها! فأيها الخطأ؟! وأيها الصواب؟! وقد قرأت قبل سنوات أنه يوجد في
أمريكا أكثر من عشرين مدرسة في علم النفس، وكل مدرسة لها رجالها، وهؤلاء الرجال يختلفون أيضاً في آرائهم وأطروحاتهم، وهذا غير ما في
أوروبا، وهو غير ما في
الهند، وغير ما في
الصين و
اليابان.. وهكذا.
إذاً: لو تركنا الكتاب والسنة، وأخذنا بنظرية تربوية من نظريات علم النفس وعلم التربية -من هذه النظريات المتباينة- نربي أبناءنا وأجيالنا عليها؛ فلن نستطيع أن نأخذ بواحدة منها، وإن أخذنا بواحدة، فإننا سوف نتعرض لنقد كل المدارس الباقية في العالم، وكلهم سيقولون: أنتم على خطأ، لكن لو عدنا إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطبقنا ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فلن نجد -ولله الحمد- أي اختلاف أو خلل، والكلام هنا في المبدأ، أما في فهم بعض النصوص وتنزيلها على مواضعها، فهذا شيء آخر، لكن من حيث المبدأ؛ هناك أمر واحد ومنهج واحد.
وهؤلاء إذا رأونا ندعو الناس إلى منهج
أهل السنة والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فسيقولون: نحن في القرن العشرين، وفي عصر النظريات الحديثة في علم السياسة والاقتصاد والاجتماع، وفي علم التربية وعلم النفس، وأنتم تريدون أن نرجع إلى ما قبل أربعة عشر قرناً!
فمهما تعددت الصور، فالجوهر واحد، والحقيقة واحدة، وهي أنهم يريدون أن يبطلوا هذا الوحي بعقولهم.
ولنتأمل.. لما أنزل الله سورة البقرة -وهي أول سورة نزلت بـالمدينة في العصر الجديد للإسلام- ذكر فيها صفات المؤمنين والكافرين والمنافقين، وهي فئات الناس الثلاث، فكان أول وصف للمؤمنين هو الإيمان بالغيب، قال تعالى: (( الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ))[البقرة:1-2] ما هي صفتهم؟ ((الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ))[البقرة:3]، فالله سبحانه وتعالى غيب، وصفاته غيب، والملائكة غيب، والأنبياء السابقون الذين أخبرنا الله تعالى عنهم غيب، والقدر غيب، والكتب السابقة غيب، ومع ذلك يجب على المؤمنين أن يؤمنوا بذلك كله، ولأهمية هذا الموضوع في عقيدة المؤمن -وهو الإيمان بالغيب- جعل ذلك أول وصف للمؤمنين، فمن لم يؤمن بالغيب فليس بمؤمن أصلاً، وليس الإيمان بما يشاهد ويرى فقط، فإن هذا يشترك فيه جميع الناس مؤمنهم وكافرهم.
فإن نظرة الكافر قاصرة في هذه الحياة الدنيا، كنظرة الحيوان الذي كل همه قوت يومه، ولا يفكر في مستقبله ولا فيما بعد هذه الحياة.