أقول: قوله: { وأن محمداً عبده ورسوله } في هذا الحديث جمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, بين وصفين هما أشرف وأعظم الأوصاف، وهما العبودية والرسالة.
فما المقصود بالعبودية وعباد الله كثير؟
كلنا عباد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فأنا عبد الله, وهذا عبد الله ونوح عبد الله وإبراهيم عبد الله، فلماذا نقول ونشهد: أن محمداً عبده ورسوله؟ ألسنا كلنا عباد الله، بل جميع الناس حتى الكفار عباد الله، لكنهم عباده بالقهر وإن لم يعبدوه بالرضا والاختيار، فليس هو المتفرد وحده بالعبودية لله؟!
والجواب: أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد استكمل العبودية.
أي: العبد الكامل في العبودية, الذي لم يبلغ أحد من الناس درجته ومنزلته في كمال العبودية، ولهذا في أعظم تكريم وأعظم موقف من مواقف التكريم, التي لم يعطها بشرٌ على الإطلاق, ولم تقع لأحد, وهي الإسراء والمعراج لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يصفه الله تبارك وتعالى بقوله: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)) [الإسراء:1] فاختياره سبحانه لهذه الكلمة في هذا المقام العظيم, يدل على أن لها معنى, وهو العبودية الكاملة.
أي: العبد الذي استخلصه واصطفاه واختاره، وخيرته من خلقه أجمعين، محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الذي ستكمل مراتب العبودية.
وكذلك في يوم القيامة: عبد واحد فقط من عباد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حينما يحشر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الأولين والآخرين, ويجمعهم على صعيد واحد, وتكون الشمس منهم على قدر ميل, ويشتد الكرب, ويعظم البلاء والهول, ويريد الناس من يشفع إلى الله تبارك وتعالى ليفض هذا الموقف, وليفصل بين الناس في هذا الموقف، حين يغضب الجبار تبارك وتعالى غضباً لم يغضب قبله مثله, ولا يغضب بعده مثله، فيكون هذا العبد هو صاحب الوسيلة, والدرجة الرفيعة، وهذا العبد هو الذي يسجد لله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيقال له: {ارفع رأسك, وسل تعط, واشفع تشفع} وهذا هو محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عبده الذي حقق العبودية الكاملة لله تبارك وتعالى جهاداً في سبيل الله, ودعوة إلى الله, وصبراً على الأذى الذي لقيه من أجل الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وعبادة لربه, فقام الليل حتى تفطرت قدماه، أعرف الناس بالله تبارك وتعالى, وأخشاهم لله, وأطوعهم لله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا عبد الله.
أما: ورسوله، فالرسل كثير، أليس نوح وإبراهيم وموسى رسل الله عليهم السلام؟ بلى. ولكن رسوله الذي هو أعظم وأفضل رسل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ((تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)) [البقرة:253] والله فضّل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الرسل بفضائل كثيرة, ومن أوضحها وأجلاها: أنه خاتم النبيين والمرسلين صلوات لله وسلامه عليه, وأن رسالته عامة للثقلين: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ))[الأنبياء:107] ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً)) [سبأ:28] أما من قبله فكان النبي منهم يبعث إلى قومه خاصة.
فعندما نقول محمد عبد الله ورسوله, نكون قد مدحناه, وأثنينا عليه صلوات الله وسلامه عليه, بأفضل وأعظم وصفين له.
فهو العبد الكامل العبودية الذي بلغ الكمال والغاية فيها، وهو كذلك أكمل الرسل في الرسالة حيث بعثه الله سبحانه للناس كافة، وجعل شريعته ناسخة لما قبله ومهيمنة عليه، ولو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباع محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وعيسى عليه السلام وهو رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ومن أولي العزم, إذا نزل في آخر الزمان فإنه لا يحكم إلا بشريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إذاً هذه هي ميزة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على العبيد كافة, وعلى الرسل كافة أنه بلغ الغاية في هاتين الصفتين، فهو خير عباد الله، وخير رسل الله, وهو المستحق لأن يقال: عبد الله ورسوله، وخير ما يمدح ويثنى عليه صلوات الله وسلامه عليه أن يقال: عبد الله ورسوله.
وهذا الذي جهله كثير من الناس, فجهلوا حقيقة هذا الكمال, وكما سيذكر الشيخ الشارح، في بيان أن هذين الوصفين لهما هدف, وغاية, وحكمة أن يكون الوصف بالعبودية وبالرسالة.