المادة    
يقول: [وقوله: (وهي درجة الراسخين في العلم) أي: علم ما جاء به الرسول جملة وتفصيلاً، نفياً وإثباتاً] -وينبغي أن نقول: (صلى الله عليه وسلم)؛ حتى وإن لم يكتبها الشارح؛ لأنه قد يلفظها ولا يكتبها، فنصلي ونسلم عليه صلى الله عليه وسلم- ودرجة الراسخين في العلم هي الإيمان بهذه العقائد: ما تقدم منها، وما سيأتي إن شاء الله.
إذاً: الرسوخ في العلم ليس هو التعمق والتكلف، وهذه هي مناسبة إيراد الشيخ رحمه الله لهذه العبارة، حتى لا يتجرأ أحد ويقول: أريد أن أتعمق في مباحث القدر والصفات، ثم يأتي بما لم يأت به أحد من العلماء من أئمة السلف في هذا الباب، وهو يدعي أنه يريد أن يرسخ في العلم، فدرجة الراسخين في العلم هي الإيمان بهذه العقائد، والاستسلام لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي، وليس بعد ذلك من درجة إلا منزلة المتعمقين أو المتكلفين أو المتنطعين، فالراسخون في العلم هم الذين علموا، وفقههم الله تبارك وتعالى في الدين، فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم جملةً وتفصيلاً، نفياً وإثباتاً، ولا يدخل في ذلك علماء الكلام، فقد سبق أن ذكرنا أن علماء الكلام هم أكثر الناس شكاً ووسوسة -والعياذ بالله- فليسوا من الراسخين في العلم، ولا يدخل في ذلك أيضاً -من باب أولى- الجاهلون الذين يقولون على الله تعالى أو في صفاته أو في دينه بغير علم.
  1. أقسام العلم من حيث الوجود والفقدان

    يقول الماتن: [لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود]، يقول المصنف رحمه الله: [يعني بالعلم المفقود: علم القدر الذي طواه الله عز وجل عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، ويعني بالعلم الموجود: علم الشريعة أصولها وفروعها].
    هذا هو العلم الذي يرسخ فيه العلماء، وهو العلم الموجود، وقد بلغه النبي صلى الله عليه وسلم بلاغاً كافياً كاملاً، ولم يخن صلى الله عليه وسلم الرسالة، وحاشاه من ذلك! وكذلك بلغه عنه أصحابه الكرام، ولم يخونوا الرسالة والأمانة من بعده صلى الله عليه وسلم، بل نقلوا ما بلغهم إياه كاملاً غير منقوص.
    إذاً: هذا هو العلم الموجود الذي علمنا الله تبارك وتعالى إياه، وهو سبحانه وتعالى العليم الخبير بما ينبغي لنا أن نعلمه، وبما نستطيع أن نفهمه، فأطلعنا عليه، وطوى عنَّا علماً آخر استأثر به سبحانه وتعالى، وهو العلم المفقود، وهو ما استأثر الله به من علم الغيب، ومنه ما يتعلق بمسألة القدر، فإن الله لم يطلعنا عليها، قال عز وجل: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ))[آل عمران:179].وقال: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ))[الجن:26-27]، وهذا استثناء سيأتي إيضاحه إن شاء الله، والأصل أن ذلك العلم محجوب عن البشر.
    فيجب على الناس حيال العلم الموجود أن يؤمنوا به ويتعلموه ويتفقهوا فيه ويعملوا به، وأما العلم المفقود فيجب الإيمان به والتسليم له، ولن يستطيع البشر غير ذلك، فلا يتكلفوا في معرفته؛ كما فعل بعض أهل الكلام وأهل التصوف حين تكلفوا في معرفته؛ فضاعوا وتاهوا، ولا أن يكفروا به كما فعل الفلاسفة وكثير من أهل الكلام؛ حين كفروا بما لم يحيطوا بعلمه؛ قال تعالى:((بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ))[يونس:39]، وهذا حال الذين لا يؤمنون بالغيب، يكذبون بما جاء عن الله ورسوله لهذين السببين:
    إما لأنهم لم يحيطوا بعلمه، وقالوا: كيف يقدر الله هذا الشيء، ثم يجازينا عليه؟! لا نستطيع فهم ذلك؛ فيكفرون به. وهذا تكذيب بما لم يحيطوا بعلمه، وليس عدم الإحاطة بالعلم دليلاً أو مبرراً بتكذيب الله ورسوله.
    السبب الآخر وهو: ((وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ))[يونس:39] يقولون: كيف نؤمن بعذاب القبر ونحن لم نره؟ وإذا رأوه وآمنوا به لم يعد هذا من الإيمان بالغيب؛ لأنه أصبح مشهوداً، ولهذا لا تقبل توبة الكافر -أو التائب عموماً- إذا رأى الملائكة وقد جاءت لقبض روحه؛ لأنه رأى عياناً ما كان مطلوباً منه الإيمان غيباً.
    ولذلك كان صحابة النبي صلى الله عليه وسلم يعلمون الناس ويفقهونهم في العلم الموجود، وإذا سئلوا عن العلم المفقود الغيبي كانوا يقولون: الله أعلم! ويستشهدون بقوله تعالى: (( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ))[الأنبياء:23]، وقد سبق أن ذكرنا أحاديث تدل على هذا المعنى في باب القدر، ومنها حديث عمران بن حصين .
  2. أقسام العلم عند الباطنية

    وهنا نقف وقفة أخرى حول مسألة تقسيم العلم إلى علم مفقود وعلم موجود، فهناك قسمة أخرى للعلم عند الباطنية، وهي: علم الباطن وعلم الظاهر، أو علم الحقيقة وعلم الشريعة، وهذا شاهد لمخالفة هذه السنة التي ذكرها الشيخ رحمه الله.
    قالت الباطنية : العلم الشرعي علم الشريعة، وكله من العلم الظاهر، وهو إنما أُنزل للعوام، وهناك علم الباطن، قالوا: وليس هو علم الغيب، وإنما هو علم للخاصة الذين يتلقونه عن أئمتهم -زعموا- المستورين المعصومين فإنهم يجعلونهم الطريق الوحيد لمعرفة ذلك العلم الباطن، ويزعمون أن لكل آية من القرآن معنىً ظاهراً وآخر باطناً، والباطن له باطن، والتأويل له تأويل، حتى قال بعضهم: إلى سبعمائة باطن!! إذاً كيف سيعرف الحق؟!!
    وهذه وسيلة اتخذوها لهدم هذا الدين، وذلك أن العربي -أو من تعلم العربية- يفهم الآيات على ظاهرها، كقول الله سبحانه وتعالى: ((وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ))[البقرة:163]، فيفهم من ظاهر الآية أن الله واحد، وهو -أيضاً- باطنها وحقيقتها، وكذا قوله تعالى: : ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ))[البقرة:43]، تدل الآية على أن الصلاة المعهودة المعروفة يجب إقامتها، والزكاة المعلومة المعهودة يجب أن تؤتى؛ فيبطلون ظاهرها ويدعون لها ولأمثالها من الأوامر والنواهي الشرعية باطناً وفق أهوائهم؛ ليهدموا الدين بذلك؛ وذلك لأنهم لو قالوا للناس: اكفروا بهذا القرآن، فلن يصدقهم أحد، بل سيقاتلهم الناس، فجاءوا بحيلة وقالوا لهم: آمنوا الإيمان الحقيقي الصحيح.. وما هو الإيمان الصحيح؟ قالوا: هو الإيمان المأخوذ عن الأئمة، وهو العلم الباطن والحقيقي، فلا تأخذوا الآيات على ظاهرها كالعوام الذين يفهمون من قوله تعالى: ((وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ))[البقرة:43]، أن يصلوا ويزكوا، لكن خذوا الفهم الحقيقي الذي هو فهم الخواص. ثم بعدد ذلك كل طائفة تفسره بحسب ما تريد..
    والباطنية بجميع فرقها وتشعبها هي من الطوائف الخارجة من الملة وعن فرق هذه الأمة جميعاً، وهي التي فسرت الدين -من أجل طمس الإسلام وإبعاد الناس عن حقيقة الكتاب والسنة- بهذه الوسيلة الخبيثة، وهي قولهم: إن الدين له ظاهر وله باطن، والباطن يتلقى عن الأئمة المستورين.
    وبعض الفرق الضالة أخذت ذلك عنهم وانتهجت منهجهم؛ فـالرافضة يوافقونهم بأن الأئمة المستورين يعلمون الغيب، ويعلمون ما كان وما سيكون، وأنهم مطلعون على العلم الباطن؛ هذا وإن لم يتعمقوا مثلهم في تأويل الأحكام العملية؛ فـالرافضة لا يوافقون الباطنية في تأويلها؛ كالصلاة والزكاة والحج والعمرة والوضوء؛ فعند الرافضة أنها هي نفس الأعمال الظاهرة المعروفة عند المسلمين، لكنها بهيئة أخرى في مذهبهم.
    أما الباطنية فلا يرون ذلك؛ فـالنصيرية والإسماعيلية وسائر فرق الباطنية لا يرون أن الصلاة هي هذه الصلاة، ولا الوضوء هو هذا الوضوء، ولا الزكاة هي هذه الزكاة ... إلخ، لكن توافقهم الرافضة في أن الإمام يعلم الغيب، كما في الكافي وغيره، وأن الأئمة -وحدهم- يفسرون القرآن ويعلمون بواطنه.
  3. أقسام العلم عند الصوفية

    والصوفية أيضاً أخذوا بحظٍ من ذلك، فنجد أن الغزالي مثلاً -وهو يعتبر من المعتدلين في التصوف قبل أن يتوب منه -يقول: إن الباطن حقيقة، وإن الإنسان يتلقى هذا الباطن كما يتلقى النبي، وشَبَّه ذلك بانعكاس الضوء من المرآة إلى الجسم أو إلى المرآة الأخرى، وأن علياً رضي الله عنه كان يعلم هذا العلم الباطن ... إلى غير ذلك، فنجد أن التصوف عموماً وصل إلى هذا الحد؛ حتى إنه في كثير من الأحيان لا يستطاع أن يصنف بعضهم: هل هو من غلاة الباطنية أو من غلاة الصوفية ؟ فيختلط الأمر؛ لأنه يتحد في دعوى معرفة هذا العلم، لكن الصوفية يأتون بشيء آخر وبمسميات أخرى، يقولون: علم الرسوم -أو علم الظاهر- مقابل علم الباطن، أو علم الشريعة مقابل علم الحقيقة، كما يقول أحدهم: عن شيخي فلان عن شيخي فلان عن شيخه فلان، إلى علي، أو إلى أبي بكر، أو إلى محمد صلى الله عليه وسلم، عن جبريل، عن الله تعالى، فهو يرى أن علم الخِرَق -والتي لا يعطاها إلا من بلغ درجة عليا في الإيمان- أعظم من علم الورق، وكما يقول قائلهم: تأخذون علمكم من ميت عن ميت، تقولون: فلان عن فلان عن فلان، أما نحن فنأخذ علمنا عن الحي الذي لا يموت، فيقول: حدثني قلبي عن ربي!!
    إذاً: هذا هو علم الحقيقة -عندهم- أما علم الشريعة فهو لدى عامة الناس، ويسمونه علم الرسوم، فضلوا بذلك في معرفة حقيقة العلمين اللذين أشار إليهما الشيخ رحمه الله بقوله: "العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود"، فجعلوا هذه القسمة بهذا الشكل: علم الشريعة وعلم الحقيقة.
  4. دليل الصوفية على أقسام العلم عندهم

    ويستشهد الصوفية بقصة موسى مع الخضر عليهما السلام، يقولون: إن فيها دلالة على أن الولي أفضل من النبي، حيث إن موسى عليه السلام - وهو نبي - تعلم من الخضر -وهو ولي-.
    ولا يخفى ما في هذا الاحتجاج بهذه القصة من الباطل مما قد كشف زيفه وبطلانه علماء الإسلام، وكل ذي بصيرة يعلم أمرين اثنين:
    الأمر الأول: أن الخضر وموسى عليهما السلام نبيان، والنبي يتعلم من النبي، وخاصة أن الذي أمره بالذهاب إليه هو الله سبحانه وتعالى، ودلَّه على موضعه، وهيأه ليقابله، ولا يعني هذا أن الخضر أفضل من موسى بإطلاق؛ لأن الإنسان قد يتلقى العلم عن إنسان وهو أفضل منه، بدلالة نص الحديث الصحيح الذي ورد في قصة موسى والخضر، قال موسى للخضر: {أنت على علم علمك الله إياه ليس عندي، وأنا على علم علمني الله إياه ليس عندك}، فكل منهما على جانب من العلم لم يعلمه اللهُ الآخر.
    إذاً: هذا نبي وهذا نبي، لكن هذا لديه علم لم يؤته الله الآخر، ومن المعلوم أن موسى عليه السلام لم يبعث إلى الناس كافة، وإنما بعث إلى قومه فقط، أما محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله أرسله للناس كافة بشيراً ونذيراً، ورحمة للعالمين؛ للثقلين جميعاً، أما من قبله -ومنهم موسى عليه السلام- فإنما كان يبعث إلى قومه خاصة، وهذه هي إحدى خصائص النبي صلى الله عليه وسلم الخمس -أو الست- التي وردت في الأحاديث الصحيحة، وقد سبق أن شرحنا الأحاديث الواردة في ذلك في مبحث النبوة.
    إذاً: ليس هناك نبي تلقى عن ولي، إنما نبي سأل نبياً أو تلقى وأخذ منه.
    الأمر الثاني -وهو الأهم-: أن ما عمله الخضر عليه السلام وبيّنه له فيما بعد -مما لم يستطع عليه موسى عليه السلام صبراً- ليس مخالفاً للشريعة حتى نقول: إن هذا هو علم الحقيقة، وذاك علم الشريعة؛ فعلم الشريعة ما هو إلا ما يوحي به الله ويأمر به، فالشرع هو الأمر والنهي، ونحن والصوفية متفقون على ذلك، فإذا كان الخضر يقول: ((وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي))[الكهف:82]، إذاً هو نبي؛ لأنه فعل ذلك بأمر ووحي من الله، وهذا دليل على النبوة، وكذلك الخضر عمل بمقتضى الشريعة، والشريعة هي الأمر والنهي، ولو أخذنا القضايا الثلاث قضية قضية لعلمنا أنها كلها من الشريعة:
    القضية الأولى: موسى عليه السلام أنكر خرق السفينة بناءً على الشريعة، حيث إن القاعدة الشرعية التي تمنع مثل ذلك هي: من أحسن إليك فأحسن إليه، والأصل فيك أن تحسن إلى كل مسلم، لكن من أحسن إليك صار واجباً ولازماً عليك أن تحسن إليه؛ فهؤلاء أصحاب السفينة أحسنوا إلى الخضر وموسى وغلامه، فليس جزاء ذلك الإحسان خرق السفينة، وموسى عليه السلام ثار -ونسي العهد- من أجل إقامة الشريعة؛ بناء على أنه ليس من الشرع أن يجازى المحسن بالإساءة، وعندما بين له الخضر عليه السلام لم يقل: لقد كنتُ خارجاً عن حكم الشريعة في هذا لأنني وليٌّ، إنما قال: فعلي ذلك إنما هو مما أوحى به الله إليَّ وأمرني به، فهو -إذاً- (حكم شرعي)، وقال الله تعالى عنه:((أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا))[الكهف:79]، فالخضر عنده علم أن وراءهم ملكاً (يأخذ كل سفينة صالحة غصباً) -كما ورد في قراءة مفسرة- ويجند فيها الجند لمحاربة دولة أخرى، ووقت الحرب بالذات لا تفكر الدول في أن هذا ملك للشعب أو لفلان، فكل من يصلح للخدمة العسكريةكما يسمى بـ(المجهود الجربي) أخذوه ولو غصباً- فجاء الجند لأخذ هذه السفينة، فلما ركبوا فيها وجدوها مخروقة فتركوها؛ خوفاً أن تتسبب في غرق الجنود، فكان خرق الخضر للسفينة إحساناً منه إليهم وليس إساءة، مع أن أصحاب السفينة لم يعلموا بما فعله الخضر..، وهذا من الشريعة أيضاً لا مخالفة لها.
    القضية الثانية: قتل الغلام:
    قال تعالى: ((فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ))[الكهف:74]، وفي هذه القضية ثار موسى عليه السلام، وأنكر إنكاراً أشد من إنكاره في المرة الأولى؛ وذلك لأن هذا المنظر لا يستطيع أحد احتمال رؤيته، وهو من أكبر الكبائر؛ فهذا غلام بريء لم يبلغ سن الرشد -كما يظهر من كلمة غلام- يلعب مع الصبيان، ويقتل أمامه بدون ذنب! فلابد أن ينكر هذا المنكر، فقال موسى عليه السلام: ((أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا))[الكهف:74]، لأن المؤمن لا يستطيع أن يصبر على هذا المنظر، فقتل النفس من أكبر الكبائر، ومرة ثانية يعيد له الخطاب: ((قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً))[الكهف:75]، لن تستطيع يا موسى! ليس لأني على الحقيقة وأنت على الشريعة، وإنما لأنك لا تعلم المصلحة التي تترتب على ذلك، وموسى عليه السلام كان سبب إنكاره على الخضر عليه السلام هو المبدأ الشرعي، مبدأ عصمة النفس -حتى ولو كان كافراً، إلا بأسباب شرعية تقتضي أن يقتل- فالظاهر لموسى عليه السلام أنه لا مبرر للقتل، واحتج عليه السلام بهذا الأصل الشرعي: ((أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ))[الكهف:74]، فأجابه الخضر عليه السلام عند ذلك في نهاية الأمر بقوله: ((وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا))[الكهف:80-81]، فقد أوحى الله سبحانه وتعالى إلى الخضر بقتل الغلام لأنه كتب يوم كتب كافراً، ولو عاش وهو كافر وأبواه مؤمنان صالحان لأرهقهما طغياناً وكفراً، وإذا قتل فسوف يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة وأقرب رحماً؛ ففعل ذلك.
    وقد قال في الأخير: ((وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي))[الكهف:82]، إذاً هو معصوم، كأنه يقول: صدقت يا موسى! كلامك صحيح، والقاعدة الشرعية: أن النفس معصومة إلاَّ بأمرٍ شرعي، ولكن عندي -في هذا خاصة- أمر من الله -لا تعلمه- أن أقتل هذا الغلام، إذاً: عصمة دم الغلام انتفت، فصدق موسى واستسلم، وقال: ((إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي))[الكهف:76]، يقول: لقد أخطأت عليك خطأً جسيماً، بأن تهجمت بهذا الشكل مرتين، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {وددت أن موسى عليه السلام صبر حتى يقص الله تعالى علينا من خبرهما}.
    القضية الثالثة: أهل القرية:
    قال تعالى: ((فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا))[الكهف:77]، أي: طلبوا منهم الطعام لأنهم كانوا جائعين وغرباء، وهم ضيوف كرام، ومع ذلك أبوا أن يضيفوهما، وكان قد اشتد الجوع بموسى عليه السلام، فاشتد عنده الغضب من هذه القرية اللئيمة التي لا تؤوي الغريب، ولا تكرم الضيف، ولا تعرف الحق للزائر، فبدلاً من أن يدعوه الخضر لطعام -لكونه تلميذاً له- يدعوه لنباء جدار على ما به من جوع وغضب على أهل القرية اللؤماء؛ قال الله تعالى: ((فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ))[الكهف:77]، أي: ينهدم، فقال الخضر لموسى: تعال لنبني الجدار، وهم في حالة شديدة من الجوع والتعب، فقال موسى عليه السلام بأدب رفيع، من دون اعتراض، وكأنه رأى أنه قد تجاوز الحد في السابقتين، لكن مع ذلك هذا اعتراض: ((قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا* قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ))[الكهف:77-78]، وموسى عليه السلام في هذه الحال اعترض من باب الشريعة، فإن من حق الضيف أن يكرم ويطعم، وإن لم يكن كذلك فمن حقه أن يعمل ويأخذ -على الأقل- الأجرة على ذلك، وهذا عمل شرعي، إذاً: موسى اعترض اعتراضاً من الناحية الشرعية، فرد عليه الخضر عليه السلام بأنه في هذه الحال أيضاً عمله مشروع، ولو كان موسى يعلم ما يعلمه الخضر لوافقه على عمله، ولنسي الجوع والتعب والنصب ولؤم أهل القرية؛ لأن هذا الجدار ملك لغلامين يتيمين، ونحن نحسن إليهما لا نحسن إلى اللؤماء من أهل القرية، ولو كان أبوهما حياً لأكرم الخضر وموسى؛ فقد كان صالحاً، ولو علم أهل القرية بكنز الغلامين اليتيمين لأخذوه، فقد بلغوا من اللؤم أنهم لا يكرمون الضيف، فكيف يحفظون لليتيم حقه؟!
    فكان فعل الخضر واعتراض موسى عليهما السلام موافقاً للشرع، فلا هذا خالف الشريعة ولا ذاك أفتى بغير الشريعة، وكلاهما كان يتكلم عن العلم الذي هو الأمر والنهي والشرع.
    وليس هنالك من فرق بين الشريعة والحقيقة، والتفريق بينهما لا أساس له من الصحة؛ بل الحقيقة في هذه الشريعة التي أرسل الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، وكانت أيضاً شرائع الأنبياء من قبله كذلك.
  5. حكم من أنكر شيئاً مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم

    وأما موقف الناس من هذين العلمين فيقول رحمه الله: [فمن أنكر شيئاً مما جاء به الرسول كان من الكافرين]، أي: أن من أنكر العلم الموجود -وهو الشريعة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى- كان من الكافرين، ومن ادعى العلم المفقود -وهو علم الغيب- كفر أيضاً. هذا هو مراد الشارح رحمه الله هنا، لكن كلمة (من أنكر شيئاً مما جاء به الرسول كان من الكافرين) تحتاج إلى إيضاح، ولابد فيها من التفصيل ولو إشارة.
    فنقول: إن ما ثبت مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القرآن والسنة الصحيحة، وكان معلوماً من الدين بالضرورة، أو مما لا يجهله مثل ذلك المنكر، ولا يخفى عليه فأنكره؛ فإنه يكون كافراً، ومعنى: (لا يجهله مثله) أي: لو أن أعرابياً جاء من البادية ثم أنكر شيئاً من الدين لا يجهل مثله المقيم العالم، فنقول: لا يكفر هذا الأعرابي؛ لأنه لابد أن يكون مما لا يجهله مثله من أهل البادية، أي: ممن يكون مثله يعلم أن ذلك من عند الله، وأنه مما هو معلوم من الدين بالضرورة، كتحريم الشرك والخمر والربا، والإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وبالملائكة.. وما أشبه ذلك مما هو معلوم من الدين بالضرورة.
    أما لو أنكر شخص حديثاً ما؛ فإن هذا فيه تفصيل أيضاً: فإن كان الحديث ذا أسانيد مشهورة أو متواترة -ولا سيما المتواترة- أو كان الحكم المتضمن له مما علم من الدين بالضرورة؛ فهذا يدخل ضمن القاعدة الأولى، وأما إن كان من الأحاديث التي جاءت أسانيدها آحاداً وتخفى على مثل هذا الرجل، فلا يُكَفَّر رأساً، ونقول: لا يُكَفَّر رأساً وابتداءً، ولا نقول: لا يكفر مطلقاً، وإنما يُعلَّم، فإن كان إنكاره لشبهة -مثلاً- أنه لم يصح؛ فقد ذكرنا أن تكفير من رد حكم الكتاب غير تكفير من تأوَّل حكم الكتاب، فحكم هذا غير حكم هذا، فمن تأول تكشف عنه الشبهة ويزال تأويله، فإذا قال: أنا لا أومن بهذا الحديث؛ لعدم صحته؛ لأن في سنده فلاناً، فالواجب هنا ألاَّ نكفره، بل نقول: إن الحديث صحيح، ونبين طرقه، وصحته وكلام الأئمة فيه.. حتى نثبت له أنه صحيح، فإذا بنى رده للحديث على عدم تأكده من ثبوته، أو لقاعدة ما كحال أهل الرأي الذين يقولون: إن الحديث -وإن كان صحيحاً- إذا خالف ظاهر القرآن يُرد، فإذا قال في حديث صحيح: إنما أرده لمخالفته ظاهر القرآن، فهذا ليس كمن ردَّه رد تكذيب وإنكار، وإنما لديه شبهة، ففي هذه الحال لابد -أولاً- أن نزيل الشبهة عنه، ونبين له أن هذه القاعدة خطأ، وإن كان عليها بعض الأئمة، وإن قال بها من قال من فقهاء الإسلام.
    هذا هو التفصيل في مسألة إنكار شيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والشارح هنا إنما قصده إنكار العلم الموجود، ولو أن التعبير كان هكذا لكان أدق وأسلم: (من أنكر العلم الموجود كفر، ومن ادعى علم الغيب كفر)، أو: من أنكر ما جاء به الرسول كفر، لكن لفظة (شيئاً) تحتمل ما هو أقل، وما هو داخل في باب الإنكار لا على سبيل الرد، ولكن على سبيل التأويل والشبهة، كما سبق.
  6. من ادعى علم الغيب أو شيئاً منه فقد كفر

    ثم قال: [ومن ادعى علم الغيب كان من الكافرين، قال تعالى: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا))[الجن:26].]، وفي آخر هذا الشرح تعرض الشارح رحمه الله تعالى لقول الطحاوي رحمه الله: [ولا نصدق كاهناً ولا عرافاً ولا من يدعي شيئاً يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة] بشيء من التفصيل، والذي يهمنا الآن هو قوله: [ومن ادعى علم الغيب كان من الكافرين].
    لقد ذكر الإمام المجدد الداعية الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه أنواع الطواغيت الخمسة -والطواغيت كثر ولكن رءوسهم خمسة- فذكر منهم من ادعى شيئاً من علم الغيب، وهذا ليس كافراً فحسب؛ بل إنه من رءوس الكفر، وهو طاغوت من طواغيت الكفر؛ لأنه طغى في الكفر حتى أصبح سبباً في الكفر وداعياً إليه، ووسيلة له؛ لأن الكاهن عندما يدعي علم الغيب فإنه بذلك قد ادعى الألوهية في الحقيقة؛ لأنه أخذ خصيصة من خصائص الألوهية، فإذا صدقه الناس فقد أشركوا مع الله في تفرده بألوهيته، وهذا هو الكفر الأكبر، فكفر الناس بسبب هذا الكاهن، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: {من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم}، والكهان سبب من أعظم أسباب الكفر في جميع العصور والبلدان، وإن ادعوا أنهم أولياء أو مقربون؛ فالحقيقة واحدة وهي أنهم طواغيت أخرجوا الناس من الإسلام إلى الشرك والكفر.. هذا هو ما جاءت به الأحاديث الصحيحة، وقد بينا أنه سيأتي في أواخر الكتاب مزيد تفصيل في هذه المسألة.
    ثم يذكر الشارح قول الله تبارك وتعالى: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا))[الجن:26] * ((إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا))[الجن:27]، وقوله: ((إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ))[لقمان:34]، وقوله تعالى: ((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ))[الأنعام:59]، فقدم الظرف (وعنده)، وتقديم الظرف دليل على الاختصاص، ثم أكد هذا الاختصاص بقوله: ((لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ))[الأنعام:59]، ومن كان لديه شيء من علم الغيب فهو بإعلام الله تعالى له، قال تعالى: ((إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ))[الجن:27]، فالله سبحانه وتعالى يطلع ويظهر رسله على شيء من علم الغيب.
  7. حكمة الله تعالى قد تخفى علينا

    ثم يقول المصنف: [ولا يلزم من خفاء حكمة الله علينا عدمها]، أي: أن لله تعالى حكمة، ولا يلزم من خفائها عدمها يقول: [ولا من جهلنا انتفاء حكمته، ألا ترى أن خفاء حكمة الله علينا في خلق الحيات والعقارب والفأر والحشرات التي لا يعلم منها إلا المضرة، لم ينف أن يكون الله تعالى خالقاً لها، ولا يلزم ألا يكون فيها حكمة خفيت علينا؛ لأن عدم العلم لا يكون علماً بالمعدوم]، فإذا فعل العبد الشر أو المعصية، فنقول: إن الذي خلق فيه هذا الفعل هو الله، وإن كان شراً، وإن كنا لا نعرف حكمةً لفعل هذا الشر، فيقول الشيخ: نحن لا نعلم الحكمة في خلق الحيات والعقارب، وهي شر، ومع ذلك نقول: إنها من خلق الله، وأيضاً أفعال العباد الشريرة من خلق الله، وقد سبق هذا، إلا أن الشيخ كرره هنا، وذكره كآخر ما يذكره في آخر هذه الفقرة، مع أنه سوف يعود بعد في فقرات قادمة إلى موضوع القدر، ويؤكد مسألة الكتابة، ومسألة وجوب الإيمان بالقدر، وأن الناس لا يملكون من أمر القدر شيئاً.