إذا جاءنا أناس ُمقرُّون بقلوبهم, أي: في قلوبهم يصدقون ويقرون بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لكن لم يقولوها بألسنتهم, ولم يظهروها, ولم يذعنوا بها بألسنتهم, فهؤلاء كفار، ويمكن بعض الناس يقول: هذا عرف بقلبه وأقر بقلبه.
فنقول له: لا بد من القول باللسان, والإقرار بذلك, ولا يكفي مجرد معرفة الحق أو التصديق به بالقلب، دون أن يقول الإنسان ذلك، ومن عرف وصدق وأيقن حقاً بأن لا إله إلا الله فلا بد أن يقولها، وهذا نماذجه كثيرة، فهو ليس مجرد كلام أو تمثيل لاستكمال القسمة الرباعية، بل كثير جداً في القديم والحديث, فيوجد من يعلم ويشهد أن محمداً رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ويشهد أن القرآن حق بقلبه، لكنه لا يذعن لذلك ولا يظهره، فهؤلاء ليسوا مسلمين؛ بل هم من الكافرين, ولا ينجون من النار، ولا يعتبرون مسلمين أبداً.
مثال ذلك: المستشرقون، أو الكُتَّاب الأوروبيون من اليهود والنصارى وغيرهم الذين يثنون في كتاباتهم -الآن- على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه حق، وأن ما جاء به حق، وأن القرآن عظيم، ويقولون: هذا مصلح ومجدد عظيم إلى آخره، فهذا لا يأخذ أي حكم من أحكام الإسلام، وإن أقرّ بوجود الله، لأن وجود الله قضية غير مختلف فيها في الأمم الماضية.
فوجـود الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أمر مفروغ منه، دلت عليه الفطرة والعقل والشواهد في الأنفس وفي الآفاق، قال الشاعر:
وفي كل شيء له آية            تدل على أنه الواحد
وقال تعالى: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ))[لقمان:25] حتى المنافقون والمشركون وكفار قريش الذين أنكروا رسالة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛كانوا يقرون بأن خالق السماوات والأرض ومدبر الأمر والرازق هو الله إلى آخر ما ذكر الله تبارك وتعالى في كتابه، لكن لم ينفعهم ذلك أبداً.
فكون هؤلاء الناس يقولون إن الإسلام حق, دون أن يقروا وينطقوا بالشهادتين؛ لا يدخلهم في الإسلام.
وأيضاً من عرف الحق بقلبه، وأنكر بلسانه, وهؤلاء ذكر الله تبارك وتعالى لهم مثلاً في القرآن, وبين لنا أنواعاً منهم في القرآن، فكتاب الله هو كتاب الهداية, وكتاب التوحيد الخالص, وقد ذكر الله منهم فرعون وقومه، فقال الله تعالى فيهم: ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً))[النمل:14] فأنكروا آيات الله, لكن في قرارة أنفسهم يعلمون أنها الحق، ولهذا قال موسى عليه السلام لفرعون: ((لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ)) [الإسراء:102] ففرعون في قرارة نفسه يعلم الحق, ولهذا لما اشتد الجدل بينه وبين موسى عليه السلام، وأراد أن يعمي القضية قال: ((وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً))[غافر:36-37] وهذا من باب تضييع القضية, وإشغال الناس وإلهائهم عنها.
وإلا فالحقيقة أن هناك إقراراً بوجود الله, وبصدق رسالة موسى عليه السلام, وإن قال: (( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى )) [النازعات:24] فمهما جحد فهو مستيقن في نفسه بأن هذا حق، ولكنه العناد, والكبر والطغيان نسأل الله العفو والعافية.
فمن عرف هذه المعرفة القلبية -أن الدين حق- ثم كابر وعاند رسول رب العالمين, لم تنفعه تلك المعرفة, لأنه جحد بها.
وذلك -أيضاً- ككفار قريش، حيث كانوا يعلمون في أنفسهم أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الحق، حتى أبو جهل عدو الله لم يكن عنده ذرة من الشك، في أن محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الحق، لكن يقول: كنا وبنو هاشم كفرسي رهان -يعني نتسابق سباق عنصرية جاهلية قبلية- سقوا وسقينا, ورفدوا ورفدنا, وأطعموا وأطعمنا، وفي المعارك وفي كل شيء نسابقهم، وننافسهم فلما قالوا منا نبي، فمن أين لنا بنبي؟
إذاً أحسن شيء نكفر به، والعياذ بالله. فلنعتبر ولننظر كيف يودي العناد والكبر بصاحبه.
ومثل هذا العناد العنصري الجاهلي عناد اليهود لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضاً, فاليهود ذكر الله عنهم أنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فهم يعرفون صفة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التوراة، وهذا هو سبب مجيئهم إلى المدينة وخيبر.
حيث قرأ اليهود في التوراة وفي أخبار رسلهم، أنه سيخرج في آخر الزمان نبي, وسيكون مهاجره -أي موضع هجرته- أرضاً ذات نخل بين حرتين، فبعضهم عندما وصل إلى خيبر, ورأى النخل, ورأى الأرض كأنها حرة، بقي فيها، وبعضهم لما تقدم إلى المدينة ورأى الأرض والنخل بين حرتين بقوا فيها، وأخذوا ينتظرون مبعثه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقصصهم في هذا عجيبة وكثيرة، وكما في حديث زيد بن سعنة عندما سُئل حبر يهودي عن موعد خروج نبي آخر الزمان، فنظر فإذا أحد الصحابة من الأنصار غلام صغير، قال: [[إن يعش هذا الغلام يدركه]] حتى أنهم كانوا يعرفون أنه سوف يأتي في وقت قريب.
ولما قدم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الهجرة, خرج أحدهم في المدينة، ويقول: ''يا بني قيلة! هذا صاحبكم'' عرفه ولم تره العيون بعد.
وهكذا يظهر جلياً أنهم كانوا يقرون ويعلمون صدق نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكن هذا الإقرار لم ينفعهم، وقد جاء منهم اثنان إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وشهدا بالرسالة وهم عنده, ومع ذلك لم يُعد ذلك منهم إيماناً, أو إسلاماً, كما في الحديث الذي رواه أحمد وهو حديث صحيح: { أن حبرين من أحبار اليهود, قال أحدهما للآخر: تعال نذهب إلى هذا النبي ونسأله } وهذا الكلام لم يسمعه منهم أحد، وإنما بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فيما بعد ما دار بينهما، فرواه الصحابي رضي الله عنه: { فقال له صاحبه: لا تقل إنه نبي } وهو يقصد تذكيره بأنهم متفقون على جحد نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورسالته، وإن كانوا يعلمون أنه نبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قال: { فإنه إن بلغه ذلك يكن له أربعة أعين } أي: يأخذه الكبر, ويفرح بشهادتنا له بالنبوة، فنحن لا نشهد له، وهذا حسدٌ من عند أنفسهم,كما بين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: { فذهبا إليه وقالا: يا محمد، أخبرنا عن التسع آيات التي أعطاها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى موسى وهارون, فقرأ عليهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً))[الأنعام:151] } إلى آخر آيات الوصايا العشر في آخر سورة الأنعام، والتي أنزلها الله تبارك وتعالى على كل نبي، فالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وهذا من حكمة الدعوة- عدل عن الجواب، ولم يخبرهم بالآيات -التي هي: الجراد, والقمل, والدم, والضفادع- بل عدل عن ذلك إلى ما هو أهم وأحوج, وإلى ما يجب أن يعلموه.
وقد أنزل الله على موسى وكل رسول هذه الوصايا العشر, التي افتتحت بتوحيد الله: ((قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً)) [الأنعام:151] أن يوحد الله, ويُعبد وحده لا شريك له، واختتمت بالتحذير من البدعة ومن الابتداع والإحداث في الدين.
وما أكثر ما ابتدع اليهود والنصارى, وهو واقع في هذه الأمة،وقد قال تعالى: ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ))[الأنعام:153] { فلما قرأ ذلك، قالا: نشهد أنك نبي، وأرادا أن ينصرفا } وهذا هو الشاهد، فهل نفعتهم هذه الشهادة؟
فهم عندهم يقين, وصدق وإقرار أنه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن لا يلزم من ذلك الإيمان والاتباع.
فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { ما يمنعكما أن تتبعاني -أن تتبعا ما جئت به من الحق-؟ قالا: إن الله قد أخذ علينا العهد أن لا يزال من ذرية داود نبي } أي: أنت من ذرية إسماعيل، والله تعالى قد أخبرنا وأعطانا أنه لا يزال من ذرية داود نبي، فكونك من بني إسماعيل يجعلنا نكفر برسالتك، وإلا فأنت نبي، ولو كنت من آل داود لآمنا بك، سبحان الله!
فالقضية عندهم قضية نسب وعنصرية، وكما زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه, وأنهم شعب الله المختار، أي: إن كان جاءنا الداعية من بني فلان قبلناه, وإن كـان من بني فـلان لم نقبله، نعوذ بالله! إن كانت الفتوى جاءت من المكان الفلاني قبلنا، وإن كانت من فلان فلا، فهذه عنصرية وجاهلية. فالحق يقبل والحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها، لكنه الحسد الذي أخذ بالقلوب, وقد كفروا بما أنزل الله تبارك وتعالى على داود وعيسى وموسى, وعلى من جاء من ذرية داود, والسبب هو الكبر والعناد والحسد.
إذاً لم ينفع اليهود وأهل الكتاب أنهم يعرفون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقول بعضهم لبعض انه نبي, لأن الواجب عليهم أن يتبعوه ويذعنوا له. وينقادوا لأمره ولدينه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذه هي حقيقة كون الإنسان مسلماً أو مؤمناً.
وهناك مثال أوضح من هذا كله، وهو من يعلم أن الإسلام حق، ويقف ينصر الدين, ويدعو الناس إلى كف الأذى عن هذا الدين, ويحامي وينافح ويكافح دونه؛ ولكنه هو لم يشهد ولم يقل كلمة الحق ويذعن، فلم ينفعه ذلك, ولا يعد من المسلمين.
وهذا ما فعله عم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو طالب، فإنه أكبر من حمى دعوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونصره وآزره حتى لما حُصر المؤمنون في الشعب حُصر معهم، فكان في كل أمر من الأمور يكون ظاهره مع المسلمين ومع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو يعلم أنه على الحق، لأنه لا يوجد أحد يؤازر أحداً, ويتحمل الشدائد والتعب والبلوى والأذى ويظن أنه كاذب، وقد صرح بذلك:
ولقد علمت بأن دين محمد            من خير أديان البرية ديناً
لولا الملامة أو حذار مسبة            لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
فكان يخاف أن يعيّر, ويقال: إنه ترك ملة عبد المطلب.
وهذه العادات -اتباع الآباء والأجداد- هي مشكلة الناس في كل زمان ومكان: ((إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ))[الزخرف:23] فمهما قيل ومهما جاء بالآيات, وحتى لو قال لهم الرسول: ((أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ)) [الزخرف:24] قالوا: لا. وكذبوا وأعرضوا, فالحق عندهم هو ما عليه الآباء والأجداد, وما كانوا عليه هم من العادات والتقاليد.
وهذه مشكلة كثير من الكفار ومنهم أبو طالب، فمع نصرته وتأييده للدعوة, يأتيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وهو على وشك الموت ويقول: {يا عم! كلمة أحاج لك بها عند الله} فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريد منه -فقط- أن يشهد أن لا إله إلا الله, وأن يقولها مع علمه أنها الحق، ولكنه تردد، وكان عدو الله الشيطان أبو لهب يقول: { أترغب عن ملة عبد المطلب؟! }.
فكان هناك داعيان يتنافسان عنده: داعي الخير والهدى محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يطلب منه كلمة ينجو بها من النار، وهذا بفضل التوحيد وما يكفر من الذنوب، والآخر يقول تترك ملة عبد المطلب، فكان آخر ما قال: {هو على ملة عبد المطلب } نسأل الله العفو والعافية.
فحزن وأسف وتألم لذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأنزل الله تبارك وتعالى عليه: ((إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)) [القصص:56] سبحان الله! فلم ينفع أبا طالب أنه كان عالماً بالحق وعارفاً به ومدافعاً عنه, لم ينفعه ذلك؛ لأنه لم يقر به بلسانه ويذعن له ويصبح من أهله.
إذاً عرفنا -الآن- أهمية تصديق القلب للسان, فالمنافقون لم تصدق قلوبهم ما قالوا بألسنتهم؛ فكانوا كافرين غير مسلمين، وعرفنا أيضاً أهمية أن اللسان يجب أن يصدق القلب, فمن عرف الحق بقلبه ولكن لم يصدق ذلك بالإقرار باللسان فهذا أيضاً لا يعد من المسلمين.