المادة    
قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
[فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى، وهي درجة الراسخين في العلم؛ لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود، فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم المفقود كفر، ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك طلب العلم المفقود].
قال المصنف رحمه الله:
[الإشارة بقوله: (فهذا) إلى ما تقدم ذكره مما يجب اعتقاده والعمل به مما جاءت به الشريعة، وقوله: (وهي درجة الراسخين في العلم) أي: علم ما جاء به الرسول جملة وتفصيلاً، نفياً وإثباتاً، ويعني بالعلم المفقود: علم القدر الذي طواه الله عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، ويعني بالعلم الموجود: علم الشريعة أصولها وفروعها، فمن أنكر شيئاً مما جاء به الرسول كان من الكافرين، ومن ادعى علم الغيب كان من الكافرين، قال تعالى: ((عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا* إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا))[الجن:26-27] الآية، وقال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ))[لقمان:34]، ولا يلزم من خفاء حكمة الله تعالى علينا عدمها، ولا من جهلنا انتفاء حكمته؛ ألا ترى أن خفاء حكمة الله علينا في خلق الحيات والعقارب والفأر والحشرات، التي لا يعلم منها إلا المضرة؛ لم ينف أن يكون الله تعالى خالقاً لها، ولا يلزم أن لا يكون فيها حكمة خفيت علينا؛ لأن عدم العلم لا يكون علماً بالمعدوم]
.
الشرح:
يقول الطحاوي رحمه الله: [فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعال]، يقول المصنف رحمه الله: [الإشارة بقوله: (فهذا) إلى ما تقدم ذكره مما يجب اعتقاده والعمل به مما جاءت به الشريعة]، قوله: (فهذا) أي: الأبواب السابقة التي تقدم ذكرها.
ومن المعلوم أن أئمة السلف رحمهم الله في القرون الثلاثة وما بعدها -غالبهم إن لم يكونوا كلهم- لم يكونوا مهتمين بالتبويب في كتبهم التي هي سرد علمي؛ بل كانوا يعتمدون على الإلقاء أو الكتابة والسرد، غير مهتمين ذلك الاهتمام الذي عُني به المتأخرون من التوبيب والفقرات، وتفصيل الموضوعات، وهذا شاهد على ذلك؛ فإن قول الإمام أبي جعفر الطحاوي رحمه الله: (فهذا...) إلخ، الأولى -حسبما نعرفه من التبويب في الكتب- أن تكون هذه العبارة في خاتمة الكتاب، لكن الشيخ جاء بها هنا وجاء بها بعد موضوع القدر؛ لأنه من أكثر الموضوعات التي تثير في المؤمن ضرورة الدعوة إلى الإيمان والاستسلام والعبودية، وذلك أن الإنسان إذا عاش في بيئة يكثر فيها النزاع في القدر والكلام فيه؛ يجد أن أهم ما يدعو إليه هو الدعوة إلى الإيمان بالله، والاستسلام لأمر الله، والتصديق بكل ما أخبر به الله سبحانه وتعالى من الوحيين، وعدم الاعتراض أو التنازع في شيء من ذلك.
والشيخ رحمه الله كان مدفوعاً -فيما يبدو- بهذه العاطفة القوية وهو يتحدث عن القدر، فختم ذلك الباب بهذه العبارة، وهي لائقة بالكتاب كله أو بالعقيدة التي وضعها جميعها.
ولا شك أننا إذا نظرنا إلى ما سبق مما ذكره رحمه الله ووضح مذهب أهل السنة والجماعة فيه؛ لوجدنا أنه ذكر أبواباً عظيمة هي من أهم أبواب العقيدة -ولكن بقي أيضاً أبواب مهمة- نذكر بعضها: فمنها مبحث التوحيد وأنواعه، وموضوع الشفاعة، وموضوع الرؤية والأسماء والصفات، لكنه تعرض لبعض الأسماء فقط ولم يذكرها كلها، وهناك ذكر الشارح رحمه الله درجات المؤولين أو النفاة لصفات الله تعالى. ومما تقدم -كذلك- مبحث التأويل، ومبحث الرؤية، وهو من الموضوعات التي ذكرها لحاجة ذلك العصر إليها، وإلاّ فهي من ضمن الأمور التي تدخل تحت الغيبيات، أو تحت أبواب الصفات.
وتكلم أيضاً عن الإسراء والمعراج، وعن صفة الكلام -وهو من أهم الموضوعات- وقد أطال فيه، وقد ذكرنا اختلاف المذاهب في الكلام، وتحدثنا عن موضوع مهم وهو موضوع النبوة، ثم تحدث عن علم الكلام وخطره والتحذير منه، وأنه يورث الوسوسة والشك، وفي مقابل هذا جاء ليؤكد على مسألة الاستسلام والأخذ والتلقي عن الكتاب والسنة.
وهذه الموضوعات كلها قد تقدمت، وبقي موضوعات وأبواب مهمة بعضها تقدم شيء منه، وبعضها لم يتقدم منه شيء، فمن الموضوعات التي تقدم شيء منها: الإيمان، وقد سمي: باب الأسماء والأحكام، أي: متى يسمى الإنسان مؤمناً؟ ومتى يسمى فاسقاً؟ ومتى يسمى كافراً؟ ومتى يسمى مبتدعاً؟ وما حكمه في هذه الحالات عند أهل السنة، وعند الخوارج، وعند المعتزلة، وعند الشيعة ...إلخ؟
ومن الأبواب التي سوف تأتي: باب التكفير، وهو ضمن باب الإيمان أو باب الأسماء والأحكام، وكذلك موضوع الصحابة، وموضوع الإمامة، وموضوع الجماعة -وهذه الموضوعات الثلاثة مترابطة- فنعرف ما هو حكم الصحابة، وما هو الواجب لهم رضوان الله تعالى عليهم؛ وما هي الفرق التي ضلت فيهم؛ وما مذهبها؛ وكم أنواعها؛ ومن هو الغالي منها والأدنى... هذا كله سيأتي إن شاء الله. ومما يتعلق بذلك موضوع الإمامة، ومعرفة الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هو الإمام الشرعي الذي تجب طاعته؟
ويتبع ذلك ويتعلق به موضوع الجهاد مع من يكون؟ وكذلك الصلاة خلف أهل القبلة وإن كان لديهم بعض البدع، وأحكام ذلك، وهذه تدخل ضمن أبواب الإيمان، أو ضمن باب الجماعة، ومن هي الجماعة؟ وكيف نحرص على السنة والجماعة؟ لأن من أصول أهل السنة والجماعة: الحرص على الجماعة، وتجنب الفرقة والشذوذ والخلاف.
ومن المواضيع التي ستأتي: الروح والنفس: ما حقيقتهما؟ ويتعلق بذلك عذاب القبر ونعيمه، والبعث، وهكذا بعض أبواب الصفات ومباحثها، ومنها: العرش أو العلو -عموماً- وهي من أهم مباحث الصفات للباري تعالى، وفي أبواب الصفات مباحث مهمة جداً؛ لو فهمت لفهمت كل الصفات، ومنها: الكلام، والرؤية -وهذه تقدمت- والعلو -وسيأتي الكلام عنها إن شاء الله، ولا بد من الإشارة إليها -وإن كانت لم تأت بعد- باعتبار الترابط ببين الموضوعات.
كذلك من موضوعات العقيدة المهمة -وهي من جملة ما يحتاج إليه المسلم، وهي مما لم يشر إليه الماتن رحمه الله، ولكنها ستأتي ولابد أن يعرفها المؤمن- موضوع علامات القيامة، وأشراط الساعة. ثم سيتكلم الشيخ رحمه الله عما يتعلق بالكهنة والعرافين، وحكم إتيانهم، وهو مما أشار إليه هنا، وهو يتعلق بمباحث توحيد الألوهية، وكذلك يبحث رحمه الله موضوعاً مهماً وهو موضوع الدعاء، وهو مما اختلف فيه أهل السنة مع الصوفية والمعتزلة ؛ في شروطه وآدابه والتعبد به، وجدواه وفائدته.
ثم يأتي قريباً منه موضوع الكرامات.. وما هي الكرامة؟ ولمن تكون؟ وما هي ضوابطها وشروطها؟
فنلاحظ من هذا أن هذه العقيدة -رحم الله ماتنها وشارحها- ليست مرتبة بالدقة التي نجدها في كتب المتأخرين من علماء العقيدة، لكن يمكن أن ننظر إلى كل فقرة من هذه الفقرات على أنها موضوع مستقل، ونشير إلى الروابط مع الموضوعات الأخرى؛ وهذا ما عملناه وسنعلمه بإذن الله تعالى.