المادة    
يقول الشيخ: "ولا شك في تكفير من رد حكم الكتاب، ولكن من تأول حكم الكتاب لشبهة عرضت له بُيِّن له الصواب ليرجع إليه".
لابد من التفريق بين من رد حكم الكتاب وبين من تأول أحكام الكتاب؛ فمن رد حكم الكتاب فهو كافر، فمن قيل له: إن الله تبارك وتعالى شرع كذا أو أمر بكذا، فرده، وقال: لا نقبله، وهو خطأ، أو غير معقول، أو هذه همجية، أو هذا لا يتناسب مع الحضارة، أو أي نوع من أنواع الرد؛ فهو كافر، وليس له في الإسلام حظ بإجماع المسلمين عامة، أما من تأول حكم الكتاب، فإنه لا يكفر؛ فإنه لما قامت الفتنة بين المسلمين في عصر الصحابة، وقع الخلاف على التأويل وليس على التنزيل، فلم يقع الخلاف على أن القرآن منزل من عند الله؛ بل وقع الخلاف في فهم القرآن، فجاء الخوارج وقالوا: قال الله تعالى: ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ))[الأنعام:57]، فجعل الله الحكم له وحده؛ فلما حكم علي الحكمين كفر بذلك! وقد كان هؤلاء الخوارج يسمون القراء؛ لشدة اجتهادهم وعباداتهم واشتغالهم بالقرآن، وكانوا أعظم جيش علي رضي الله عنه وأشد الناس في الدفاع عن مواقفه، وكانوا أعظم جنده، لكن كان فيهم الغلو، فقالوا: يجب أن نحارب البغاة والخارجين عن طاعة أمير المؤمنين، فلما وقعت حادثة التحكيم، قالوا: كيف حكَّم الرجال في دين الله، والله يقول: ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ))[الأنعام:57]؟! فخرجوا عنه -وكانوا بضعة آلاف- من أجل هذا التأويل، فتأولوا كتاب الله على غير حقيقته، وظنوا أن علياً كفر؛ لأنه خرج عن كتاب الله، أو رد حكم الكتاب، مع أن علياً رضي الله عنه ما رد حكم الكتاب، لكنهم جعلوه في منزلة من رد حكم الكتاب.
ومن قبل ثار أهل الفتنة على عثمان، وزعموا أنه بدل كتاب الله، وأنه رد أحكام الله؛ لأنه ولى بني أمية وهم أقرباؤه، وترك غيرهم وهم أفضل منهم، ولأنه حمى الحمى، ولأنه أتم الصلاة وقد قصرها النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر. فهل يعد هذا رداً لأحكام الله؟!
هذا لا يعد رداً لأحكام الله، وإنما هو تأول واجتهاد، ولكنهم لم ينظروا إلى المسألة على أنها تأول، بل اعتبروا ذلك رداً، ولهذا كان الخوارج يكفرون علياً وعثمان تكفيراً يخرجهم من الملة؛ لأنهم يتهمونهم برد الكتاب، والحقيقة أنهم ما ردوا كتاب الله، ولكن وقع الاختلاف في تأويل الكتاب، وأحياناً قد يقع الخطأ حتى من عثمان رضي الله عنه، أو حتى من علي رضي الله عنه في فهم بعض الآيات، فقد يتأول آية على غير وجهها، لكن هذا لا يخرجه من الملة؛ بل يجعله في درجة المجتهد المخطئ ولا أقل من ذلك، لكن الخوارج جعلوا الأمر أمر كفر والعياذ بالله!
ولذلك قلنا: إن هذا من الأمور المهمة؛ فإن الفلاسفة والباطنية وغلاة الجهمية وأمثالهم الذين يقولون: ما ورد في الكتاب من صفات الله كقوله تعالى: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى))[طه:5] وأمثال ذلك، فهذا مردود؛ لأن الأنبياء إنما جاءوا ليقربوا للعامة هذه الأشياء وليس هذا من الحقيقة؛ فهؤلاء قد ردوا حكم الكتاب، فهم كفار، لكن لا يكفر من يقول: الرحمن على العرش استوى، ويقول: الاستواء عقلاً يتضمن المشابهة أو تلزم منه الجهة، والجهة تتضمن الحيز، والحيز من أوصاف المحدثات، ولهذا نحن ننزه الله عن ذلك، والله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، والله جل جلاله تقدس عن صفات المحدثات.. إلى آخر ما في كتب أهل التأويل الذين أولوا بمثل هذه الشبهات، وهذه الشبهات باطلة لا شك في بطلانها، لكنهم لا يكفرون بذلك؛ لأنهم ما ردوا الكتاب، ولكن تأولوه وفهموه وأنزلوه في غير موضعه.
وهؤلاء الذين يتأولون حكم الكتاب ما واجبنا تجاههم؟
يقول: [ولكن من تأول حكم الكتاب لشبهة عرضت له، بيِّن له الصواب حتى يرجع إليه]، هذه هي القاعدة، فيجب أن يبين له الحق والصواب، وأن تكشف هذه الشبهة وتزال؛ سواء كانت في باب القدر، أو في باب الأسماء والصفات، أو حتى في باب الأحكام، فإذا جاء إنسان، وقال: إن الخمر حلال، وهي من المشروبات الروحية، والعالم كله يشرب، ولا شيء فيها، فهذا قد رد حكم الكتاب، فهو كافر، وأما من تأول، كما حصل من الذين تأولوا قوله تعالى: ((لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ))[المائدة:93]، على أن المؤمن التقي ليس عليه جناح فيما طعم من الخمر، قالوا: فقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن الأهم هو التقوى والإيمان، فإذا اتقى العبد وآمن، فليس عليه جناح فيما طعم، وكان ذلك في أيام عمر رضي الله تعالى عنه، فلم يكفرهم رأساً، وإنما بين لهم وجه الصواب ليرجعوا إليه، فقال: "يبين لهم الحق، فإن أصروا على ذلك قتلوا -يعني كفراً- وإن عرفوا رجعوا"، فلما بين لهم الحق رجعوا؛ لأنهم لم يكونوا يقصدون رد حكم الكتاب، وإنما كان خطؤهم من تأولهم، فهذه الآية لم ينزلها الله من أجل أن الخمر حلال، فهي ليست ناسخة لآية الخمر، ولا مخصصة لها ولا مقيدة، وإنما هذه لها باب، وتلك لها باب آخر.
إذاً: من تأول ليس كمن رد، فالذي يرد حكم الله سبحانه وتعالى، والثابت القطعي من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يكفر، وأما من تأوله على غير وجهه، فإنه يبين له وجه الصواب، ويبين له الحق لكي يرجع إليه.
يقول رحمه الله: [فالله سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل؛ لكمال حكمته ورحمته وعدله].
ذكر الإمام الطحاوي رحمه الله قوله تعالى: ((لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ))[الأنبياء:23] وقال: [فمن سأل لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب].
فقال الشارح رحمه الله مبيناً معنى الآية: [لا يُسأل عما يفعل؛ لكمال حكمته ورحمته وعدله، لا لمجرد قهره وقدرته كما يقول جهم وأتباعه]، وهم الأشعرية كما ذكرنا، وهم الذين يقولون: إن الأمر يرجع إلى القهر وإلى القدرة، أي: إلى مجرد المشيئة أو الإرادة، ولهذا لو شاء لأدخل الجنة إبليس أو أفجر الناس، وأيضاً لو شاء لأدخل أعظم الناس تقوى النار، فيقولون: إن الأمر راجع إلى مجرد المشيئة، وهو رب الناس، ويملك كل شيء، وهو القاهر عليهم، فيفعل فيهم ما يشاء، فهل هذا هو الوجه الصحيح في الآية: ((لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ))[الأنبياء:23] أي لأنه ربهم فليفعل ما يشاء؟! نعم.. هو ربهم، وهو يفعل ما يشاء، لكن وفق حكمته ورحمته وعدله، فالحكمة أولاً في التشريع؛ فما شرع شرعاً إلا وله حكمة، فلم يشرع للعباد أمراً يعجزهم به، وإنما شرع لهم ما فيه الحكمة والخير والمصلحة، فإن أحسنوا فجزاؤهم الجنة، وهذا متفق مع فضله ومع رحمته، وإن عصوا وفجروا وفسقوا، فهؤلاء خالفوا حكمته التي شرعها، فإن عاقبهم فبعدله، وإن غفر لهم فبرحمته وفضله، إذاً له الحكمة وله الرحمة وله العدل سبحانه وتعالى.
فهو سبحانه يفعل ما يشاء، لكن لا يخرج فعله عن مقتضى الحكمة والعدل والرحمة؛ بل قد كتب سبحانه وتعالى أن رحمته سبقت غضبه، وأن له عز وجل مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بها يتراحم الخلق، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن وليدها، وادخر لعباده عنده تسعاً وتسعين رحمة.
فالله سبحانه وتعالى يعامل الناس بالرحمة ولا يعاملهم بالعدل، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية كما في قوله تعالى: ((إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ))[الأعراف:167] يقول: في مقام الوعيد: ذكر فعله، وفي مقام الرحمة ذكر صفة ذاته، يعني أن المغفرة والرحمة صفتان ذاتيتان لا تنفكان عنه سبحانه وتعالى، ولكن العقاب فعله، فله سبحانه وتعالى أن يفعل وله ألا يفعل، فقد يعاقب وقد لا يعاقب من يستحق العقوبة، لكن من يستحق المغفرة لا يمكن أبداً أن يظلمه، بل يغفر له ويرحمه سبحانه وتعالى، وفرق بين إخباره عن فعله وبين إخباره عن صفته، وهذا من سعة رحمته سبحانه وتعالى وكرمه، وهو لكمال حكمته ورحمته وعدله: ((لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ))[الأنبياء:23].
فإذا جاء أحد وقال: لم فعل هذا؟ وكيف يفعل الله كذا؟ قيل له: هل أنت تؤمن بأن الله حكيم؟ فيقول: بلى أومن بذلك.
إذاً فلماذا تسأل وتقول: كيف يعذبهم ولم تبلغهم الدعوة؟! وكيف يعذبهم وقد كتب ذلك عليهم؟! وكيف ينزل كذا؟! ولماذا يفعل كذا؟! إذا قلت ذلك، فمعنى هذا أنك لا تؤمن حقاً بأن الله حكيم وبأنه رحيم وبأنه عدل.
هذا هو معنى: أنه لا يسأل عما يفعل سبحانه وتعالى، لا كما يقول الجهمية والأشعرية: لا يسأل عما يفعل لمجرد المشيئة أو الربوبية أو القهر.
يقول: [وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قول الشيخ: ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله] أي: سيأتي بيان مسألة التكفير وليس بيان مسألة التعليل؛ لأن مسألة التعليل ليس موضعها هناك، فسوف يأتي بيان الفرق بين من رد حكم الكتاب ومن تأول حكم الكتاب، والفرق بين الحالة التي يخرج فيها الإنسان من الملة، وبين الحالة التي لا يخرج فيها ويكون صاحب معصية، وذلك عند قول الشيخ الطحاوي: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله]، ولذلك نرجئ شرح ذلك إلى هناك، لكن يمكن أن تصحح هذه العبارة فتكون: بكل ذنب أو بأي ذنب ما لم يستحله، أو بحذف كلمة الاستحلال، فإما أن يلغى العموم أو تعدل العبارة؛ لأن هناك ذنوباً يكفر فاعلها وإن لم يكن مستحلاً لها، أي: أن هناك أفعالاً يفعلها الإنسان وهي بذاتها كافية في تكفير صاحبها، ولا يسأل: هل استحل أم لم يستحل؟!
فليس الأمر على إطلاقه؛ كما قال الشارح في شرحه للعبارة في موضعها: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله] قال: [ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحداً بذنب؛ بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب، كما تفعله الخوارج، وفرق بين النفي العام ونفي العموم، والواجب إنما هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج].