المادة    
قال المصنف رحمه الله:
[قال القرطبي ناقلاً عن ابن عبد البر: (فمن سأل مستفهماً راغباً في العلم ونفي الجهل عن نفسه، باحثاً عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه، فلا بأس به، فشفاء العي السؤال، ومن سأل متعنتاً غير متفقه ولا متعلم، فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره).
قال ابن العربي: الذي ينبغي للعالم أن يشتغل به هو بسط الأدلة، وإيضاح سبل النظر، وتحصيل مقدمات الاجتهاد، وإعداد الآلة المعينة على الاستمداد.. قال: فإذا عرضت نازلة، أتيتْ من بابها، ونُشدت من مظانها، والله يفتح وجه الصواب فيها). انتهى.
وقال صلى الله عليه وسلم: {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه} رواه الترمذي وغيره.
ولا شك في تكفير من رد حكم الكتاب، ولكن من تأول حكم الكتاب لشبهة عرضت له، بُيّن له الصواب ليرجع إليه، فالله سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل؛ لكمال حكمته ورحمته وعدله، لا لمجرد قهره وقدرته، كما يقول جهم وأتباعه، وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قول الشيخ: "ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله"]
اهـ.
الشرح:
ينقل الشيخ رحمه الله هنا ما يؤيد كلامه، بعد أن ذكر مراتب الفعل، وأنه يحتاج إلى التصديق، ثم العزم، ثم المسارعة.. إلى آخر ما ذكرناه.
فلابد أن يكون العبد المؤمن طائعاً ممتثلاً لله سبحانه وتعالى؛ لأن مقتضى العبودية لله سبحانه وتعالى أنه إذا بلغك عن الله أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم أمر أن تفعله، أو نهي أن تجتنبه، ولو سأل الإنسان سؤال المعاند أو المكابر أو الذي يماطل ويمانع كما هو حال اليهود؛ لكان ذلك رداً لحكم الكتاب وخروجاً عن العبودية لله سبحانه وتعالى، وهذا ما لا يليق بالمسلمين، ولم يفعله سلف هذه الأمة الصالحون رضوان الله تعالى عليهم، بل هو من شأن اليهود.
  1. الاعتراض على أوامر الله من أسباب هلاك الأمم

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً سبب هلاك من كان قبلنا: {إنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم}، وقد ذكر الله تبارك وتعالى في الذكر الحكيم نماذج من ذلك:
    قصة بني إسرائيل لما أمرهم نبي الله موسى إبلاغاً عن الله أن يذبحوا بقرة، فهذا مثال من أمثلة ما هلك به من كان قبلنا، وهو كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، ومماطلتهم وتكاسلهم عن أمر الله سبحانه وتعالى؛ بل وردهم لأمره؛ فإن الله سبحانه وتعالى أمرهم أن يذبحوا بقرة، فكان الواجب في مثل هذه الحالة أن يمتثلوا، فيذبحوا أي بقرة؛ فإنها مجزئة، ولو أنهم تخيروا البقرة الفضلى التي تطيب بها نفوسهم لكي يذبحوها امتثالاً لأمر الله؛ لكان ذلك خيراً لهم وأفضل، لكنهم شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فإنه ليس المقصود هو ذبح البقرة لذاته، وإنما المقصود هو أن يُعلم القاتل الذي ارتكب الجناية، ولكي يعرف هذا القاتل لا بد من قربان يقرب إلى الله سبحانه وتعالى، ثم يضرب الميت ببعض هذا القربان، فينطق القتيل، ويخبر عمن قتله.
    فماطل اليهود حتى نُسيت القضية الأولى وهي قضية القتل، وانتقلوا إلى مشكلة جديدة، حيث قالوا لنبيهم: ((أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا))[البقرة:67] مع أنه نبي مكلم من أولي العزم، كلمه الله سبحانه وتعالى، وقد قال لهم: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ))[البقرة:67]، ولو قال: أنا آمركم؛ لوجب أن يمتثلوا؛ لأنه إنما يأمر عن الله، فكيف وهو يقول: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً))[البقرة:67]؟! فقالوا له: ((أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا))[البقرة:67]، أي: تسخر بنا وتستهزئ بنا! فكأنه يكذب على الله ويفتري عليه، ويقول بأن الله أمر وهو لم يأمر، ويقول ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: ((أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ))[البقرة:67]، ومن الذي يقول على الله سبحانه وتعالى غير الحق؟! ومن الذي يفتري على الله إلا الجاهلون عموماً؟! وأعظم ذلك الجهل بالله، والجهل بقدر الله سبحانه وتعالى وبعظمته، فلذلك قال: ((أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ))[البقرة:67] أي: أن أفتري على الله وأقول لكم: إن الله يأمركم وهو لم يأمركم.
    وبعد ذلك كأنهم أيقنوا أن الله أمرهم، فقالوا: ما هي البقرة التي أمر الله بها؟
    فلما أخبرهم بأن الله سبحانه وتعالى يقول : ((إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ))[البقرة:68]، عرفوا الوصف، فبحثوا عن أبقار هذه شأنها وصفتها: لا فارض ولا بكر، فوجدوا أبقاراً من هذا النوع ولكنها مختلفة الألوان، فقالوا: أيتها التي يريد الله؟! مع أن هذا أيضاً لا داعي له، وهل كلفكم الله لوناً معيناً؟ لقد أمركم الله أن تذبحوا بقرة، فِلمَ لم تذبحوا؟ وحدد لكم الوصف، فلِمَ لم تذبحوا ما كانت هذه صفتها؟ قالوا: لا بد أن تبين لنا ما لونها، فبين لهم، فقال: ((إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ))[البقرة:69]، ثم قالوا أيضاً: ما هي؟ فقال: ((إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ))[البقرة:71]، فبعد كثرة السؤال وكثرة التردد والمماطلة والمماحكة والمجادلة في أمر كان يكفي فيه أدنى وأقل ما يحصل به المطلوب والامتثال، نفذوا ما أمرهم به الله، وإن من أسرع في امتثال أمر الله ولو مع بعض التقصير، فإن الله سبحانه وتعالى يغفر تقصيره لحسن النية ولسرعة الامتثال، كما قال تعالى: ((لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ))[الحج:37] لكن الذي يماطل ويجادل ويماحك، فحتى لو جاء بالمطلوب، فإنه ملوم على مما طلته ومماحكته.
    فهذا هو الذي نهانا الله سبحانه وتعالى عنه، وهذا حال أولئك القوم وأمثالهم، أما هذه الأمة فإنه السمع والطاعة، كما كان يقول سلفها الصالح رضي الله تعالى عليهم: ((قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا))[النساء:46]، كما أمرهم الله تبارك وتعالى، وهذا هو الواجب على العبد.
  2. الواجب على العبد أن يسأل مستفهماً راغباً

    والاستفهام أو السؤال له موضعه، كما ذكر الشارح رحمه الله عن العلامة ابن عبد البر قوله: "من سأل مستفهماً راغباً في العلم ونفي الجهل عن نفسه، باحثاً عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه، فلا بأس به، فشفاء العي السؤال"، فالمسلم لا يسأل إلا في مثل هذه الحالات: أن يسأل وهو راغب في العلم، يريد أن ينفي الجهل عن نفسه، أو يبحث عن معنى يتعين أن يقف عليه أو أن يعرفه لدينه، "فشفاء العي السؤال" ففي هذه الحالة يجب أن يسأل الإنسان، ولا يجوز أن يعبد الله سبحانه وتعالى على جهل، بل يجب أن يسأل عن أمور دينه؛ قال تعالى: ((فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ))[النحل:43]، فهذا السؤال ليس مما يعاب على الإنسان، ومن سئل فلا ينبغي له أن يستنكف عن الجواب في مثل هذه الحالة من الاستفهام.
    قال ابن عبد البر: "ومن سأل متعنتاً غير متفقه ولا متعلم.."، وقد نهى العلماء رحمهم الله عن الألغاز والأحاجي التي يذكرها أهل الرأي وغيرهم، وقد أصبحت الألغاز والأحاجي عند المتأخرين فناً من فنون الأدب، فيسألون في أحكام فقهية، ويسألون في أمور دينية شرعية لا على سبيل المعرفة، ولكن على سبيل التعنت أو الإلغاز، كما في مقامات الحريري مثلاً، فإن فيها أحاجي وألغازاً فقهية، وكذلك نحوية، وهكذا في كل فن، فجعلوا الدين من ضمن ذلك، فيسألون على سبيل التعنت والعناد، أو على سبيل اختبار المسئول، فيأتون إلى رجل عالم يفتي الناس في الفرائض، فيسألونه عن مسألة طويلة حتى يعرفوا هل يستطيع بالبديهة أن يحسب ويجمع، وهل سيعطي نصيب كل واحد كما يستحقه؟ وهذا من النوع لا يجوز أن يسأله الإنسان.
    قال رحمه الله: [ومن سأل متعنتاً غير متفقه ولا متعلم، فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره]، ففي هذه الحالة لا يجوز أن يسأل هذا النوع من الأسئلة، ولا يجوز كذلك السؤال على سبيل التعريض بالغير، فيجب أن يتنبه الإنسان، فطلب العلم له آداب كثيرة، وهذا منها، وهو أنه لا يجوز السؤال على سبيل التعريض بأخ من إخوانك المسلمين، ولو وقع في هفوة أو بدرت منه بادرة، ولا سيما إذا رجع عنها وتاب، أو كان لا يريد أن تُعرف عنه، فسألت أحد العلماء على ملأ: ما حكم من فعل كذا وكذا؟ وذلك الرجل موجود أو غائب، ولكن من يشهد الواقعة يعلم أن المقصود بالسؤال هو ذلك الشخص، والمجيب وهو المسئول قد لا يدري، فيتكلم، فيؤذي صاحب الشأن أو الواقعة، فهذا مما لا ينبغي أيضاً، فإن الاستفهام أو الاستعلام لا يكون إلا لطلب العلم وللتعبد، فيعرف الإنسان ربه ودينه، فيعبده على بصيرة.