المادة    
استطرد المصنف رحمه الله تعالى في بيان أصل شبهة القدر والمزلق الخطير الذي زلت فيه أقدامهم وأفهامهم وهو السؤال: (لماذا قضى الله بالذنب؟!) و(لماذا قدره الله؟!) و(لماذا يجازي الله تعالى العاصي مع أنه قد كتب عليه الذنب؟!) وغيرها من الأسئلة، وقد استعرضناها في درس سابق.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[وقوله: [فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حُكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين ].
اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت بنبيها، وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به، ونهاها عنه، وبلَّغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت وسلمت وأذعنت، وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته، ولا جعلت ذلك من شأنها، وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك، كما في الإنجيل (يا بني إسرائيل! لا تقولوا: لِمَ أمر ربنا؟ ولكن قولوا: بِمَ أمر ربنا؟)، ولهذا كان سلف هذه الأمة -التي هي أكمل الأمم عقولاً ومعارف وعلوماً- لا تسأل نبيها: لِمَ أمر الله بكذا؟ ولِمَ نهى عن كذا؟ ولِمَ قدّر كذا؟ ولِمَ فعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام، وأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم.
فأول مراتب تعظيم الأمر: التصديق به، ثم العزم الجازم على امتثاله، ثم المسارعة إليه والمبادرة به، والحذر عن القواطع والموانع، ثم بذل الجهد والنصح في الإتيان به على أكمل الوجوه، ثم فعلُه لكونه مأموراً به، بحيث لا يتوقف الإتيان به على معرفة حكمته، فإن ظهرت له فعله، وإلا عطله، فإن هذا ينافي الانقياد، ويقدح في الامتثال ]
.
الشرح:
تكلم الإمام أبو جعفر الطحاوي بعد أن أطال رحمه الله تعالى في هذه الفقرة -من المتن- عن القدر، وذكر ما يؤدي إليه الكلام والخوض والتعمق فيه بغير علم من الوسوسة والشك والريب، ثم ختم ذلك بهذه العبارة القوية، فقال: [فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حُكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين]، وهذه قضية مهمة: أن من سأل: لِمَ فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، دوهناك قضية أخرى: هل من سأل هذا السؤال يكون من الكافرين؟ لأن الشيخ هنا حكم بأنه من الكافرين، فهاتان القضيتان مهمتان تطرق الشارح إليهما، وإن كان قد أحال الكلام في الثانية منهما على مبحث التكفير، ولكنه بينهما إجمالاً.
أما ما يتعلق بالسؤال عن الحكمة وعن العلة، فهل يشمله هذا الحكم؟ لأن أكثر الذين زلّوا في باب القدر زلّوا من باب السؤال، أو الجواب عن السؤال، كرجل جاءته شبهة، فذهب يسأل: كيف يقدر الله عليّ هذا الشيء ثم يعاقبني؟ كيف جعل الله فلاناً مسلماً وجعل فلاناً كافراً؟ وكيف وكيف؟ ولماذا فعل الله؟...إلخ، وهذه هي الوساوس التي تأتي إلى القلب الخاوي الفارغ -ولو مؤقتاً- فيأتي فالشيطان فيبذر فيه هذه البذرة، وكذلك لو سأل شخص -كافر، أو مؤمن شاك، أو ملحد مخاصم مجادل- لكنه سأل غير عالم، أو سأل إنساناً جريئاً على قول الباطل: كيف نجمع بين الآيات والأحاديث؟ ويقصد الآيات والأحاديث الدالة على مسئولية العبد وإرادته، والأخرى الدالة على أن الإرادة لله سبحانه وتعالى؟ فتجرأ ذلك المتجرئ، وقال: الجواب كذا وكذا، ثم اتُّخِذَ ذلك الجواب ديناً، وذلك مثل ذر بن عبد الله الهمداني لما ابتدع الإرجاء، وعندما سئل: كيف ابتدعت الإرجاء؟ قال: كان رأياً رأيته، ثم أصبح ديناً، أي كان مجرد رأي رآه، وصرح أنه رأي، وأحياناً يُسأل الإنسان عن شيء فيجيب بجواب على غير علم أو من غير تأنٍ، أو من غير تفكير ورجوع إلى العلماء، ثم بعد ذلك يأخذه الكبر أن يرجع عنه، فيتلقفه الناس عنه، فإذا به بعد أيام يصبح ديناً وفكرة كبيرة يتبعها عدد من الناس، وهكذا، فنتيجة لأن الإنسان قد يأتيه التساؤل من الشك، أو يجيب -بغير علم- من سأله من أهل الشك أو ممن ألقى الشيطان في قلوبهم ذلك، فتنتج هذه القضية، ثم تصبح -كما هو الواقع- ديناً يدان به في شأن القدر، وأسها وأساسها: (لماذا قدر الله؟!) و(لماذا فعل؟!) و(لِمَ لم يفعل؟!).
وسوف نفصل الكلام -بما يفتح الله به علينا- عن مسألة السؤال عن الحكمة وعن العلة إن شاء الله تعالى.