المادة    
إذا كانت هذه هي صفات أهل السنة والجماعة من حيث المنهج، فإن لـأهل السنة والجماعة مميزات واضحة، تعود إلى الممارسة والتطبيق، يلاحظها الناظر لحال الأمة الإسلامية لأول وهلة ومن أول إطلالة على الفِرَق.
  1. الاتفاق وعدم التفرق

    من أعظم مميزات أهل السنة والجماعة التطبيقية، أو السلوكية العملية: أنهم في واقعهم دائماً وأبداً متفقون لا يفترقون في أصول الدين، بخلاف غيرهم من الفرق، فـالخوارج كانت تسمى المحكمة، ثم خرجت فيما بعد الأزارقة، ثم تفرقوا؛ فخرجت النجدات على الأزارقة، وانشقت الإباضية عن النجدات، وكل منهم يقاتل الآخر ويكفره.
    أيضاً من المعتزلة : إبراهيم النظام وأبو الهذيل العلاف، هؤلاء من أول من أسس الاعتزال كمادة كلامية، ومع ذلك كان النظام يكفر العلاف، والعلاف يكفر النظام، وكانا لا يتفقان مطلقاً.
    كذلك الرافضة اختلفوا وانقسموا من أول خروجهم إلى: سبئية وكيسانية وزيدية، حتى أصبحوا فرقاً متناثرة، وأصبحت كل فرقة من الروافض ومن الشيعة تدعي أن الإمام فيهم؛ فقالت الإسماعيلية : أن الإمامة انتقلت في ذرية إسماعيل بن جعفر، وقال آخرون: إن الإمامة في ذرية زيد بن علي، وقالت الجعفرية : في ذرية جعفر الصادق لكن من ابنه موسى بن جعفر، فلما وقعت المشكلة الفاصلة للإثني عشرية التي فرقتهم تفريقاً لا رجعة فيه، وهي موت إمامهم الحادي عشر: الحسن بن علي العسكري من غير أن يعقب؛ لأن الإمامة عندهم تنتقل بالتناسل، فلابد أن يكون كل إمام ابناً للإمام السابق، ولا يمكن أن يكون أخاه أو عمه، لكن العسكري مات ولم يعقب -أي: ليس له ولد- فأصبح الدين كله باطلاً؛ لأنهم جعلوا ركن الدين والأساس الأعظم فيه هو معرفة الإمام، واشترطوا فيه أن يكون عقباً لإمام ولا عقب للحسن العسكري، وإما أن يكون أخاه أو عمه، وبذلك يرجعون للفرقة الأخرى، وهذا فيه إبطال لمزاعمهم، ولذلك اختلقوا أن له ولداً دخل السرداب، وهو الإمام الغائب الثاني عشر، الذي لا وجود له، وبعد ذلك اختلقوا أنه يكون على باب السرداب حاجب يتصل بالإمام الغائب ويأخذ منه التعاليم، فجاء محمد بن نصير أبو شعيب وادعى أنه الباب، وادعى القمي أنه الباب! وكل شخص يدَّعي أنه الباب.
    وهذا كله كذب، فلا وجود للمهدي ولا للسرداب، وهكذا حتى انشقت النصيرية عن الشيعة، والزيدية عن الإمامية الجعفرية، وهكذا تفرقوا شيعاً، ولا لقاء بين تلك الفرق أبداً.
    ومن الفرق التي اختلفت وافترقت: الصوفية؛ فقد قالوا: إن الجنيد سيد الطائفة، وبعد ذلك أصبحوا طوائف شتى، ففي أيام الدولة العثمانية أحصيت الطرق الصوفية المشهورة التي لها أتباع -وذلك قبل ثمانين سنة تقريباً، أي: في مطلع هذا القرن- فوجد أنها ثلاثمائة طريقة غير الطرق الصغيرة وغير الطرق المحدثة بعد ذلك، فأيها على الحق؟! مع أنهم يقولون: إن الجنيد سيد الطائفة، وإن سنده متصل بـالحسن البصري إلى علي أو إلى أبي بكر إلى محمد صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام، فلماذا -إذاً- هذه الفرق الثلاثمائة وأكثر؟!
    إن بدايات معظم هذه الفرق أن يلازم المريد منهم شيخه، فيرى الأتباع بالآلاف، وبعد فترة يرى نفسه أكفأ من شيخه وأذكى منه، ومن الممكن أن يأتي بدجل أحسن من دجل شيخه، فينشق عن شيخه، ويأتي بطريقة أخرى ويسميها باسمه، وإذا أنكر عليه شيخه قال: كلنا كذلك، إذا كنت أنا مبتدع فأنت أيضاً مبتدع؛ لأنك انشققت عن شيخك!
    فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها            وأول راضٍ سيرة من يسيرها
    فالانشقاق طريقة متبعة لديهم جميعاً، وهكذا حصلت الطرق المتعددة والمختلفة.
    إذاً: فلا توجد طائفة ولا فرقة إلا وتفرقت وتمزقت إلا أهل السنة والحمد لله، فإنهم لا يتبعون إلا كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأئمتهم هم: أحمد، والبخاري، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، والفضيل بن عياض، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن سعيد القطان، وغيرهم من الأئمة الأجلة الذين هم أئمة أهل السنة في كل مكان وفي جميع العصور، ويقتدي بهم أهل السنة في كل زمان ومكان، في منهجهم الذي هو اتباع الكتاب والسنة، وإيضاحهما ومقاومة البدعة، فمنهج أهل السنة منهج واحد لا يختلف ولا يضطرب، وهذه من أعظم المميزات العملية لـأهل السنة والجماعة.
  2. التوسط والاعتدال

    من المميزات العملية التي يمتاز بها أهل السنة والجماعة، والتي لا توجد ولن توجد عند أهل البدع: أن أهل السنة دائماً وسط بين أهل الإفراط والتفريط، وقد أشرنا إلى ذلك عندما ذكرنا أنهم يؤمنون بالكتاب كله، وسنزيده هنا بياناً فنقول: أهل السنة وسط في باب الإيمان بين الخوارج والمرجئة، وهم وسط في باب الصفات بين المعطلة والممثلة -ونحن نعبر بـ(ممثلة)؛ لأن الذي ورد في القرآن هو نفي المماثلة في قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))[الشورى:11]؛ والمقصد من هذا التعبير أن تكون ألفاظنا شرعية- وأيضاً في باب القدر هم وسط بين القدرية والجبرية، وكذلك في الصحابة هم وسط بين الروافض والخوارج.. وهكذا.
    إذاً: الوسطية منهجهم في كل شيء، وهذه ميزة لا توجد لأي فرقة من الفرق.
    وهذا ليس في العقيدة فحسب، وإنما في السلوك أيضاً؛ فمثلاً: أهل السنة وسط في السلوك بين أهل الرأي والكلام، وبين أهل الكشف والذوق -أي: بين المعتزلة والصوفية - فـأهل السنة لا يلغون دور العقل، لكنهم ليسوا مثل أهل الكلام الذين كل شيء عندهم عقليات ومنطق، وبراهين فلسفية، فهم إنما يستخدمون العقل للوصول إلى الفهم الصحيح للقرآن والسنة.
    أيضاً أهل السنة ينكرون ما يسمى بالروحانية أو الكشف عند الصوفية، مع أن أهل السنة أحرص الناس على تصفية نفوسهم وتنقيتها ومحاسبتها، ولكن على منهج صحيح وفق الكتاب والسنة.
    أيضاً هم وسط بين أدعياء الزهد (المُتفقِّرة)، فـالصوفية من أعظم أوصافهم القديمة أنهم الفقراء أو (المتفقِّرة)، ويزعمون أن هذا أعظم اسم وأعظم صفة لهم، سبحان الله! وهذا الوصف بذاته -الفقر- منزلة أو مقام يسعى إليه أكثر من ثلاثمائة مليون في الهند من عباد البقر، ممن هم فقراء لا يجدون طعام يومهم.
    والفقر ليس ميزة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بالله من الفقر.
    الشاهد من هذا: أن الصوفية يسمون أنفسهم: الفقراء، وقد أطلقوا على الحشيش -النبات المخدر- حشيشة الفقراء؛ لأن أول من اكتشف التخدير في الحشيش هم الصوفية الهنود، عندما كانوا يقصدون الغابات؛ للسير في الأرض، وجعلوا يتجولون ويتركون الطعام والشراب، ويدعون الزهد والفقر، ويقتاتون على النباتات البرية، فوجدوا هذا النبات الذي إذا أكلوا منه شعروا بلذة عجيبة، وخيالات وكشوفات، وشعروا بالنشاط لفترة معينة من الزمن، وإن كانت بعد ذلك تهلكهم، ثم عرفها الناس عن طريقهم، فنسبوها إليهم وسموها: حشيشة الفقراء، ثم اختصر الاسم وقيل: الحشيشة ؛ لأنهم كانوا يأكلونها كما تأكل الدواب الحشيش، فكان هذا قوتهم.
    فـأهل السنة وسط بين هؤلاء الذين يدعون الفقر، وبين المترفين -الذين هم أبعد الناس عن ذكر الموت والدار الآخرة- الذين ينغمسون في الشهوات والملذات، والترف والبذخ، فـأهل السنة وسط بين هؤلاء وبين هؤلاء.
    إذاً: أهل السنة وسط في السلوك والمعاملات والأخلاق.
    ينسب إلى المسيح عليه السلام -كما في الأناجيل- أن دينه دين المحبة والسلام والعفو والصفح، ولذلك فإن كثيراً من الصوفية أخذوا هذا الأصل -وهو المحبة واللين والرفق- منهجاً لهم، فهم لا يضربون من ضربهم، ولا يشتمون من شتمهم، ولا يخاصمون من خاصمهم، ويعفون عمن أساء إليهم، وهكذا، واليهود كان شأنهم الطمع والقسوة والجشع والعناد، فأرسل الله عيسى عليه السلام ليصلح حال اليهود، ويعلمهم التسامح والكرم واللين واللطف، حتى نسبوا إليه أنه قال: إذا لطمك أحد على خدك الأيمن، فأدر له خدك الأيسر، وهذا مثال يعلمهم من خلاله الحلم، وقد أخذ بهذا المبدأ بعض غلاة المتصوفة، فأصبحوا يعرضون أنفسهم للذل، فيشمت الناس بهم، ويشتمهم الصغار والكبار، ويذلونهم، وهم يقولون: نحن نعفو ونصفح مهما حصل.
    وفي الجانب الآخر أخذ بعض أهل البدع -كـالخوارج وأمثالهم- صفة الانتقام والبطش والفتك، فكل من اعترض عليهم أو تكلم فيهم أو جرحهم بأمر؛ اغتالوه أو قتلوه، أما أهل السنة والجماعة فإنهم يجمعون بين العزة وبين الرحمة والعفو والصفح، فيتمسكون بعزة المؤمن: ((وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ))[المنافقون:8]، وفي نفس الوقت يعفون عند المقدرة، ويصفحون مع الاستطاعة على العقوبة.
    وهكذا هم في جميع الأحوال، فهذا هو شأنهم، وإمامهم في ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو المثل الأعلى في هذه الأخلاق الكريمة الفاضلة.
    وهناك أيضاً ظاهرة يتميز بها أهل السنة والجماعة، ويراها كل من يقرأ تاريخهم وينظر إلى أحوالهم، وهي أنهم دائماً يراعون حق الله، لا حق أنفسهم أو ذواتهم، فعندما يحكمون على شخص، يحكمون عليه بما يحكم عليه به الله ورسوله، وعندما يَزِنون فكرةً أو مبدأً، يَزِنُونَهَما بما قاله الله ورسوله.
    وأما أهل البدع، فينظرون إلى الناس من خلال نظرة الناس إليهم، حتى قال بعض أئمة الأشعرية : (نحن لا نكفر إلا من كفرنا)، وأهم شيء لدى أهل البدع (ماذا قيل فينا؟!) لكن أهل السنة والجماعة لا يكفرون من لم يبلغ درجة الكفر حتى ولو كفرهم، وإذا حكموا عليه فإنهم يُحكمون الكتاب والسنة، فإذا أرادوا أن يحكموا على شخص فإنهم يحكمون عليه من خلال حكم الدين عليه، حتى وإن تكلم فيهم، فإن عفي عنه وصُفح فالحمد لله، وإن كان ولا بد من عقوبة، فإنهم ينظرون في هذه العقوبة: ما حكمها في الدين؟ فـأهل السنة لا يتأثرون، ولا ينتقمون لأنفسهم؛ لأن هذه ليست من صفات وأخلاق أهل السنة والجماعة، فهم يراعون أحكام الله، ويراعون حدود الله، ويلتزمون بذلك، ولا ينظرون إلى أحد كائناً من كان، مهما خالفهم أو اتبعهم أو وافقهم أو أحبهم، فهم يزنونه دائماً بميزان الإسلام.. ميزان الإنصاف، ولهذا فإن الأئمة الكبار من أئمة أهل السنة والجماعة المقتدى بهم، المجمع على جلالة منزلتهم في العلم والتمسك؛ لو أخطأ أحدهم في حديث؛ لقالوا: أخطأ في حديث، ولو حكم على راوٍ أنه ضعيف، ورأى أحد من أهل السنة أنه ثقة، لقال: فلان ثقة، وكذلك العكس، لأن الأحكام دائماً تصدر بميزان الحق، لا بميزان الهوى.
    وهذا يذكرنا بالقضية التي تعرضنا لها من قبل، وهي قضية الانتماء لـأهل السنة والجماعة، فمن العلامات التي تميزهم في كل زمان ومكان أنهم لا يعظمون شخصاً غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينتسبون إليه، فلو أراد أحد -مستشرق مثلاً- أن يتتبع أهل السنة ؛ هل هم الحنابلة أو الوهابية أو التيمية..؟ فلا يمكنه أن يحدد من هم!! بخلاف الفرق الأخرى، فـالأشعرية نسبة إلى أبي الحسن الأشعري، والمعتزلة نسبة إلى اعتزال واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، والشيعة غاية ما يقولون عن أنفسهم أنهم شيعة علي، وهم كاذبون، والصحيح أنهم شيعة عبد الله بن سبأ، ولنفرض مثلاً أنهم من شيعة علي، فأين من ينتسب إلى علي ممن ينتسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ولا يجوز أصلاً للمسلمين أن ينتسبوا إلى أي شخص، فلا يصح أن ننتسب إلى أبي بكر أوعمر، أو إلى أي أحد من البشر، إنما نقول: نحن مسلمون؛ لأن الإسلام هو دين الرسول صلى الله عليه وسلم ودين الأنبياء جميعاً.
    لكن الفرق والطوائف الأخرى تنسب إلى الأشخاص كما تقدم، وكـالقادرية نسبة إلى عبد القادر الجيلاني، والنقشبندية، والحتمية ... وغيرها من الفرق التي تتسمى بأسماء أشخاص مؤسسين لها.
    وقد تكون التسمية نسبة إلى مبدأ، فمثلاً: فـالوعيدية نسبة إلى الوعيد، والقدرية نسبة إلى نفي القدر، لكن أهل السنة نسبتهم ربانية وكتابهم رباني؛ فهم ينتسبون إلى الإسلام، ويجمعهم أنهم مسلمون، وأنهم ملتزمون بكتاب الله تعالى و سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
    ولعلنا بذلك قد أعطينا فكرة وافية عن صفات ومميزات وخصائص أهل السنة والجماعة . ونعود إلى كلام الشيخ رحمه الله تعالى الذي عقب به على أحاديث الفرق.