المادة    
وبعد ظهور الشيعة ظهرت الفرقة الثالثة، وهي القدرية، وقد سبق الحديث عنها في مسألة القدر، وقد ظهروا في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم، أي أنهم ظهروا -حقيقة- في زمن التابعين، ولم يكن في ذلك الزمن إلا صغار الصحابة كـابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، وحديث عمر المشهور في سؤال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم رواه ابن عمر عن أبيه حين جاءه من يسأله عن الذين خرجوا بـالبصرة ينكرون القدر؛ فكان هذا سبباً لإيراد ابن عمر للحديث.
وقد ذكرنا أن أول من أظهر الكلام في القدر هو معبد الجهني فيالبصرة، وغيلان الدمشقي في دمشق، ومذهب القدرية قد شرحناه سابقاً.
ثم ظهرت بعد ذلك المعتزلة والمرجئة، وقد ظهرتالمرجئة كردة فعل لظهور الخوارج، فهما فرقتان متقابلتان، فلم يظهر التصريح بالإرجاء في عصر الصحابة وإنما ظهر متأخراً نسبياً، بما يقارب ظهور المعتزلة.
  1. أصول الاعتزال

    وأول من أظهر الاعتزال هو واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، حيث اعتزلا حلقة الحسن البصري، عندما أثارا مسألة مرتكب الكبيرة: هل هو كافر أم مؤمن؟ وهي من المسائل التي أثارها الخوارج، واستمر الحديث والكلام عنها منذ عهد الخوارج، فكان أهل السنة من الصحابة والتابعين يبينون للناس أن مرتكبي الكبائر مؤمنون، وكان الخوارج ينشرون خلاف هذا، وكان الحسن البصري ممن بين الحق في هذه المسألة، لكنه أتى بقول لم يقصد به ما فهمه أولئك.. قال: (إن المرء إذا قال: أنا مؤمن، ثم زنى وسرق، وفعل ما حرم الله، فهو منافق؛ قد ادعى الإيمان، وأظهره بلسانه، وخالف ذلك بأعماله، وهذا نفاق)، فاختلف تلاميذه، وأخذوا يدوكون، فقالوا: قل قصد الحسن بذلك أنه منافق خرج من الملة أم لم يقصد ذلك؟ وكان في الحلقة واصل بن عطاء، فقال: ليس هذا هو القول الحق، بل مرتكب الكبيرة كافر، ولابد أن نصرح ونقول: هو كافر، ثم أخذ يفكر هو ومن معه، فقالوا: لو قلنا: إنه كافر، لاعترض علينا الناس، ولكن نقول: هو كافر في أحكام الآخرة؛ مخلد في النار، أما في الدنيا فلا نسميه كافراً ولا نسميه مؤمناً، بل نقول: هو في منزلة بين المنزلتين، فاتفقوا على هذا الرأي، ثم نشروه في الآفاق.
    وبعد أن أحدث المعتزلة ما أحدثوه في مسألة الإيمان ومرتكب الكبيرة، ضموا إلى ذلك مذهبهم الخبيث في القدر -لأن القدرية في الأصل هم المعتزلة، والمعتزلة هم القدرية- وأخذوا مقالة معبد الجهني، وأضافوها إلى ما قالوه في مرتكب الكبيرة، وقالوا: إذا أثبتنا أن الله كتب المعاصي وقدرها، فكيف يعاقب من يرتكبها؟! فأنكروا القدر، فسموا قدرية؛ لإنكارهم القدر، وسموا معتزلة؛ لاعتزالهم مجلس الحسن البصري، واشتهروا بذلك، فضموا هذا الأصل الخبيث إلى ذلك الأصل.
    ثم أتوا بأصل خبيث ثالث، أخذوه عن الجعد بن درهم، وهو إنكار الصفات، وقد أظهر الجعد هذه المقالة الخبيثة بعد أن أخذها عن بعض فلاسفة اليهود أو عن بعض الصابئين، وقال: إن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، فضحى به خالد بن عبد الله القسري رحمه الله في يوم عيد الأضحى، وأزهق تلك الروح الخبيثة، ولكن مقالته كانت قد انتشرت، فجاء المعتزلة بما لديهم من تأثر بـالصابئين والفلاسفة، فضموا إلى أصولهم هذا الأصل الثالث، وهو إنكار صفات الله سبحانه وتعالى، ثم تطور مذهبهم حتى أصبح مبنياً على الأصول الخمسة، التي هي في الحقيقة لا تخرج عن هذه المبادئ الثلاثة، وانتشر مذهب الاعتزال، ولكن بقي مذهباً فكرياً، فـالمعتزلة أصحاب فكر، وعقيدتهم إنما هي فكرة وفلسفة، وهي تناقش لدى المشتغلين بالجدل، وفي إطار المثقفين فقط -كما يقال- واستمر هذا إلى القرن الرابع.
  2. تبني الشيعة لمذهب المعتزلة

    وفي القرن الرابع حصل تحول خطير في اتجاه الاعتزال، وهو انضمام المعتزلة إلى الشيعة، مع أن قدماء المعتزلة كانوا يخالفون الشيعة، فقد كانوا يرون ما هو أقرب إلى مذهب الخوارج في الذين اقتتلوا من الصحابة في يوم الجمل ويوم صفين؛ وهو: أن كلتا الطائفتين فاسقة، أو كافرة، ولكن فيما بعد تسرب التشيع إلى المعتزلة، وتسرب الاعتزال إلى الشيعة، ثم حصل بين الفرقتين الوئام التام في القرن الرابع تقريباً.
    وسبب ذلك: أن الشيعة كانت مجرد جماهير بلا فكرة وبلا عقيدة، فليس لديها ما تقدمه للناس ليعتقدوه إلا القول بأفضلية علي، أو بوجوب إمامة علي، أو بالحلول، أو بالاتحاد، وهذه كلها لا يقبلها عامة الناس، ولهذا فإن الشيعة في القديم والحديث ينشرون دينهم بالعاطفة لا بالعقل؛ لأنه ليس لديهم فكرة معقولة مقنعة حتى يقولوها، رغم ما حصل منهم من تبنٍ لعقيدة المعتزلة، وإلى يومنا هذا هم أضعف الناس عقلاً وفكراً، ولهذا لا يستطيعون أن يواجهوا المخالف، ولا يستطيعون أن يقولوا: إن عقيدتنا في الصحابة كذا وكذا، ومن له اعتراض فليناقشنا.
    ولو ذكر لعالم من علمائهم بعض ما في كتابهم الذي يعتبرونه أصح كتاب عندهم، وهو الكافي، لقال: هذا الكتاب غير معترف به عندنا؛ لأنه سيلزم بما في الكافي من معتقدات؛ مثل: أن الأئمة يعلمون الغيب، وأن الأئمة يعلمون ما كان وما سيكون، ولا يموتون إلا بإذنهم، وأنهم أفضل من الأنبياء؛ فإن هذا لا يعقل، ولا يوجد مسلم يقول مثل هذا الكلام، فلو قيل له ذلك لأنكر أن الكافي معتمد عندهم، ولقال: نحن نريد أن نتعاون نحن وإياكم على أمريكا وإسرائيل، وهذه الخلافات لا يجب الخوض فيها في هذا الوقت..!!
    فلا يستطيع أن يواجه؛ لأنه يجد نفسه أمام حجة وإقناع.
    لكنهم ينشرون مذهبهم بأن يأتوا إلى العامة، ويقيموا مناحة، ثم يغنوا القصائد الطويلة، ويبكوا، فإذا بكى الشيخ، بكى الطلاب، وبكى العامة بكاءً شديداً، ومرة ثانية وثالثة، فيستمر البكاء على علي وعلى الحسين، وعلى ما جرى لهما، وعلى فاطمة، وكيف تضرب وتهان مع أنها بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! وهكذا يبكي الناس، فينتج عن ذلك أن يجتمع الناس في هذه المناحات، ويحبون هذا الشيخ، ويكرهون أهل السنة ؛ لأنهم ضربوا فاطمة، وقتلوا الحسين، وقتلوا علياً.
    فلا يستطيع الشيعة إثبات عقيدتهم، ولا يستطيعون المواجهة، ولذلك فليس لديهم إلا التقية.
    فلما أظهر الله السنة على يد الإمام أحمد، وجاء المتوكل وعاد إلى السنة، وأمر أن يحبس المعتزلة في جميع الأمصار وأن يعذبوا، وهذا بعكس ما كان عليه المعتصم، وارتفعت راية السنة في كل مكان؛ فوجد أولئك الأعداء أنه لابد أن يوحدوا صفوفهم، فالتقى الرافضة مع المعتزلة، فأخذ الرافضة عقيدة المعتزلة ؛ لأنه ليس لديهم عقيدة في الأصل، وقالوا: إن عقيدة المعتزلة أصلها مأخوذ عن أهل البيت؛ لأن زيد بن علي بن الحسين تتلمذ على واصل بن عطاء، فنحن عندما نعتقدها لا نعتقدها على أنها عقيدة واصل، ولكن لأنها عقيدة زيد بن علي، إذاً: نحن نأخذها من أهل البيت، وهم معصومون، وزيد من الأئمة المعصومين، فأخذوا عقيدة المعتزلة، وأسندوا كل شيء يرون أن عوامهم لا يقبلونه من العقائد إلى آل البيت، فيقبلونه، فأصبحت عقيدتهم في صفات الله وفي القدر هي عقيدة المعتزلة، وبقوا على عقيدتهم هم في الصحابة وفي غيرها من الأمور، وهي عقيدة الرافضة، فكان في هذا التحول نشراً لعقائد المعتزلة، فحيثما وجدت الشيعة وجدت المعتزلة، إلى زماننا هذا؛ سواء في ذلك الشيعة الإمامية أوالشيعة الزيدية، فكلتاهما تعتقد عقائد المعتزلة، إلا أنهم يختلفون مع المعتزلة في مسألة واحدة فقط، وهي: مسألة الإمامة، فأولئك يحصرونها في أهل البيت، وأما المعتزلة -أو أكثرهم- فإنهم لا يرون ذلك الحصر.
    أما بقية المسائل فهم على مذهب المعتزلة، فيتفقون معهم في القدر وإنكار الصفات، ولهذا ألف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ذلك الكتاب العظيم الذي رد به على الرافضة وهو: منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية؛ حيث كان هذا الذي يسمي نفسه ابن المطهر الحلي يقول: إن أهل السنة وقعوا في التجسيم والتشبيه، وأما الشيعة فيعتقدون في الله التنزيه، وينفون عنه المشابهة، ويذكر مذهب المعتزلة في نفي الصفات وكذلك في القدر وفي غيره، فرد عليه شيخ الإسلام رحمه الله.