المادة    
وأول فرقة مستقلة ظهرت ولها مذهب اعتقادي، أرادت أن تنشره وأن تفرضه -غير هؤلاء المندسين الذي أظهروا زندقتهم باسم التشيع- هم الخوارج، ولم يكن بين ظهورهم وبين ظهور الشيعة كبير فرق، لكن الخوارج ظهروا كفرقة مستقلة متميزة، وأسسوا كياناً منفصلاً عن جسم الأمة الإسلامية، حيث خرجوا على علي رضي الله عنه بعد قصة التحكيم، وانحازوا عنه، ثم اختاروا عبد الله بن وهب الراسبي أميراً عليهم وخلعوا عليه لقب (أمير المؤمنين)، فكانوا بذلك أول فرقة تنفصل انفصالاً تاماً في عقيدتها، وفي إمارتها عن الجسد الإسلامي الواحد.
  1. بذرة النشأة وأساس الفكرة للخوارج

    وجدت بذرة الخوارج في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان منبع الخوارج وأساس فكرهم -في الجملة- الذي انبثق منه: هو الغلو والاعتراض على السنة بالرأي، لا من جهة الرد، ولكن من جهة الغلو؛ لأن هناك من يعترض على السنة من جهة الرد لشهوة أو لهوى، وهناك من يعترض على السنة من جهة الغلو، فيرى أن السنة لا تكفي لما يريده من تدينه الموهوم، وأول من أتى ببدعة الخوارج أو وضع بذرة الخوارج هو: ذو الخويصرة، الذي أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن قسم الغنائم يوم حنين، فعجب هذا الرجل كيف يعطي الرسول صلى الله عليه وسلم الأقرع وعيينة وأمثالهم من زعماء بني تميم وغطفان -ممن هم حديثو عهد بالإسلام- المئات من الإبل والآلاف من الشاء، ويمنع المهاجرين والأنصار وهم أهل السابقة والفضل في الإسلام! فقال -قبحه الله- كلمة عظيمة لو مزجت بماء البحر لمزجته قال: (اعدل يا محمد!) أو قال: (إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله)، فاعترض على النبي صلى الله عليه وسلم في قسمته وسنته -من باب الغلو، وأنه يريد العدل، فقد رأى أن هذا ليس عدلاً- فغضب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك؛ إذ كيف يعترض عليه صلى الله عليه وسلم وهو الذي لا ينطق عن الهوى؟!
    فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {ويلك! فمن يعدل إن لم أعدل؟!}، من يعدل إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جائراً أو لا يبتغي وجه الله؟! من الذي سيعدل بعده صلى الله عليه وسلم؟! ومن ذا الذي يبتغي وجه الله أكثر منه صلى الله عليه وسلم؟!
    ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في رواية أخرى : {يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم}، فكانت هذه إشارة إلى الخوارج الذين ظهروا فيما بعد، والذين سلكوا نفس الاتجاه وهو الغلو الذي لا أساس له من السنة، والذي لا يمكن أن يكون موجوداً في الواقع، وإنما هي نظرة مثالية جانحة عن الحق وبعيدة عن القصد السوي في الأمور، ولهذا لما ناظرهم ابن عباس قال: ما تنقمون على علي؟ ولماذا تخرجون عن إمرة أمير المؤمنين، وتنفصلون عن جماعة المسلمين؟ قالوا: نريد إماماً مثل عمر، إن جئتمونا بمثل عمر بايعناه وأمَّرناه ودخلنا في طاعته، فـالخوارج يرون أن سيرة الشيخين هي السيرة المحمودة فقط، أما عثمان وعلي، فيرون أنهما قد انحرفا وضلا، بل كفرا وارتدا، ويطالبون بمثل عمر، وأنى لهم بمثل عمر! مع أنه ليس في الأمة آنذاك أفضل من علي رضي الله عنه بإجماع الأمة، إلا ما كان من خلاف من أهل الشام، فلما لم يجدوا مثل عمر، قالوا: إذاً لا نبايع، فاختاروا عبد الله بن وهب الراسبي ليكون لهم كما كان عمر رضي الله عنه، وليس هو بصحابي، ولا له سابقة، ولا فضل، بل هو كما قال ابن حزم : (هو أعرابي بوال على عقبيه)، هذا الذي بايعوه ورضوه إماماً! وهكذا الغلو يؤدي -وإن كان أصله الحرص على مزيد من التدين والتقوى- إلى الإجحاف والانحراف، وإلى ما لا يليق بأهل القصد فضلاً عمن فوقهم.
  2. موقف الصحابة من الخوارج

    هذه هي بداية ظهور الخوارج، وكان موقف الصحابة منهم أنهم ناظروهم بالحجة -ابتداءً- ثم لما لم تُجدِ الحجة قاتلوهم، وقد نصر الله تعالى الصحابة رضوان الله عليهم في قتالهم مع الخوارج، وفرح علي فرحاً شديداً بهزيمتهم ومقتلهم، وفرح معه الصحابة رضوان الله عليهم، وكان في ذلك كرامة لأمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه؛ حيث أمرهم أن يبحثوا عن ذي الثدية، وهو أحد زعماء الخوارج، كان في عضده اليسرى مثل الثدي الصغير (ثُدية)، فقال لهم: أين ذو الثدية ؟ ابحثوا عنه في القتلى، فلم يجدوه في أول الأمر، فقال: [[والله ما كَذبتُ ولا كُذبت]] أي: ما كَذبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذب عليَّ، وأمرهم أن يعيدوا البحث، فذهبوا إلى ساقية كان فيها عدد من القتلى، فبحثوا فوجدوه تحتهم، فجاءوا به إليه فلما رآه قال: [[صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم]].
    وكان ذلك كرامة لـعلي رضي الله عنه، وبشرى للصحابة ولمن معه، حيث فرحوا أن الله نصرهم على هذه الفرقة المارقة المخذولة، ثم استمر الخوارج خلال التاريخ حتى قامت لهم دول، فكانت لهم دولة في بلاد فارس، وكذلك دولة في بلاد المغرب، وفي عصر بني أمية اشتدت شوكتهم في زمن الحجاج، وكانت لهم مواقع كثيرة جداً مع الحجاج، واشتهر في قتالهم القائد المعروف: المهلب بن أبي صفرة .
  3. مذهب الخوارج الاعتقادي

    ومذهبهم الذي ينافحون عنه ويدعون إليه هو: أن من ارتكب كبيرة أو أتى معصية فقد كفر وخرج من الملة، هذه هي أهم قضية نادى بها الخوارج في ذلك الوقت من مرحلتهم الأولى، ولم يكونوا يقصدون بأهل الكبائر الذي يزني أو يشرب الخمر من عامة الناس؛ بل الأدهى من ذلك أنهم كانوا يقصدون عثمان وعلياً، ومن كان معهم من الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً، فيقولون: إنهم انحرفوا عما كان عليه الشيخان، أو تجاوزوا في كذا وكذا، فكان ذلك التجاوز -في نظرهم- كبيرة ومعصية، وهذه المعصية كفر، فكفروا عثمان وعلياً وسائر الصحابة، وغيرهم، إلا من كان على مذهبهم.
  4. فرق الخوارج

    وأول الخوارج الذين أظهروا ذلك الغلو سُموا: المحكمة :؛ وهم الذين خرجوا بعد حادثة التحكيم على علي رضي الله عنه، ثم خرج نافع بن الأزرق، وكان نافع من أصحاب الهوى والغلو، ومع ذلك كان يظهر الحرص على الخير والعلم والحق، وقد اشتهر بسؤالاته لـابن عباس رضي الله عنهما -منها ما صح، ومنها ما لم يصح- وخرج نافع وأسس الفرقة المشهورة من الخوارج وهي الأزارقة نسبة إليه، وكان من أتباعه نجدة بن عامر الحنفي، ثم انشق نجدة عن جماعة نافع وكفره ومن معه، فسمي هو وأصحابه النجدات، ثم خرجت الإباضية، وانشقت عن نجدة وعن نافع، وهي نسبة إلى عبد الله بن إباض التميمي، ثم تشعبت فرقهم وانقسمت إلى عدة فرق، منها: الثعالبة، والعجاردة... وغيرها من الفرق الكثيرة، وأكثر هذه الفرق -إن لم يكن كلها- يكفّر بعضها بعضاً، فإن أدنى خلاف يقع بينهم يجعلهم يكفر بعضهم بعضاً؛ بسبب هذه العقيدة الخبيثة وهي: أن مرتكب الكبيرة مرتد.
    وهذا الأصل من الأصول الباطلة.. وحتى لو سلمنا أن رجلاً مثل عثمان وعلي رضي الله عنهما ومن كان معهما -وحاشاهم من ذلك- أو أي مسلم -ولو في آخر الزمان- يرتكب كبيرة، فإنه لا يكفر، والأدلة على ذلك جاءت في صريح كتاب الله، وما صح من سنة النبي صلى الله عليه وسلم من أحاديث لا تحصى ولا تعد، مثل قول الله تعالى: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا))[الحجرات:9]، فسماهم مؤمنين، مع اقتتالهم، لكن الخوارج قالوا: من قاتل أخاه المؤمن فهو كافر، ولهذا يقاتلون المسلمين على أنهم كفار ويستحلون دماءهم وأموالهم.
    ولو نظرنا إلى الزاني وشارب الخمر والسارق، لوجدنا أن الله قد شرع في حقهم حدوداً، فالزاني البكر يجلد، والسارق تقطع يده، فلو أن هذه الذنوب تكفر صاحبها وتخرجه من الملة؛ لكانت العقوبة واحدة لكل من فعل ذنباً من هذه الذنوب، وهي القتل؛ لأنه هو حد الردة، لكننا نجد عكس هذا في القرآن، ونجد -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد شارب الخمر، بل وقال في أحدهم : {إنه يحب الله ورسوله} ونجد أنه بعد أن رجم ماعزاً والغامدية أثنى عليهما خيراً رضي الله عنهما.
    فهذا وغيره من الأحاديث الصحيحة الثابتة المتكاثرة تقطع بكذب وبطلان الدعاوى التي ادعاها الخوارج.