المادة    
قال رحمه الله: [جمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض]، وهذا لحكمة بالغة استخرجها المصنف رحمه الله فقال: [لأن فساد الدين: إما في العمل، وإما في الاعتقاد؛ فالأول من جهة الشهوات، والثاني من جهة الشبهات].
فالآية أوضحت حالنا ومشابهتنا لمن قبلنا من الأمم، وأننا: إما أن نخوض في أمر الدين والعقيدة مثلما خاضوا، وهذا الفساد من جهة الشبهات.
وإما أن نعمل مثلما عملوا، أي: في الاستمتاع بالشهوات، وهذا يجلب فساداً من جهة الشهوات.
فهلكت الأمم قبلنا -ممن أنزل الله تبارك وتعالى إليهم الكتاب- بمثل ذلك، وحذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبرنا -كما في الأحاديث- أننا سنقع في مثل ذلك من الاستمتاع بالشهوات، ونسيان الآخرة.
  1. هوان الدنيا

    ولنتأمل قوله تعالى: ((كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ))[التوبة:69] فكم خلاقهم من هذه الدنيا؟! {لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء}. فكم سيكون نصيب الواحد منا من جناح البعوضة؟! وكم سيكون نصيب أمريكا من جناح البعوضة، إذا كانت كل الدنيا بما فيها -مذ خلقها الله إلى أن يرثها ومن عليها- لا تعدل جناح بعوضة؟ ومع ذلك يتهافت الناس عليها، وقد خاض فيها الأولون: الفراعنة، والآشوريون، والبابليون، والفينيقيون، والكنعانيون، وأمم غيرهم، كما يقول ربنا تعالى: ((وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا))[الفرقان:38]، ويقول وقوله جل ذكره: ((وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ))[إبراهيم:9]، وأمم نعلمهم وأمم لا نعلمهم، ثم جاءت من بعدهم الأمتان: فارس والروم، فخاضوا، ثم جاءت هذه الأمة فخاضت كما خاضوا.. شهوات، ومتاعاً، واشتغالاً بزخارف الحياة الدنيا، ونسياناً لله وللآخرة.
  2. التحذير من فتنة الدنيا

    جاء أبو عبيدة رضي الله عنه بمال من البحرين، فاجتمع عند النبي صلى الله عليه وسلم جمع غفير من الصحابة على غير العادة، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: {لعلكم سمعتم أن أبا عبيدة قد قدم بمال من البحرين... ثم قال: والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا كما فتحت على الذين من قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم} ،لقد خشي النبي صلى الله عليه وسلم علينا من الاستمتاع بالخلاق كما استمتع الذين من قبلنا بخلاقهم، أشد مما خشي علينا من الفقر.
    فإن الفقر قد يُكسب الإنسان حسن الخلق، وقد يحمله على الإحسان إلى الآخرين، والشعور بحاجة إخوانه المسلمين.
    لكن في حالة الغنى يكثر التحاسد والتنافس، حتى إن الذي يملك الملايين يحقد على الذي يملك أكثر منه، وينسى نعمة الله عليه بأن فضّله على كثير ممن لا يملك قوت يومه، وتراه يفكر في الشركة المنافسة -أو الأشخاص المنافسين- ليتغلب عليهم أو يدمرهم.. حتى يضطر أحدهم إلى أن يجمع الحلال مع الحرام لينافس ذلك الآخر.
    وهذا مع الأسف قد أصبح ديدن المسلمين وشأنهم اليوم، يفكرون في جمع أكبر كمية من المال، وتحقيق أكبر إنجاز في المبيعات والربح، دون النظر إلى مشروعية هذه الأرباح.
    فتكون النتيجة أن يخسر الجميع، ويهبط سوق الجميع؛ لأن هذه هي سنة الله: {فتهلككم كما أهلكتهم}.