وفي قوله تعالى: ((
فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ))[التوبة:69] بيان لبداية الانحراف في كل الأمم، وهي أول مصيبة وقعنا فيها؛ وهي اتباعنا للأمم التي قبلنا، وهذه سنة ربانية في حياة الناس.
ومعنى قوله تعالى: ((
فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ))[التوبة:69] اشتغلتم بالشهوات، والتي هي نصيبكم من الدنيا وحظكم، فشغلتكم عن الله، وعن الموت والحساب واليوم الآخر، وعما أمامكم من الأهوال، فنسيتم ذلك، كما فعلت الأمم من قبلكم.
وقوله تعالى: ((
وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا))[التوبة:69] له معنيان:
المعنى الأول: أنكم خضتم كالخوض الذي خاضوه، والعائد المحذوف المقدر -وهو الهاء في (خاضوه)- يعود على الاسم الموصول (الذي) أي: خاضوا في أشياء، فخضتم خوضاًَ مثل خوضهم.
والمعنى الثاني: خضتم كالفوج أو الصنف أو الجيل الذي خاضوا، فتكون (الذي) هنا بمعنى الذين، فعلى الاحتمال الثاني يكون المعنى: خضتم كالذين خاضوا.
فيكون معنى الآية: إما أنكم شابهتم الخائضين، أو فعلتم فعل الخائضين؛ فالمعنيان متقاربان؛ وليس هناك كبير فرق بينهما إلا من ناحية الإعراب فقط.
ولأن الكاف هي بمعنى (مثل)؛ فيكون المعنى على الاحتمال الأول: فخضتم مثل خوضهم.. وعلى الاحتمال الثاني: فخضتم مثل الخائضين.
والخوض: هو الكلام أو العمل الباطل المتكلَّف الرديء، الذي لا برهان له ولا خير فيه، وإنما هو لغو وباطل.. وكلمة (الخوض) معناها على وجازتها أشمل وأدق، وهي كلمة يمكن أن يوصف بها كل عمل باطل لا قيمة له مما يتكلم به في أمر الدين، ولهذا نهى الله عن الجلوس مع الذين يخوضون في آيات الله طعناً واستهزاءً، قال تعالى: ((وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ))[الأنعام:68]، وغير المسلمين كل حديثهم خوض -وهذا مفهوم من الآية- إلا أنه يكون في أحد أمرين:
إما أن يكون في آيات الله، وهذا الذي أمرنا الله بالابتعاد عن أصحابه والإعراض عنهم.
وإما أن يكون في أمور الدنيا، وهذا لا بأس في الاستماع إليه.
وكلا الأمرين خوض ولغو؛ لأنهما مقطوعا الصلة بالآخرة.
لكن المؤمنين المسلمين إن تكلموا في الدين فبالدليل، وإن تكلموا في الدنيا فليس بخوض؛ ما داموا مؤمنين؛ لأنه فيما يعينهم على طاعة الله، ويقربهم إليه.