المادة    
قال المصنف رحمه الله:
[وقال تعالى: ((فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا))[التوبة:69] الخلاق: النصيب، قال تعالى: (( وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ ))[البقرة:200] أي: استمتعتم بنصيبكم من الدنيا كما استمتع الذين من قبلكم بنصيبهم، وخضتم كالذي خاضوا، أي: كالخوض الذي خاضوه، أو كالفوج، أو الصنف، أو الجيل الذي خاضوا.
وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض، لأن فساد الدين: إما في العمل، وإما في الاعتقاد، فالأول من جهة الشهوات، والثاني من جهة الشبهات]
ا.هـ.
  1. معنى الخلاق

    الشرح:
    يذكر المصنف رحمه الله الأدلة على افتراق هذه الأمة واتباعها لمن قبلها من الأمم، ويذكر قول الله تبارك وتعالى: ((فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا))[التوبة:69]، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كلام أوسع من هذا في تفسير الآية بين فيه أن الشبهات والشهوات مصدر الشر.
    يقول المصنف رحمه الله: [الخلاق: النصيب]، واستدل على ذلك بآية البقرة التي توضح آية التوبة، وهي قوله تعالى: ((وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ))[البقرة:200] أي: وما له في الآخرة من حظ، ومن المعلوم أن المؤمن الموحد له في الآخرة خلاق، وإن كان بعد أن يعذَّب؛ لأنه قد يعذب في النار ما شاء الله إن لم يُعف عنه، وإن لم يشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره؛ لكن مصيره إلى الجنة في النهاية، أما الذي ليس له في الآخرة من خلاق، فهو الكافر، كما قال تعالى: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ))[هود:16]، وهم الكفار، الذين ليس لهم إلا النار، ولا يمكن أن يكون ذلك للمؤمنين الموحدين أبداً.
  2. من دعائهم تعرفونهم

    الناس في منصرفهم من الحج صنفان:
    الصنف الأول: ((وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ))[البقرة:201]، وهؤلاء هم أهل الإيمان.
    وأما الصنف الآخر فهم الذين يقولون: ((رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ))[البقرة:200].
    فالذي يقول: اللهم أعطني وارزقني في الدنيا، وليس له في الآخرة خلاق، فهذا لا يكون مسلماً؛ لأن هذا هو دعاء كفار قريش عندما كانوا يحجون؛ فقد كانوا يدعون الله ويسألونه البركة، والرزق، وكثرة الأولاد، والانتصار في الحروب، ولا يدعون الله فيما يتعلق بأمر الآخرة، وقد سألت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان فقالت: {كان يكرم الناس، ويقري الضيف... فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين}.. فقد أخذ نصيبه في الدنيا.
    وكذلك المجاهد المرائي، والقارئ المرائي، والمنفق المرائي، فيقال للمجاهد المرائي: {إنما فعلت ليقال: جريء، وقد قيل}، ويقال للقارئ المرائي: {إنما فعلت ليقال: قارئ، فقد قيل}، ويقال للمنفق المرائي: {إنما فعلت ليقال: جواد، وقد قيل}، فالأعمال التي لا تكون لله، يأخذ صاحبها نصيبه في الدنيا.
    ومن جملة الأدلة على ذلك -غير ما ذكر الشيخ- قوله تعالى في شأن السحر : ((وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ))[البقرة:102]، فالذي يشتري السحر ويتعاطاه ويعلمه أو يتعلمه، حكمه الكفر؛ لأنه لو كان الساحر من أهل الإيمان والتوحيد لكان له حظ ونصيب.
    الشاهد: أن الله سبحانه وتعالى جعل لكل البشر حظاً من الدنيا ونصيباً منها؛ ولكن لا يجوز أن ينسيه ذلك العمل للدار الآخرة، كما قال تعالى: ((وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا))[القصص:77]، هكذا وعظَ عبادُ الله الصالحون ذلك العبدَ الذي أنعم الله عليه وكفر بنعمته وهو قارون.
  3. معنى قوله تعالى: (وخضتم كالذي خاضوا)

    وفي قوله تعالى: ((فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ))[التوبة:69] بيان لبداية الانحراف في كل الأمم، وهي أول مصيبة وقعنا فيها؛ وهي اتباعنا للأمم التي قبلنا، وهذه سنة ربانية في حياة الناس.
    ومعنى قوله تعالى: ((فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ))[التوبة:69] اشتغلتم بالشهوات، والتي هي نصيبكم من الدنيا وحظكم، فشغلتكم عن الله، وعن الموت والحساب واليوم الآخر، وعما أمامكم من الأهوال، فنسيتم ذلك، كما فعلت الأمم من قبلكم.
    وقوله تعالى: ((وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا))[التوبة:69] له معنيان:
    المعنى الأول: أنكم خضتم كالخوض الذي خاضوه، والعائد المحذوف المقدر -وهو الهاء في (خاضوه)- يعود على الاسم الموصول (الذي) أي: خاضوا في أشياء، فخضتم خوضاًَ مثل خوضهم.
    والمعنى الثاني: خضتم كالفوج أو الصنف أو الجيل الذي خاضوا، فتكون (الذي) هنا بمعنى الذين، فعلى الاحتمال الثاني يكون المعنى: خضتم كالذين خاضوا.
    فيكون معنى الآية: إما أنكم شابهتم الخائضين، أو فعلتم فعل الخائضين؛ فالمعنيان متقاربان؛ وليس هناك كبير فرق بينهما إلا من ناحية الإعراب فقط.
    ولأن الكاف هي بمعنى (مثل)؛ فيكون المعنى على الاحتمال الأول: فخضتم مثل خوضهم.. وعلى الاحتمال الثاني: فخضتم مثل الخائضين.
    والخوض: هو الكلام أو العمل الباطل المتكلَّف الرديء، الذي لا برهان له ولا خير فيه، وإنما هو لغو وباطل.. وكلمة (الخوض) معناها على وجازتها أشمل وأدق، وهي كلمة يمكن أن يوصف بها كل عمل باطل لا قيمة له مما يتكلم به في أمر الدين، ولهذا نهى الله عن الجلوس مع الذين يخوضون في آيات الله طعناً واستهزاءً، قال تعالى: ((وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ))[الأنعام:68]، وغير المسلمين كل حديثهم خوض -وهذا مفهوم من الآية- إلا أنه يكون في أحد أمرين:
    إما أن يكون في آيات الله، وهذا الذي أمرنا الله بالابتعاد عن أصحابه والإعراض عنهم.
    وإما أن يكون في أمور الدنيا، وهذا لا بأس في الاستماع إليه.
    وكلا الأمرين خوض ولغو؛ لأنهما مقطوعا الصلة بالآخرة.
    لكن المؤمنين المسلمين إن تكلموا في الدين فبالدليل، وإن تكلموا في الدنيا فليس بخوض؛ ما داموا مؤمنين؛ لأنه فيما يعينهم على طاعة الله، ويقربهم إليه.